الطريقة البصيرية تخلد ذكرى عيد المولد النبوي الشريف بأنشطة علمية وروحية واجتماعية متميزة
إن من عظم المنة على هذه الأمة أن شرفها الله تعالى بسيد الخلق والأنبياء والرسل، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تفضلا منه ونعمة، فكان نعم الرسول سبيلا لتحقيق معاني الدين على الكمال.
ومن أجل السعي إلى ربط المسلم بحنين هذا الأنس الرباني، سطرت الطريقة البصيرية بزاوية سيدي إبراهيم البصير ببني اعياط إقليم أزيلال، برنامجا علميا وروحيا واجتماعيا متنوع المحطات والفقرات، لإذكاء معاني الشوق في الوجدان وإحياء بواعث العزم في القلوب لتتوجه لعلام الغيوب للعمل بمقتضيات الأحكام.
ولا سبيل إلى إدراك هذه المعاني إلا بميثاق الإقتداء والتحقق بالشمائل المحمدية، باعتبار أن سلوك المسلم لا يستقيم إلا على هذي الموافقة للسنة في الأقوال والأفعال والأحوال، وتحقيقا لهذه المقاصد السامية أحيت الطريقة البصيرية شهر ربيع النبوي لهذا العام 1436هـ\2015م ببرنامج مفصل في أربعة محاور أساس:
أولا : المحور العلمي
ثانيا : المحور التواصلي
ثالثا : المحور الروحي
رابعا: المحور الاجتماعي
ففي المحور الأول عرفت رحاب الزاوية البصيرية ومدرستها العتيقة يوم الأحد 05 ربيع الأول 1436 هـ الموافق لـ 28 دجنبر 2014م تنظيم الملتقى الخامس للمدارس العتيقة تحت شعار : ‘دور المدارس العتيقة في الحفاظ على ثوابت المملكة المغربية ” استدعي لهذا اللقاء العلمي الهام ما يربو عن 36 مدرسة للتعليم العتيق بالمنطقة الوسطى ، عرف حضورا مكثفا لمشرفي وطلبة هذه المدارس لإفادة ومناقشة رهانات منظومة التعليم العتيق ، وما تطرحه من تحديات معاصرة ، وما تستشرفه من أدوار مستقبلية في الحفاظ على كينونة دين المملكة المغربية من خلال المكابدة بترسيخ الثوابت المجمع عليها من كل المغاربة قيادة وشعبا وهي : العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي والتصوف السني وإمارة المؤمنين، والتي جمعها العلامة ابن عاشر المغربي في متنه : المرشد المعين على الضروري من علوم الدين بقوله:
في عقد الأشعري وفقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك
إلا إن هذا الملتقى انتبه إلى غياب الثابت الرابع في هذا النظم، فاستدركه من خلال منظومة أبدعها ابن الزاوية الباحث في تاريخها الدكتور كريم الجيلالي الذي نظم منظومة حاكى فيها منظومة ابن عاشر و أضاف إليها ثابت الإمامة العظمى داعيا إلى ضرورة إدراجها في البرامج التعليمية لطلبة التعليم العتيق.
وقد تشرف الملتقى بحضور صفوة من الأساتذة الباحثين الذين لبوا نداء الواجب الديني والوطني، فأتحفوا الحضور بمداخلات علمية قيمة قاربت موضوع الثوابت من زوايا مختلفة ومنهجيات متباينة، إلا أنها تنصهر في بوثقة واحدة وهي ترسيخ هذه الثوابت في الحياة اليومية لطلبة التعليم العتيق، إن على مستوى البرامج والمناهج أو طرق التدريس درءا لأي إنزلاقات أو انحرافات فكرية أو عقدية تؤثر سلبا في وحدة الأمة المذهبية والسلوكية والوطنية، وقد جاءت مداخلات السادة الأساتذة الأكاديميين حول هذه الثوابت متساوقة مع الكلمة التوجيهية التي افتتح بها هذا اللقاء العلمي الشيخ مولاي إسماعيل بصير، التي ركز فيها على أهمية هذا اللقاء الخامس لملتقى مدارس التعليم العتيق وعلاقته بالملتقيات السابقة، مؤكدا على أهمية شعار هذه الدورة، وهو الحفاظ على ثوابت الأمة التي أمست عرضة للتشويش والتشويه من قبل خصوم وحدة هذا البلد، الذي حباه الله منذ أكثر من مائة سنة ثوابت دينية حصنت وحدته الأخلاقية والسلوكية والتعبدية على كر الأيام ومر الأزمان، مبينا أن هذه الثوابت وإن كانت قد حظيت باهتمام مختلف الهيئات العليمة، فإن المسؤولية العظمى الملقاة على كاهل منظومة التربية والتعليم، والتي لن يقوم بها إلا معاهد ومدارس التعليم العتيق باعتبارها القلاع المنيعة المحصنة ضد تيارات التطرف والتزمت والإرهاب الأعمى، وبناء عليه – قال المدير المشرف للمدرسة السيد اسماعيل بصير- فإنه يجب على مختلف الفاعلين والمتدخلين في رسم خريطة التعليم العتيق من وزارة وصية ومؤسسات علمية ومشرفين، الوعي بهذا الدور الطلائعي لحماية كينونة الأمة في ماضيها وحاضرها ومستقبلها .
وقد تفاعلت مختلف التدخلات العلمية مع هذه الكلمة الوجيهة، فألحت جميعها على ما يحظى به التعليم العتيق من عناية ملكية سامية تؤهله ليقوم بدوره البناء في صيانة مقدسات البلاد وترسيخ هذه الثوابت من خلال تكوين علماء صالحين بفضل تشبعهم بعقيدتهم الأشعرية واطلاعهم على مبادئ المذهب المالكي وتربيتهم اليومية على المبادئ الوطنية والتصوف الجنيدي الذي كما أشار – الدكتور عبد المغيث بصير في مداخلته ” التصوف السني في مدارس التعليم العتيق بالمغرب ” أن تجليات السلوك الصوفي في طرق وبرامج التعليم العتيق واضحة للعيان لا يمكن أن تخطئها عين الباحث بدأ من طرق التعليم وحفظ القرآن الكريم وانتهاء بالحياة التربوية والاجتماعية داخل فضاءات المدرسة العتيقة، سواء من خلال علاقة الطالب بشيخ المدرسة ومعلميها أو من خلال المنظومات التي يستظهرها عن ظهر قلب كل طلبة المدرسة العتيقة من منظومة ابن عاشر ومنظومات المدح و التغني بالشمائل المحمدية كالبردة والهمزية وغيرها، وانتهى هذا اللقاء العلمي الماتع برفع برقية ولاء وإخلاص إلى مقام صاحب الجلالة أمير المؤمنين محمد السادس نصره الله.
وأما المحور التواصلي فشمل لقاء تواصليا حضره جم غفير من الأئمة والخطباء والقيمين الدينيين لجهة تادلا أزيلال حيث حج إلى الزاوية البصيرية ما يربوا عن تسعمائة قيم ديني اجتمعوا من صبيحة يوم المولد النبوي إلى مسائه حول مائدة واحدة هي مائدة القرآن الكريم، متمثلين لحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم (مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ في بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ”.
فتحقيقا لمقامات هذه الذرة النبوية الشريفة، اجتمع هؤلاء الفضلاء برحاب الزاوية البصيرية فرحا وحبورا بميلاد من كان خلقه القرآن عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، التقوا على قلب رجل واحد احتفاء واهتبالا برسالة القرآن الإنسانية لإخراج الأمة من الظلمات إلى النور، إنها سنة حسنة دأبت الزاوية منذ أمد بعيد على إحيائها تكريما لأهل القرآن أهل الله وخاصته الوارثين للشمائل المحمدية .
وفي إطار هذه اللقاءات التواصلية السنوية التي تحتفل بها الطريقة البصيرية بهذه المناسبة كل عام، تم تخصيص اليوم الثاني بعد عيد المولد النبوي الشريف لاستقبال حملة القرآن والأئمة من قبيلة السماعلة، حيث حج جم غفير من أهل القرآن، ناهز عددهم المائة فردا إلى مقر الزاوية، حيث تليت آيات بينات من الذكر الحكيم جماعة وجهرا عدة مرات، كما تم الاستماع إلى كلمة جامعة مانعة من قبل الأستاذ الزايدي في موضوع أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما دعي لجميع الحاضرين وتم تخصيص أمير المؤمنين بدعاء خاص، وانتهى هذا الحفل بعد تناول وجبة الغذاء وصلاة العصر.
وتوجت فرحة الزاوية بالمولد النبوي الشريف بالمحطة الرابعة التي تضمنت برنامجا روحيا محكما استفاد من فقراته جميع المواطنين والمواطنات والأجانب الذين حجوا إلى هذه الليلة الكبرى من داخل المغرب وخارجه، مرفوقين بثلة من محبي الطريق من بعض الدول الإسلامية الشقيقة كالجزائر وتونس وبركينا فاصو والسنيغال وموريتانيا، الكل اجتمع على قلب رجل واحد بعد صلاة المغرب باستمطار أحوال العشق والهيام ومواقف التعظيم والاطمئنان، وسلوك القرب والإحسان .
وقد استهل الحفل الديني بآيات بينات من الذكر الحكيم قرئت جماعة وجهرا، وهو الحزب الراتب المعروف بالمملكة المغربية، وبعد ذلك تم إلقاء درس ديني بالمناسبة من قبل الأستاذ العلامة سيدي عبد الهادي بصير، الذي تكلم فيه عن المولد النبوي وأمور أخرى جد مهمة تهم السالكين في طريق الله، ثم شنفت مسامع الحاضرين بقراءات فردية للقرآن الكريم، فأبكت في قلوبهم لوعة الشوق والحنين إلى الاستمتاع بأنواع الذكر والمديح النبوي والتغني بشمائل النبي عليه الصلاة والسلام، وفي غمرة هذا الجو الروحي المفعم بالتبتل إلى الله سبحانه وتعالى تناول الكلمة الشيخ مولاي إسماعيل بصير في كلمة توجيهية ترسم معالم الطريق الصوفي على هدي النبي الكريم عليه أزكى الصلاة وأفضل التسليم، مذكرا الحاضرين أن الاحتفال بالمولد النبوي ليس أمرا ظرفيا ولا موسميا، لأن الفرح برسول الله ينبغي أن يكون مستمرا، كما أشار إلى أن تواصل المريد بالزاوية لاينبغي أن يكون مرة في كل عام، وإنما هي علاقة روحية متواصلة الأنفاس متعددة الأبعاد لايمكن أن تفصح عنها الألفاظ ولا أن تحصر من شأنها الأفكار، فكيف والطريق الصوفي مؤسس على محبته عليه الصلاة والسلام، وشرط في كمال اعتقاد المسلم وتمكنه، مما يصبح معه أيمان المحب حياة شهودية يحياها المسلم في اعتقاده.
إن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف حسب الشيخ مولاي إسماعيل البصير منوط بتحقيق مقاصد عظمى بالنسبة للمريد من خلال إحداث يقظة على مستوى شعوره الشخصي وأسرته من زوجته وأبنائه وذلك بإنهاض همتهم نحو الالتزام بمقتضى آيات الأحكام الشرعية التي لا يعذر أحد بجهلها خاصة في زمن الفتنة المعاصرة المتلاطمة الأمواج، فتن كقطع الليل المظلم من إعلام وتقنيات التواصل الرقمي وابتلاءات متعددة الألوان، مختلفة الأشكال يمتحن بها المريد في دينه وماله وأحبائه تثبطه عن الاجتهاد في سلوك طريق الأنبياء والمرسلين والأولياء الصالحين المحفوفة بالأشواك والشهوات قال تعالى: “ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين” .
وأضاف الشيخ مولاي اسماعيل: لابد لنا اليوم من تجديد ميثاق الالتزام بالمنهج السلوكي الصوفي المحمدي في جميع الأحوال بغية ربط الأمة بهدي بنبيها عليه الصلاة والسلام، وعليه يجب تجديد الفهم بمقتضيات الواقع المعيش ورسالة التصوف المعاصرة لتغيير مفردات هذا الواقع، وإصلاحه بطرق ومناهج وأساليب تراعي مقتضيات التغيرات الاجتماعية والنفسية والأخلاقية للمريدين، إذ الصوفي ابن وقته كما يقول علماء التربية من أهل التصوف، وقد حرص الشيخ في كلمته التوجيهية هاته على التأكيد أن الاحتفال بالمولد الشريف هو لحظة غالية لإظهار صورة الإسلام السامية كطريق للإهتداء بما يستقيم مع الفطرة السليمة وما يقتضيه الاعتقاد السليم في الشيخ والطريقة، إنه جمال الروح في أبهى حلته، ومنار السلوك في أعظم تجلياته، كل ذلك في انسجام وتكامل ظاهر للمريد مع باطنه خصوصا ما يعرفه هذا الجانب من تناقضات واختلالات في تسليك المريدين تسيء إلى التصوف ونقاء طريقته.
وقد ختم الشيخ مولاي إسماعيل بصير توجيهاته هاته بدعاء جامع مانع خاشع مستهلا بالدعاء الصادق لأمير المؤمنين صاحب الجلالة محمد السادس ناصر الملة والدين، ومنهيا بالدعاء لكل الحاضرين والغائبين من المريدين المحسنين، الذين كانت لهم اليد البيضاء في الإنفاق على هذا الجمع الرباني العظيم الذي تحفه الملائكة ويذكره الله تعالى فيمن عنده .
واستمر الحفل بعد ذلك بذكر جماعي جهري ومديح لصاحب الذكرى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، طرب له جميع الحاضرين وحركهم من الداخل، واختتم هذا اللقاء بكلمات لكل من الشيخ عبد القادر امباكي ممثل الطريقة المريدية، وكلمة للشيخ احمدو ولد الشيخ التراد ممثل الطريقة القادرية بموريتانيا.
وتجدر الإشارة إلى أنه كان للمريدات مجلس مستقل، تضمن أذكارا وأمداحا نبوية وكلمات بالمناسبة من قبل بعض الواعظات، وأهازيج شعبية تعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
{jathumbnail off}