خطبة: شكر النعم (الجزء 3)
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا، نحمده تعالى على فضله وإحسانه حمدا كثيرا، ونشكره سبحان وتعالى على نعمه التي أسبغ علينا بكرة وأصيلا.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، دعانا للتفكر في آلاء الله ونعمائه، وشكرها في قوله: “وأما بنعمة ربك فحدث”.
ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، سيد من عرف نعم الله فشكره عليها، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه المتمسكين بسنته السائرين على نهجه الشاكرين لنعمائه، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون، في الجمع الماضية تحدثنا عن موضوع شكر النعم، وبينا أركان الشكر الثلاثة وهي اعتراف العبد بنعمة الله عليه، والتحدث بها ظاهرا، وشكرها عن طريق الاستعانة بها على مرضاة الله سبحانه وتعالى، وعرجنا على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في شكر النعم، وقصصنا ما أخبرنا القرآن بشأنه من نموذج لقوم تنكروا لنعم الله عليهم فبدلوا بالنعمة نقمة حتى أصبحوا عبرة لمن يعتبر وأصبح المثل يضرب بهم جزاء كفرهم بنعم الله عليهم، وهم قوم سبأ.
واليوم بحول الله تعالى أقص عليكم قصة أخبرنا بها حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم لبيان فضل شكر النعم وعاقبة كفرانها، إنها قصة الأبرص والأقرع والأعمى وكلهم من بني إسرائيل، وهي كالتالي:
أخرج البخاري في صحيحه عن عبد الرحمن بن أبي عمرة أن أبا هريرة رضي الله عنه حدثه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى بدا لله عز وجل أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا فأتى الأبرص فقال أي شيء أحب إليك قال لون حسن وجلد حسن قد قذرني الناس قال فمسحه فذهب عنه، فأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا، فقال أي المال أحب إليك، قال الإبل أو قال البقر -هو شك في ذلك إن الأبرص والأقرع قال أحدهما الإبل وقال الآخر البقر-، فأعطي ناقة عشراء -أي قريبة الولادة-، فقال يبارك لك فيها وأتى الأقرع فقال أي شيء أحب إليك قال شعر حسن ويذهب عني هذا قد قذرني الناس قال فمسحه فذهب وأعطي شعرا حسنا قال فأي المال أحب إليك قال البقر قال فأعطاه بقرة حاملا وقال يبارك لك فيها وأتى الأعمى فقال أي شيء أحب إليك قال يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس قال فمسحه فرد الله إليه بصره قال فأي المال أحب إليك قال الغنم فأعطاه شاة والدا فأنتج هذان وولد هذا فكان لهذا واد من إبل ولهذا واد من بقرولهذا واد من غنم ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال رجل مسكين تقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا أتبلغ عليه في سفري فقال له إن الحقوق كثيرة فقال له كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا فأعطاك الله فقال لقد ورثت لكابر عن كابر فقال إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت، وأتى الأقرع في صورته وهيئته، فقال له مثل ما قال لهذا، فرد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت، وأتى الأعمى في صورته، فقال رجل مسكين وابن سبيل وتقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك، شاة أتبلغ بها في سفري، فقال قد كنت أعمى فرد الله بصري، وفقيرا فقد أغناني، فخذ ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله، فقال أمسك مالك فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك”.
هذا الحديث أيها الإخوة المؤمنون نموذج واقعي ورائع لحال الناس مع نعم الله، فالشاكر منهم يحصن النعم بالشكر فتدوم عليه، والكافر بها يعرضها للزوال فلا تعود إليه، قال الله عزّ وجلّ: “وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عذابي لَشَدِيدٌ”.
فاللهم اجعلني وإياكم من الشاكرين الذاكرين الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
الخطبة الثانية
أيها المؤمنون، إن أعظم ما نشكر به الله عز وجل الإيمانُ بالله تعالى وأداء فرائضه وواجباته والبعدُ عن محرّماته، ثمَّ شكر بقيّة النّعم إجمالاً وتفصيلاً. كما أنّ أعظمَ كفرانِ النّعم، الكفرُ بالرسالةِ بالإعراض عن الإيمانِ بالله وحده وتركِ فرائضِ الله وواجباتِه وفِعل المعاصي، ثمّ كفرانُ بقيّة النّعم.
فاتقوا الله عباد الله واشكروه على نعمه التي أسبغها عليكم بأداء ما أوجب عليكم وتجنب ما حرم عليكم، وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما.
الدعاء…