ذكرى الهجرة النبوية

الأستاذ مولاي يوسف البصير

الحمد لله، الحمد لله الذي شرع الهجرة والجهاد لحماية الدين ودرء الفساد، وقال في محكم الكتاب: “ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، والله رءوف بالعباد”، نحمده تعالى ونشكره، ونسأله أن يهدينا سبل الرشاد، ونشهد أن لا إله إلا الله الواحد الأحد، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المهاجر من بلد إلى بلد، والقائل: “المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه”، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأخيار، من المهاجرين والأنصار الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، وسلم تسليما كثيرا، أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون، إن في دنيانا ذكريات لا يمل حديثها، ولا تسأم سيرتها، بل قد تحلو أو تعلو إذا أعيدت وتكررت، ومن هذه الذكريات  ما يرتبط بحياة إمام البشرية، وسيد ولد آدم، سيدنا محمد  صلى الله عليه وسلم، تلكم الذكريات الغوالي، التي تتجدد آثارها وعظاتها كلما أمعنا فيها النظر لنستنبط منها الفوائد والعبر، وفي سيرة سيدنا محمد الجليلة النبيلة أيام خوالد، ما تزال تضيء على طول الزمان، لعل من أسطعها وأروعها، ذكرى الهجرة، التي تهب علينا نسمات ذكراها، في كل عام، وقد أوشك إقبالها علينا بعد بضعة أيام، وهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم التي نحتفل بها في مطلع شهر الله المحرم من كل عام، كانت فاتحة الأمل، وبارقة النصر، وطريق العودة له صلى الله عليه وسلم  ولأصحابه إلى مكة فاتحين ظافرين بعد أن أرغموا على الخروج منها مضطهدين، كما قال تعالى: “إِنَّ ٱلَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْءانَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ” يعني إلى مكة. أيها المومنون، لسرد أسباب الهجرة المحمدية ينبغي المرور عبر ثلاث عشرة سنة من حياة حبيبنا المصطفى، منذ أن تلقى أول كلمات الوحي إلى أن قرر الهجرة من مكة إلى المدينة، والحمد لله كتب السيرة ودروس الوعظ تتكفل بذكر هذا بالتفصيل، وما يهمنا نحن من ذكرى الهجرة، والتذكير بها كلما أقبل عام هجري جديد، هو الوقوف على تلكم الدروس التي لا ينبغي أن تخفى على الأمة والمستفادة من حياة رسولنا الكريم وصحابته، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين، ولعل من أبرز الدروس المستفادة من حدث الهجرة، هو أن صاحب الدين القويم والعقيدة الصحيحة، ينبغي ألا يساوم فيها، أو يحيد عنها، بل إنه يجاهد من أجلها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وإنه ليستهين بالشدائد والمصاعب تعترض طريقه عن يمين وشمال، ولكنه في الوقت نفسه، لا يصبر على الذل يناله، ولا يرضى بالهوان والمذلة تلحق دعوته وعقيدته. و نستنبط أيضا من  حادث الهجرة عبرة تتعلق بالصداقة والصحبة، فالإنسان في هذه الحياة لا يستطيع أن يعيش وحيدا منفردا، بل لابد من الصديق يلاقيه ويناجيه ويواسيه، يشاركه مسرته، ويشاطره مساءته. وقد تتجلى هذه الصداقة والصحبة في تلك الرابطة العميقة، التي ربطت بين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم  وبين أبي بكر الصديق (ض)، فلقد أصبحت علاقات الكثيرين من الناس في هذا العصر، تقوم لعرضٍ أو لغرض، وتنهض على رياء أو نفاق، إلا من رحم الله، والأمة المسلمة اليوم محتاجة لأخوة أهل الخير، التي تتصادق في الله، وتتناصر على تأييد الحق، وتتعاون على البر والتقوى، قال الله تعالى: “ٱلأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ”، والدرس الثالث المستنبط من ذكر ى الهجرة، وهو أن الله ينصر من ينصره، ويعين من يلجأ إليه ويعتصم به ويلوذ بحماه، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن المخلص، الموقن بما عند الله، حين تنقطع به الأسباب، وحين يخذله الناس، وبعض الأغرار الجهلاء يرون مثل ذلك فرارا وانكسارا، ولكنه -في الحقيقة- كان عزا من الله وانتصارا: “إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ “. ونستنبط أيضا من تجليات الهجرة النبوية خاطر رابع يشير إلى أن الشباب إذا نبتوا في بيئة الصلاح والتقوى، نشؤوا على العمل الصالح، والشباب المسلمون إذا رضعوا رحيق التربية الدينية الكريمة، كان لهم في مواطن البطولة والمجد أخبار وذكريات. فسيدنا علي بن أبي طالب (ض) لم يتردد في أن ينام على فراش الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يعلم أن سيوف المشركين تستعد للانقضاض على النائم فوق هذا الفراش، يتغطى ببردة النبي، في الليلة التي اجتمع فيها شياطين الكفر والغدر، ليفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويا لها من نومة تحيطها المخاوف والأهوال، ولكن تلبية لداعي الفداء وثقة بوعد الله: “فَٱللَّهُ خَيْرٌ حفِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرحِمِينَ”، أيها الإخوة المؤمنون، مع الفاتح من محرم نستقبل عامًا هجريا جديدًا، وليست الغبطة بكثرة السنين، وإنَّما الغبطة بما أمضاه العبد منها في طاعة الله تعالى، إذ علينا أن نستقبل أيَّامنا وشهورنا وأعوامنا بطاعة ربِّنا، ومحاسبة أنفسنا وإصلاح ما فسد من أعمالنا، وإنَّ من بديع حكمة الله تعالى أن جعل طرفي العام شهرين محرَّمين، وهما شهر ذي الحجة في خاتمة العام وشهر المحرَّم في فاتحة العام، فكأنَّ في ذلك إشعارًا للمؤمن بأن يختم عمله بالخير ويفتتحه بالخير، فقد هيَّأ الله له في فاتحة كلِّ عام وفي خاتمته شهرًا محرَّمًا تعظم فيه الأجور على الطاعات، كما تعظم فيه الحرمات، قال الله تعالى: “إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ”، قال قتادة: “إنَّ الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا من الظلم فيما سواه، وإن كان الظلم على كلِّ حال عظيما، ولكن الله يعظمُّ من أمره ما يشاء”. وقال ابن عباس (ض): “فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ” أي: لا تظلموا أنفسكم في كلِّهنَّ، ثمَّ اختصَّ من ذلك أربعة أشهر فجعلهنَّ حرما، وعظَّم حرماتهنَّ، وجعل الذنب فيهنَّ أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم ولله ذر القائل: قطعتَ شهور العام لهوًا وغفلةً ** لم تحـترم فيـما أتيت المحـرَّمـا ** فلا رجبًا وافـيت فيه بحـقِّه ** لا صمت شهرَ الصوم صومًا متمِّما ** فهل لك أن تمحو الذنوب بعبرة ** تبكي عليها حـسرة وتنـدُّما ** وتستقبل العام الجديد بتوبـة **    علَّك أن تمحـو بها مـا تقـدَّما. ألا فلنهاجر إلى الله تعالى بقلوبنا وعقولنا وأعمالنا ولنلجأ إلى الله ليكون ناصرنا ومؤيدنا. فلنهاجر إخوتي طريق المعاصي إلى رضى الله ونكون من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب. آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية

أيها المؤمنون، ها أنتم تلاحظون أن وباء كورونا لا زال يلاحقنا، ويتضاعف عدد المصابين به بيننا، خاصة في الأسبوعين الأخيرين، حيث تم إحصاء أرقام مهولة للمصابين ضاقت بهم المستشفيات، وعجز معها الأطباء، وقاست من نتائجها الأسر، وكل ذلك بسبب الأنانية المفرطة لبعض المواطنين المستهترين الذين لم تنفع معهم أساليب الوعظ والنصيحة، ولم ينخرطوا في الإحتراز الجماعي لتحقيق مناعة مجتمعية شاملة، ممن لايبالون من مخالطة الناس، وممن يقيمون الحفلات والأعراس، فتنقلب الأفراح والمسرات بؤرا تعدي وتكون سببا لإنتشار هذا الوباء الفتاك الذي لا يعرف حقيقته إلا من عانى وقاسى آلامه، وخرج من ذلك سالما، ومع كامل الأسف أن الدولة والساهرين على الأمن الصحي للمواطنين، منذ بداية هذا الوباء في السنة الماضية وهم يقدمون النصح بالحد من التنقل، إلا للضرورة القصوى، وتجنب مخالطة الناس، والتزام التباعد الجسدي، واستعمال أساليب التعقيم، واتخاذ الكمامات وارتدائها في الأماكن العامة، أخي المؤمن، كفى أنانية، وليكن شعارنا جميعا الحذر والوقاية، وإيثار الآخرين على أنفسنا، حفاظا على سلامتهم وسلامة مجتمعنا، وانخراطا في التوجهات الحضارية التي يقودها عاهلنا للتصدي لهذا الوباء الفتاك، ولنخرج من هذه المحنة بأقل الأضرار على اقتصادنا ومجتمعنا. فبسبب تهورك وأنانيتك قد تتسبب في انتشار هذا الوباء الفتاك، ويكون أول المتضررين به شيخ أو عجوز من أقرب الناس إليك قليل المناعة، فتنقل له العدوى وتكون السبب المباشر في وفاته، وحينها لا ينفعك الندم ولا التحسر، فالحذر الحذر، “ولا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة”. الدعاء.

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *