الزوايا المغربية الفاعلة ودورها في تحصين الأمن الفكري والروحي

مداخلة الدكتور عبد المغيث بصير،رئيس المجلس العلمي المحلي لبرشيد، في الملتقى المنظم تحت شعار: “دور الزاوايا الصوفية بالصحراء في تحقيق الأمن الروحي: الزاوية الدرقاوية الفاضلية نموذجا”.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الكائنات، وعلى آله وصحبه أصحاب الرتب العاليات، وسلم تسليما كثيرا طيبا إلى يوم الدين.

أما بعد، فيا أيها الإخوة الصالحون السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

قبل أن أبدأ، أتوجه بالشكر الجزيل للزاوية الدرقاوية الفاضلية بالعيون، على تنظيم هذه الندوة العلمية حول هذا الموضوع المهم، الموسوم بـ”دور الزوايا الصوفية بالصحراء في تحقيق الأمن الروحي: الزاوية الدرقاوية الفاضلية نموذجا”، وأخص بالشكر والذكر فضيلة شيخ الزاوية الفاضلية سيدي علي سالم حفظه الله ومريديه النشيطين، على دعوتهم الكريمة لحضور هذا الملتقى العلمي، الذي يعد بحق ملتقى أهل التصوف بهذه الربوع الصحراوية من مغربنا العزيز، وأشكر أيضا كل من ساعدهم في كل حيثية من حيثيات التنظيم.

أيها الإخوة الكرام، إن موضوع: ” دور الزاوايا الصوفية بالصحراء في تحقيق الأمن الروحي “، يحتاج لمثل هذه الالتفاتة في الوقت الراهن من قبل الزوايا المغربية وغيرها من مؤسسات ومراكز المعرفة في الصحراء المغربية، ليكون بحول الله تعالى ورشا للتواصل ومجالا للنقاش بين شيوخ الطرق الصوفية بالصحراء حول هذا الموضوع، الذي يطرح نفسه بقوة على علماء الزوايا الصحراوية لتحصين الأمن الفكري والروحي للساكنة، خاصة في هذا العصر المعروف بالعولمة والتفتح التكنولوجي وثورة الإعلام والأنترنيت، التي تخترق روح وفكر عموم الناس فتسلبهم أصالتهم وهويتهم وتهوي بهم في تيارات الانحراف والانحلال الروحي والفكري، وتتلاعب بهم أمواج الفتن والضلالات، والعالم اليوم كما تعلمون أصبح كالقرية الصغيرة، وتأثر الواحد في شرق العالم بعادات وتقاليد وقيم وسلوكات الآخر في غربه، أصبحت بسبب تزايد استعمال وسائل التكنولوجيا الحديثة في التواصل من السهولة بمكان وكلمح البصر، فلا بد إذن من العناية بالأمن الروحي والفكري لدى الساكنة الصحراوية، وذلك لتنشئتهم تنشئة سوية ماديا وروحيا لتحقيق ذواتهم، وتأهيلهم جسديا وفكريا ليساهموا في بناء وتنمية وطنهم وخدمة دينهم وطاعة ولي أمرهم، والانخراط بالتالي في عملية التنمية الشاملة لوطنهم، ولا يتم ذلك إلا بتحصينهم من الأفكار المتطرفة والدخيلة على ثقافتهم الدينية السليمة القائمة على الوسطية والاعتدال، ويتأكد هذا الأمر في صحرائنا المغربية إذا علمنا مكائد الأعداء المتعمدة التي يخططونها عن سبق إصرار وترصد في هذه الأقاليم، زد على ذلك تآمر الحساد وأهل الشر الذين يغيظهم استقرار البلاد ورقيها، مما سيساهم بحول الله تعالى في تحسيس وتوعية عموم المواطنين والمواطنات في هذه الربوع، ويجعلهم ينتبهون ويزدادوا تفطنا إلى كل ذلك، وتنتعش بذلكم محبتهم لوطنهم وتعلقهم به والذود عن حياضه، هذ من جهة، ومن جهة أخرى فإن أمثال هذه الملتقيات العلمية تذكر شيوخ الزوايا ومن في حكمهم بواجبهم المقدس اتجاه الوطن والمواطنين.

أيها الأحبة الكرام مداخلتي هي تحت عنوان: “الزوايا المغربية الفاعلة ودورها في تحصين الأمن الفكري والروحي“، وسأتناول هذا الموضوع بعد هذه المقدمة من خلال المحاور التالية:

1   ) المقصود بالزاوية المغربية الفاعلة.

2) دور الزوايا في تحصين الأمن الفكري والروحي

وخاتمة.

1- المقصود بالزاوية المغربية الفاعلة:

لعبت الزواية المغربية منذ ظهورها في المجتمع المغربي أدوارا مختلفة وطلائعية، وعرفت عدة تحولات جوهرية على مدى العصور، لذلك فإن الزاوية المغربية إذا وجدت الشيخ المناسب المتوفر على كافة الشروط التي يذكرها أهل هذا الشأن، وتوفر لها المريدون النموذجيون، فإن الزاوية سيستمر عطاؤها ونفعها وتؤدي أدوارها باقتدار، وإذا لم تتوافر لها هذه الشروط، فإنها سرعان ما ستشق طريقها إلى الاندثار والزوال ويزول نفعها، فالزاوية التي تقوم بدورها كاملا كما ينبغي هي زاوية قائمة فاعلة، والزاوية التي أصبح وجودها شكليا هي زاوية غير فاعلة، وهذه للأسف هي حال الكثير من الزوايا المغربية اليوم.

أيها السيدات والسادة، بداية أقول: إن الزاوية لم تظهر في تاريخ المسلمين كمركز ديني وعلمي إلا بعد الرباط والرابطة، والرباط لغة مصدر رابط يرابط بمعنى أقام ولازم المكان، ويطلق في اصطلاح الفقهاء والصوفية على شيئين: أولهما البقعة التي يجتمع فيها المجاهدون لحراسة البلاد ورد هجوم العدو عنها، والثاني: عبارة عن المكان الذي يلتقي فيه صالحوا المؤمنين لعبادة الله وذكره والتفقه في أمور الدين.

أما الزاوية فهي عبارة عن مكان معد للعبادة، وإيواء الواردين المحتاجين وإطعامهم، وتسمى في الشرق خانقاه، وهو لفظ أعجمي يجمع على خانقهات أو خانقاوات أو خوانق، وقيل في تعريف الزاوية المغربية إنها :” مدرسة دينية ودار مجانية للضيافة”.([1])

ولم تعرف الزاوية في المغرب، إلا بعد القرن الخامس الهجري، وسميت في بادئ الأمر: دار الكرامة، كالتي بناها يعقوب المنصور الموحدي في مراكش، ثم أطلق اسم دار الضيوف، على ما بناه المرينيون من الزوايا، كالزاوية العظمى التي أسسها أبو عنان المريني خارج فاس، وهي التي ذكرها ابن بطوطة في رحلته، وقد جدد الدلائيون بناءها أيام انتشار نفوذهم في العاصمة الإدريسية، ومن أقدم الزوايا التي حملت هذا الاسم في المغرب، زوايا الشيخ أبي محمد صالح الماجري المتوفى سنة ستمائة وواحد وثلاثين هجرية في آسفي، وقد تعددت زواياه حتى بلغت ستا وأربعين، وانتشرت فيما بين المغرب ومصر، إذ كان هذا الشيخ يشجع أصحابه على حج بيت الله الحرام، واستكثر من اتخاذ الزوايا في الطريق التي يسلكها ركب الحجاج ليأووا إليها في مراحل سفرهم الطويل.

وفي القرن الثامن الهجري- الرابع عشر الميلادي- تكاثرت الزوايا في المغرب، ونمت حولها مدارس استقر فيها طلبة العلم، الأمر الذي حدا بملوك بني مرين أن يشيدوا كذلك مدارس بجانب المراكز التعليمية الكبرى خصوصا جامع القرويين بفاس.

وتطور أمر الزوايا بالمغرب خلال القرن العاشر الهجري- السادس عشر الميلادي-، حيث تغلب النصارى على المسلمين في الأندلس وساموهم سوء العذاب، ثم امتدت أطماعهم إلى احتلال الثغور المغربية، وضعفت الدولة الوطاسية عن الدفاع عن حوزة الوطن، هنالك بدأت الزوايا تتدخل في شؤون البلاد السياسية، وتدعوا إلى الجهاد ومقاومة الأجنبي، ووجد نداء الصوفية آذانا صاغية، فهب الشعب يذود عن حمى البلاد وحمل السلاح معهم فقادوه في معارك ظافرة، انتهت بطرد البرتغال من الثغور التي كان يحتلها في الجنوب، ونصب رجال الزوايا الشريف أبا عبد الله القائم السعدي – سنة تسعمائة وخمسة عشرة هـجرية – ملكا على المغرب.

وبعد ذلك تكاثرت الزوايا في المغرب من شماله إلى جنوبه، وكانت تمثل أغلب الطرق الصوفية وخاصة الطريقة الشاذلية وفروعها، والقادرية وفروعها، ولعبت أدوارا مختلفة تتردد بين المجال الثقافي العلمي، والسياسي والاجتماعي.

يقول الحسن اليوسي في رسائله: الزاوية لا حقيقة لها شرعا ولا ذكر لها، وإنما هي لفظة محدثة، ومعناها مركب من أمرين: أحدهما التفرغ إلى عبادة الله، ويكون ذلك بالهروب من التشاغل بالدنيا وأسباب المعاش والانكماش في خلوة أو في ركن بيت أو في مسجد للاشتغال بذكر الله والإقبال عليه، وبهذا والله أعلم سميت زاوية، لأن الركن يسمى زاوية، والثاني إطعام الطعام، وهو عادة المتأخرين، ويرجع معناه إلى إكرام الضيف وإلى الصدقة، وخلاصة هذه التعريفات، أن الزاوية تعتبر مكانا للعبادة والجهاد والتعليم وإيواء المحتاجين وإطعامهم.

ومن أهم الأدوار الطلائعية التي لعبتها الزاوية المغربية عبر التاريخ، ويعتبر من أهم الأركان التي ساهمت في تثبيت أمرها لدى عموم الناس ما يتعلق بإطعام الطعام وإيواء المحتاجين، اسمعوا إلى ما يقوله سليمان الحوات في كتاب البدور الضاوية عن الشيخ العلامة أبي بكر بن محمد بن سعيد الدلائي صاحب الزاوية الدلائية: “كان كثير الإطعام بالأنواع المختلفة من الطعام، أمرا خارجا عن الوصف، مباينا للعادة والإلف، فكانت مراجله دائما تغلي، وطباخه لم يزل يفرغ ويملي:

في جفان كالجوابي         وقدور راسيات

هكذا يفعل دأبا               بالوفود الزائرات([2])

بل كان يطحن كل يوم خمسا وعشرين صحفة من القمح وعشرين تليسا، والصحفة مكيال يقدر بثلاثة قناطير، والتليس كيس مزدوج يصنع من صوف أو شعر أو وبر لتنقل فيه الحبوب على ظهور الدواب”، ثم كان يطعم كل إنسان تارة بما اشتهاه في نفسه، وتارة بما يناسبه مع أبناء جنسه، فليس الحضري عنده كالبدوي، ولا الضعيف كالقوي([3] )، ويروي مترجمو محمد بن أبي بكر الدلائي عن كرمه المدهش قصصا غريبة، ويذكرون أرقاما عالية لمن كان يجلس إلى مائدته، بمناسبة أو بغيرها، فمن ذلك أنه كان يطعم في سنة من سني الغلاء سبعة آلاف من الفقراء كل يوم، زيادة على الواردين عليه والمقيمين عنده من طلبة العلم وغيرهم، وأطعم في يوم احتفل فيه بسابع المولد النبوي سبعين ألفا من سكان الزاوية وغيرهم من الوافدين عليها لحضور ذلك الموسم دون أن يقوم من موضعه طيلة اليوم إلا للصلوات ([4]).

والأمر نفسه نجده لدى أصحاب الزاوية الناصرية أيام تألقها، ففي عهد محمد بن ناصر الدرعي كان الناس بالزاوية يأكلون ألوان الطعام على عينه وحضرته، فلا يلتفت إليهم … مع أنه هو سيد أهل الزاوية وعالمهما وإمامها عليه تدور أمورها … ومع ذلك يقنع باليسير من الدنيا، وقام الشيخ محمد بن ناصر بحق الجميع من الطلبة والعيال والزوار والجيران والمساكين والمحتاجين والفقراء والأيتام، واعتاد الشيخ أن يقسم على جيرانه وساكني زاويته ومن في معناهم من أهل درعة وغيرهم ممن لم يسكن زاويته، الضحايا كل عيد، والصوف كل عام، والسمن والزيت…” ([5]).

وبالنسبة للزاوية الدرقاوية البصيرية ذات الأصول الصحراوية، فيكفي أن يعرف بأن بابها مفتوح على مدار الساعة، تطعم كل الوافدين الذين يفدون عليها كل وقت وحين، ويتناوب على الطبخ نساء الشيخ والمريدات في مطبخ واسع يضم مختلف الأواني والقدور الكبيرة، وتكاد النار لا تنطفئ لكثرة ما يطبخون في ليل أو نهار، والذي يرى الفرن المخصص للخبز وحده يجده يعادل في حجمه الأفران الكبرى لأحياء المدن الكبرى.

ومن أهم ما تقوم عليه الزوايا المغربية تدريس العلوم الشرعية، فعلى سبيل المثال لا الحصر سأضرب مثالا بالزاوية الدلائية، يقول الأستاذ محمد حجي رحمه الله: “عني الشيخ أبو بكر الدلائي بالعلم والعلماء عنايته بالتصوف والمريدين، واهتم بالغ الاهتمام بتعليم أبنائه الستة، فكان منهم من يدرس على العلماء الوافدين على الزاوية الدلائية، ومنهم من ينتقل إلى مدينة فاس ليدرس فيها، ولما اضطربت أحوال المغرب بعد وفاة أحمد المنصور الذهبي سنة ألف وإثنا عشرة هجرية، وانتشرت الفتن بسبب اختلاف أبنائه وتنازعهم على الملك، أخذ الناس يفرون من المدن إلى البادية، وكانت الزاوية الدلائية من أحسن البقاع التي يلتجئ إليها العلماء، حيث يجدون الطمأنينة وراحة البال وينعمون بكرم ضيافة أهلها فيتفرغون للعلم وتدارسه، وقد حصل أبناء أبي بكر على بضاعة علمية غير مزجاة، فتصدروا للتدريس في زاويتهم وأقبل عليهم الطلاب من كل حدب وصوب، …وتطور أمر الزاوية الدلائية في الثلث الثاني من القرن الحادي عشر الهجري، وكثرت فيها المدارس التي ازدحمت بالطلاب، حتى كان يسكن في البيت الواحد طالبان فأكثر، ينفق محمد بن أبي بكر عليهم جميعا، وكان لطلبة العلم بالمدرسة التي بإزاء جامع الخطبة ألف وأربعمائة مسكن، وتكاثر عدد العلماء المشتغلين بالتدريس في مساجد الزاوية الدلائية، سواء من أبناء الزوايا نفسها، أو من العلماء الطارئين عليها، وتكونت فيها خزانة كتب عظيمة شبهها بعضهم بخزانة الحاكم المستنصر بالأندلس، وجميعها عشرة آلاف سفر، وتنوعت العلوم التي كانت تدرس بالدلاء، فالقراءات والتفسير والحديث والتوحيد والفقه والأصول والتصوف والمنطق والتوقيت واللغة العربية والبلاغة والأدب كلها علوم كانت تدرس بالدلاء، وفاقت المؤلفات التي ألفها علماء الزاوية الدلائية وتلامذتها المائة كتاب في مختلف العلوم.([6]).

والشيء نفسه نجده لدى أصحاب الزاوية الناصرية بتامكروت، يقول الأستاذ أحمد عمالك:” كانت عادة الشيخ أحمد الخليفة عقد مجالس علمية يحضرها جم غفير من العلماء سواء من أبناء الزاوية أو الوافدين عليها، وتعددت تلك المجالس، وبلغت أحيانا خمسة أو ستة كما كان الشأن في عهد الشيخ يوسف الناصري، وهذا أمر طبيعي نظرا لكثرة الطلبة في بعض الفترات، كما كان الأمر في عهد أحمد الخليفة، حيث بلغ عددهم ألفا وأربعمائة معظمهم من المنقطعين، أما المجالس التي كان شيوخ الزاوية وعلماؤها يعقدونها لصالح عموم الناس، فإنها كانت موسمية، ينكبون فيها على سرد الحديث، وخاصة صحيح البخاري…، ومن العلوم التي كانت تدرس بالزاوية الناصرية القرآن الكريم والقراءات والتفسير والفقه والحديث والأصول والأدب واللغة والنحو والبلاغة والعروض والتصوف والرقائق والسيرة النبوية والعقيدة والتوحيد والتوقيت والفلك والمنطق”. ([7] )

وفيما يخص الزاوية الدرقاوية البصيرية – زاوية الشيخ إبراهيم البصير- التي بدا نجمها يسطع منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، فمنذ أن أسسها شيوخها وهي تهتم بتدريس العلم إلى اليوم، حيث بدأت بتحفيظ القرآن الكريم وتدريس الفقه على المذهب المالكي والتصوف، وفي ذلك الوقت العصيب حيث زمن الاستعمار الفرنسي، كانت تضم حوالي مائة طالب، وهذا ما تؤكده وثائق الأرشيف الاستعماري الفرنسي بنانت بفرنسا، المسجلة حول ملف هذه الزاوية، ويكفي أن نعرف اليوم أنه بالمدرسة الخاصة للتعليم العتيق التابعة إليها يوجد مائتان وتسعون طالبا وطالبة، كلهم يستفيد من داخلية المدرسة، ويدرسون شتى أنواع العلوم الشرعية والعلمية والإنسانية.

والذي يطلع على هذه الزاوية اليوم يجد عدد المدرسين قد ازداد، كما أضيفت علوم جديدة لمنهاج التدريس كالسيرة النبوية، والتفسير واللغة والإعلاميات والرياضيات والجغرافية والفرنسية والتجويد والحديث وغيرها من مختلف العلوم الشرعية والعلوم الحديثة.

ختاما لهذا المحور أقول: إن الزاوية المغربية النشيطة الحية الفاعلة هي التي تقوم بالأدوار المنوطة بها بشكل كامل، وتقوم بأدوار أخرى نموذجية كالإيواء والتطبيب والعلاج والوساطة والصلح وأداء الديون على المعسرين وتصحيح السلوكات الاجتماعية المنحرفة، وترسخ الهوية الوطنية لدى المواطنين، وتتفاعل بشكل إيجابي مع الحياة السياسية للبلد، فهذه هي الزاوية الفاعلة التي ننشدها، وأمثال هذه هي التي يمكن أن تحصن الأمن الروحي والفكري للناس، فماهي أهم الأسباب التي جعلت من غالبية الزوايا زوايا شكلية لادور لها في المجتمع؟

أيها السيدات والسادة، إذا علمنا أن مختلف الزوايا، والتي تمثل مختلف الطرق الصوفية من شمال المملكة إلى جنوبها، غالبها أغلق ولم يعد يفتح أبوابها، والأخرى التي تفتح تكاد تفتح في أوقات الصلوات الخمس، أو مرة في الأسبوع للاجتماع على الذكر، أو مرة في العام حيث موسمها السنوي، أو قد يكون هو اليوم الذي يناسب يوم تسلم الهبة الملكية التي يهبها مولانا أمير المؤمنين لمختلف الزوايا النشيطة أو ذات التاريخ الحافل.

والأكثر من ذلك، فإن بعض الورثة الذين لاهم لهم في استمرارية زاوية والدهم أو جدهم، وليس لديهم وعي كامل بمهمة الزاوية، حولوا زوايا شيوخهم وزوايا آبائهم وأجدادهم إلى مورد للعيش، فجعلوا صندوقا بجنب ضريح شيخ الزاوية ليضع فيه الزائرون إكرامياتهم وأموالهم، وبنوا بيوتا للكراء لكل من يريد المبيت بالزاوية، فقصدها الفساق والزنادقة من كل فج، وخرجت بذلك الزاوية المغربية عن مقاصدها الأولى التي بنيت من أجلها، وأصبحت أشبه ما يكون بالفنادق والمطاعم السياحية والمشاريع التجارية، أضف إلى ذلك التنازع على المشيخة بعد وفاة شيخ الزاوية، أو التنازع على أملاكها، التي غالبا مايقتسمها الورثة فيما بينهم وتبقى الزاوية بدون معيل.

ومن الأسباب الأخرى، عدم توفر شيخ الزاوية الجديد على الأهلية العلمية والكفاية والتزكية اللازمة، وعدم توفره على سند الطريقة التي أصبح شيخا لها، وإخلال الخلف بجانب الضيافة والإطعام وعدم عنايتهم بالعلم والتدريس والانخراط في هموم المجتمع، فهذه بالاستقراء تعد أهم أسباب انتقال زوايا مغربية عديدة من زوايا فاعلة إلى زوايا شكلية عديمة الأثر والنفع، فأنى لمثل هذه أن تقوم بأدوارها المنوطة بها، وأنى لها أن تقوم بتحصين الأمن الفكري والروحي للناس، وبالتالي فإن الزاوية المغربية الفاعلة الحية النشيطة -كما أراها-، لايمكن أن تتوفر اليوم في المغرب إلا في زوايا تعد على رؤوس الأصابع، بحيث عز وجودها، وغدت كالكبريت الأحمر. ولله ذر من قال :

أما الخيام فإنها كخيامهم            وأرى نساء الحي غير نسائها.

وقال آخر:

واعلم بأن طريق القوم دارسة          وحال من يدعيها اليوم كيف ترى

2) دور الزوايا في تحصين الأمن الفكري والروحي:

أيها الأحبة الكرام، إن إشكالية تحصين الأمن الفكري والروحي لدى المواطنين والمواطنات، أصبحت من الإشكاليات الكبرى التي تؤرق المجتمعات في عصرنا الحاضر، وغدا هذا الغزو أخطر غزو يتهدد الأمة في أيام الناس هذه، وهو عند العقلاء أخطر من الغزو العسكري، لأن كل من يتبنى أفكارا هدامة، فإنه تلقائيا يعد من المؤثرين سلبا على جميع مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمجتمع، فماذا يعني الأمن الفكري والروحي؟ وماهي بعض مظاهر تجلياته في واقعنا المجتمعي؟ ومتى اخترق مجتمعنا المغربي من قبل مختلف التيارات الهدامة؟ ، وإلى أي حد إذن استطاعت مؤسسة الزاوية المغربية في مجتمعنا الوعي بمكانة وأهمية موضوع تحصين الأمن الفكري والروحي لدى الناس؟، وهل امتلكت أو أصبحت لديها خطة واستراتيجية معينة متبعة من أجل تحصين المجتمع من كافة المخاطر الحساسة والمتعددة التي باتت تهدده؟.

الأمن أيها السيدات والسادة يعني السكينة والاستقرار النفسي والاطمئنان القلبي، واختفاء مشاعر الخوف من النفس البشرية، وهو في معناه العام يعني أن يعيشَ الناس في مجتمَعِهم آمنين مطمئنِّين على مكوِّنات شخصيّتِهم وهويتهم وتميُّز ثقافتِهم ومنظومَتِهم الفكريّة، وحمايتها من الاختراق أو الاحتواء من الخارج، ومواجهة كل ما يهدد تلك الهوية، لأن الهوية تمثل ثوابت الأمة من قيم ومعتقدات وعادات، وبذلك تكون الحاجة إلى تحقيق الأمن الفكري والروحي هي حاجة ماسة لتحقيق الأمن والاستقرار الاجتماعي، فإذا اطمأنَّ الناس على ما عندهم من أصولٍ وثوابِت وأمِنوا على ما لدَيهم من قِيَم ومثُلٍ ومبادئ فقد تحقَّق لهم الأمنُ في أَسمى صوَرِه وأجلَى معانيه وأَنبلِ مَراميه، وهذا ما يحرص الأعداء والمتطرفون على مهاجمته لتحقيق أهدافهم العدوانية، والترويج لأفكارهم الهدامة وخاصة بين شريحة الشباب والنساء، والتشويش على أفكارهم ودعوتهم للتطرف، وذلك لأن عندهم قابلية لقبول ما غذيت به عقولهم، ولا يفكرون كما يفكر الكبار، ولا يخافون عاقبة الأمور، وأنهم أصحاب عفوية واندفاع، وليسوا أصحاب تجربة في الحياة، وثقافتهم في الدين محدودة أو منعدمة، وكما تعلمون فمن غذي بثقافة معينة في أول أمره فإنه لن ينطق ولن يتفوه إلا بها.

وحتى تدركوا هذا الأمر أحب أن أضرب المثال التالي: الهاتف المحمول الذي يستعمله غالبيتنا، إن لم يشحن لا يتكلم، ولا نستطيع استعماله بشكل جيد، ولا يمكن أن يصلنا بالآخرين، فلا بد إذن من شحن، فكذلكم الإنسان لا بد من أن يشحن، فإذا وجد شيوخا ربانيين وعلماء عاملين ناصحين يصحبهم ويأخذ عنهم الدين الصحيح والعلم والأخلاق والأدب فإنه سرعان ما يكون شخصا نفاعة، وإذا وجد متفيقهين متطفلين على العلم وأهله، ليس لهم سند ولا شيوخ في العلم فإنه سرعان ما يتخرج متطرفا شاذا في فكره وخلقه وعلمه.

أما مظاهر تجلياته في واقعنا المجتمعي، فهي أكثر من أن نأتي عليها، فقد أصبحنا نجد بين ظهرانينا الكثير من الناس، من بني جلدتنا يصرون على ترك المرجعية الدينية المشهورة في البلاد في مجال الفتوى، وأصبحنا نجد نسبة لايستهان بها عازفة عن شيوخ الزوايا وبرامج الزوايا، عازفة عن علماء البلاد الكبار زاهدة فيما عندهم، فمن أين تسربت إلى مجتمعنا أمثال هذه النماذج؟، ولماذا هي مصرة على توجهها؟، إنه لمن العيب والعار أيها الإخوة والأخوات، أن نقرأ أن من أبناء مجتمعنا الصحراوي من تشيع أو لديه تعاطف مع الشيعة بالتزيي بزيهم والدفاع عن معتقداتهم، أو أن نقرأ أن من المغاربة من تمسح وتنصر أو أن منهم من يدعم داعش ويسترخص روحه في سبيل الضلال المبين، ومنهم كما تعلمون من تبنوا أفكار السلفية الجهادية، وظهر فينا الغلاة في تكفير المسلمين، إلى درجة وصلنا فيها تنافر قلوب أهل المجتمع الواحد وهم يصلون في المسجد الواحد، وابتعد بعضنا عن عقيدة أهل السنة والجماعة، وظهر التعصب في الدين للمذاهب الشاذة، وظهر في مجتمعنا المتتبعون لرخص المذاهب، المنادون للأخذ بها، وظهر من يقول بأن مذهبه القرآن والسنة، وظهر تحول واضح من الحجاب والنقاب المغربي إلى النقاب الخارجي المستورد الغريب عما تعودته المرأة المغربية، وظهر اهتمام الناس بدعاة الفضائيات المشرقية على اختلاف عقائدهم ومشاربهم وأفكارهم وما لذلك من تداعيات وغير ذلك.

فهذه أمثلة كافية أن تنذرنا بأن مشكل الاختراق الفكري والروحي أصبح فارضا نفسه بقوة، وعلى شيوخ الزوايا والعلماء ومن في حكمهم أن يرسموا خطة عملية محكمة لمواجهته، لأنه لو كان هؤلاء الناس محصنين فكريا وروحيا لم يكن سهلا أبدا على الدخلاء اختراقهم وشحنهم.

قد يسأل سائل: متى تم هذا الاختراق؟ أقول في الجواب: ظهر كل ذلك في مجتمعنا في فترة قصيرة عندما تم التساهل مع أصحاب هذه الأفكار وسمح لهم زمنا ما بترويج فكرهم وكتبهم وأشرطتهم، وتقاعس شيوخ الزوايا والعلماء عن أداء واجبهم في التبليغ في إبانه ووقته وحينه، والدليل على ذلك أن أوكار أصحاب هذه التيارات الدخيلة لا تنشط إلا حيث لا توجد الزوايا والعلماء الذين أدركوا ويدركون مهمتهم ويقومون بها أحسن قيام، ينشطون حيث لا يوجد من يواجههم علميا بالحجة والدليل والبرهان.

ولكي تدركوا حقيقة هذا الأمر، اسمحوا لي أيها السيدات والسادة أن أعود بكم إلى سنوات الثمانينيات والتسعينيات وأوائل الألفين من هذا القرن، حيث قوي نشاط التيارات الدخيلة في مجتمعنا، وكثر من يتحدث عن البدعة، وهو لا يدري مفهومها الشرعي، وكثر من ينتقد الناس في تدينهم الوسطي المعتدل، وكثر من ينكر عليهم، إلى أن حدث ما حدث في الدار البيضاء يوم  السادس عشر من ماي سنة 2003م، التي شهدت أحداثا إرهابية غريبة لم نعهدها من ذي قبل.

في هذه الفترة الزمنية التي تكلمت عنها، كان من أول من تصادم مع المتبنين لهذه الأفكار أرباب الزوايا ومن يخالطهم، وذلك لأن أصحاب الزوايا في نظر هؤلاء أناس مبتدعة ضالين مشركين، وقد وصل ببعضهم أن كفرهم وأخرجهم عن الملة، وهكذا أنكروا عليهم مسألة الجهر بالذكر، ومسألة الذكر الجماعي جهرا وجماعة ووقوفا، وقراءة القرآن على الأموات، والذكر في السبحة، وأنكروا عليهم زيارة القبور، وقراءة الحزب الراتب، وأنكروا عليهم التوسل، وأخذ الورد عن الشيخ والصلاة بالسدل، وقراءة القنوت في صلاة الصبح، والمصافحة والدعاء بعد الصلاة وغيرها من المسائل، ولا أجدني في حاجة إلى التطويل في ذكر أمثلة بعينها، ولعل السادة شيوخ الطرق الصوفية ومريديها والعلماء الحاضرين معنا في هذه الجلسة، كل واحد منهم يتذكر ما حدث له في مناسبات مختلفة مع أحدهم ممن يحملون هذه الأفكار الدخيلة ويتبنونها.

وهكذا وجد شيوخ الزوايا ومريدوها العلماء أنفسهم تلقائيا في صلب المعركة في مواجهة أفكار أصحاب هذه التيارات الدخيلة، وأنهم أول مطالب بتحصين الناس ضد هذه الأفكار الهدامة، فما كان منهم إلى أن عقدوا مناظرات علمية في مختلف المجالس مع المتنطعين بقصد إفحامهم وتبيين غلطهم، كما كتبوا فتاوى في إبانها حول الكثير من المسائل التي ذكرت، ووزعوها على الناس بقصد تنبيههم ليبقوا متشبثين بالثوابت الوطنية المعروفة في بلدهم، وذلك كله وعيا منهم أن الفكر لا يواجه إلا بالفكر، وكمثال على ذلك أذكر أننا توصلنا في الزاوية البصيرية ببني اعياط بأزيلال، بالعديد من الفتاوى التي كتبها الشيخ محمد سعيد دادة عالم الزاوية الفاضلية حفظه الله للرد على هؤلاء، والجدير بالإشارة فإن فضيلة الشيخ الوالد محمد المصطفى بصير رحمه الله كانت له عدة رسائل وفتاوى في الموضوع بقصد العمل على تحصين الناس فكريا وروحيا ضد أفكار هؤلاء القوم، كما طبعت والحمد لله في هذه الفترة عدة ردود لبعض العلماء المنتمين للزوايا والطرق الصوفية المغربية.

فاللزوايا والطرق الصوفية دور وأي دور في إظهار وسطية الإسلام واعتداله وتوازنه، وترسيخ الانتماء لدى الناس لهذا الدين الوسط وإشعارهم بالاعتزاز بهذه الوسطية، ومعرفة الأفكار المنحرفة وتحصينهم ضدها، وحث الناس على التحقق بالثوابت الدينية للوطن، لأننا والحمد لله أمة ذات ثوابت رصينة معروفة ومشهورة لدى كل مجتمعات العالم، وأننا من أول المجتمعات التي عرفت وقننت هذه الثوابت الخاصة بها، وأنه بسببنا نحن المغاربة أصبحت الكثير من المجتمعات والكثير من الدول تتساءل اليوم هي الأخرى عن ثوابتها الخاصة بها، وأرسلت الكثير من وفودها لتستفيد من التجربة المغربية في هذا الشأن، ينبغي أن نعرف هذا وأن نفتخر به وأن لا نضيعه.

فالمهمة الأولى أو بالأحرى العبادة الأولى لشيوخ الزوايا والعلماء إذا أراد الطرف الآخر أن يضل الناس، هي أن يوضحوا الحق، وأن يبينوا حقيقة هذا الدين، وأن يردوا عليهم باليقين، لأنهم لا يعتمدون إلا على الأكاذيب وعلى الأضاليل وعلى المغالطات، ينبغي أن يبينوا وأن يوضحوا الحق وأن يعلموا الشرع الصحيح، وهذه هي مهمة الزوايا والعلماء، لأنه يقينا لا يمكن أن تقوم للباطل حجة، ولكن تقوم الحجة عند الجاهلين، والشبهات كما تعلمون لاتنجلي إلا باليقين.

خاتمة:

أيها السيدات والسادة، أمام ما ذكرنا نحتاج إلى المزيد من فعالية تأطير مؤسسة الزاوية المغربية لملء الفراغ الذي يعيشه الناس في التأطير الديني والسلوك، وحسم الخلاف في التصدعات الحاصلة في إنتاج المعرفة الدينية وإعادة إنتاجها، والوقوف في وجه التأطير الغريب عن توابثنا المغربية الذي تتزعمه بعض التيارات الإسلامية الدخيلة عن المجتمع المغربي، وإنهاء الخلاف حول تأويل النص الديني والقراءات المفروضة بعينها على الناس، مما أدى إلى أن يعيشوا ازدواجية في تدينهم وازدواجية في شخصيتهم ونفسيتهم، فالحاجة اليوم أصبحت ماسّة إلى التذكير بقضيّة الأمنِ الفكريّ والروحي، وأصبح اللجوء إلى استراتيجية اجتماعية متكاملة أمرا ملحا للمساهمة في الحفاظ على عقول الساكنة وتحصينهم ثقافيا من خلال المعلومات الصحيحة التي تزيد الوعي الأمني والثقافي، فيجب إذن على أرباب الزوايا ومن يتبعهم أن يعيدوا إحياء زواياهم لتلعب أدوارها الحقيقية، ويهتموا اهتماما بالغا بالتربية والتوعية والتزكية والتعليم، وأن تكون لهم مع الناس برامج متواصلة هادفة داخل البيوت وفي الدروس والمذاكرة أثناء سياحاتهم الصوفية، كي ينقذوا المجتمع من شوائب الغلو والتطرف.

وقبل أن أختم أتوجه بالشكر الجزيل مجددا للمنظمين، وأهنئهم على اختيار هذا الموضوع المهم، وأسأل الله أن يبارك في جهود الملك مولانا أمير المؤمنين محمد السادس الذي يسعى سعيا حثيثا لإسعاد أمته، وتحصينها ضد كل التيارات الدخيلة وكل اختراق ممكن، آمين والحمد لله رب العالمين.

—————————-

الهوامش

1) محمد حجي، الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي،ص21،بتصرف، الطبعة الثانية،مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء.

2) محمد حجي، المرجع السابق، بتصرف.

3) سليمان الحوات، البدور الضاوية ورقة خمسة عشرة ب.

4) البدور الضاوية، مرجع سابق، ورقة 48 وما بعدها بتصرف.

5) أحمد بن محمد عمالك، جوانب من تاريخ الزاوية الناصرية،ج2ص396،منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب،2006.

6) محمد حجي المرجع السابق ص75،76،77، بتصرف.

7) أحمد بن محمد عمالك، المرحع السابق،ص279، بتصرف.

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *