خطبة حول موضوع: لماذا لا نتفكر؟
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد
كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك،
وأشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، روى الإمام ابن حبان في صحيحه عن عطاء أن عائشة رضي الله عنها قالت: أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلتي، وقال: يا عائشة، ذريني أتعبد لربي عز وجل، فقام إلى القربة، فتوضأ منها، ثم قام يصلي، فبكى حتى بلّ لحيته، ثم سجد حتى بلّ الأرض، ثم اضطجع على جنبه حتى أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح، فقال: يا رسول الله، ما يبكيك، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ويحك يا بلال، وما يمنعني أن أبكي، وقد أنزل الله عليّ هذه الليلة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ”، قال عليه الصلاة والسلام: “ويل لمن قرأها، ولم يتفكر فيها”، وقال تعالى في آيات أخرى:”إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ”، ويقول عز وجل:”إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ “، ويقول أيضا :” إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ “، ويقول:” إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ “، ويقول:” إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى “، الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات يدعو عباده إلى إحالة النظر العميق في التفكر في ملكوت السماوات والأرض، وإلى أن يمعن المرء النظر في نفسه وما حوله، فتحا للقوى العقلية على مصراعيها.
أيها الإخوة الكرام، في خطبة هذا اليوم المبارك سأتطرق لعبادة عظيمة غفل عنها الكثير من الناس في عصرنا الحاضر، وهي من العبادات الجوهرية التي هجرها الكثيرون في هذا الزمان، ألا وهي عبادة التفكر في آيات الله تعالى الكونية، وهو تفكر وتأمل دعا إليه القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ومارسه السلف الصالح وتقربوا به إلى الله عز وجل، فالبعض يظن أن العبادة محصورة في أعمال الجوارح وجهِل أو تجاهل أنّ للقلب كذلك أعمال يُتعبّد بها ، وقد يكون عمل قلبيّ أفضل من بعض أعمال الجوارح، وهذا الهجر لعبادة التفكر سبب خللا في أولوياتنا، إذ أصبحنا نهتم بأمور هي دون عبادة التفكر في الاعتبار الشرعي والفائدة المرجوة، لأن المسلم عموما لا ينبغي أن تكون نظرته للأشياء عادية، ولا نظرة سطحية لظواهرها، بل ينبغي أن تكون نظرته للأشياء من حوله نظرة عبادة، نظرة عميقة تحمله من الظاهر المشهود إلى الباطن المحجوب، ومن معرفة المخلوق إلى معرفة الخالق سبحانه، الذي خلق الكائنات وأبدع النظام الذي تسير عليه، يقول تعالى: “الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ”، ويقول أيضا: “اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً”، فما معنى التفكر وما هي حدوده؟ وأين تكمن أهميته؟، وكيف مارس السلف الصالح عبادة التفكر؟ وما هي فوائده وثمراته والشروط المساعدة عليه؟ وكيف نربي أنفسنا على التفكر؟
التفكر أيها الإخوة والأخوات يدل على تردد القلب في الشيء، يقال تفكر إذا ردد قلبه معتبرا، ولفظ الفكر والتأمل وإعمال الخاطر في الشيء بمعنى واحد، تقول تفكر إذا ردد قلبه عليه معتبراً، فالتفكر إذن هو تصرف القلب في معاني الأشياء لإدراك المطلوب، والتفكر يكون في دلائل عظمة الله تعالى وفي مخلوقاته، فالله عز وجل هو الحق، ولا يمكن لأحد أن يتفكر في ذات الله عز وجل، لأن إدراك ذلك ممتنع على العقول، فالعقول لا يمكنها أن تحيط بخالقها جل جلاله، فهو أعظم من أن يحاط به، فهو سبحانه ليس له شبيه ولا نظير، فالتفكر ينبغي أن ينصب إذن على جوانب من عظمة الله، والأمور التي نعرف بها أوصاف كماله، والتفكر مطلوب في دلائل وحدانيته وقدرته، والجوانب التي يمكن أن يصل إليها عقل الإنسان، كدلائل قدرته في آياته المشاهَدة والمتلُوة ونعتبر في ذلك، ذلك أن التفكير والتقدير إنما يكون في الأمثال المضروبة، والمقاييس والأمور التي تدركها العقول وتعرف كنهها وحقيقتها، فيتفكر فيها الإنسان بحسب ما يراه وما يشاهده وما يدركه عقله، وأما ذات الرب فهي أعظم من أن نحيط بها، وهذه هي حدود التفكر التي لا ينبغي لنا تجاوزها، قال صلى الله عليه وسلم: ” تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذاته، فإنكم لن تقدروا”، لأن التفكر في نعم الله هو شرط معرفة الله ومحبته، وينبغي أن نعلم أن من أبواب الشيطان العظيمة حمل الناس على التفكر في ذات الله تعالى وصفاته وفي أمور لا يبلغها حد عقولهم حتى يوقعهم في الشك في أصل الدين، أو يخيل إليهم في الله تعالى خيالات وظنونات يتعالى الله عنها ويجل شأنه عن نسبتها إليه، قالت أمنا عائشة رضي الله عنها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول:من خلقك؟ فيقول: الله تبارك وتعالى، فيقول فمن خلق الله؟ فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل آمنت بالله ورسوله”.
وإذا أمعنا النظر في حال السلف الصالح مع التفكر نجد أنهم خصصوا كثيرا من أوقاتهم لهذه العبادة، لما علموا لها من نتائج، فيكفي أن أذكر لكم أنه لما سئلت أم الدرداء رضي الله عنها عن أفضل عبادة أبي الدرداء قالت: التفكر والاعتبار، وقال الرباني الكبير أبو سليمان الداراني رحمه الله: “إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله فيه نعمة ولي فيه عبرة”، وعن محمد بن كعب القرظي قال: “لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بـإذا زلزلت والقارعة لا أزيد عليهما وأتردد فيهما وأتفكر أحب إلى من أن أهذّ القرآن ليلتي هذًا أو قال أنثره نثرًا، وعن طاوس قال: “قال الحواريون لعيسى ابن مريم: يا روح الله، هل على الأرض اليوم مثلك؟ فقال: نعم من كان منطقه ذكرًا وصمته فكرًا ونظره عبرة فإنه مثلي”، وكان لقمان يطيل الجلوس وحده، فكان يمر به مولاه فيقول: يالقمان إنك تديم الجلوس وحدك، فلو جلست مع الناس كان آنس لك، فيقول لقمان: إن طول الوحدة أفهم للفكر، وطول الفكر دليل على طريق الجنة”، وقال عبد الله بن المبارك يوماً لسهل بن علي -ورآه ساكتا متفكراً-: أين بلغت؟ قال: الصراط، وقال بِشْر: لو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوا الله عز وجل، وعن ابن عباس: ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة بلا قلب، أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من عباده المومنين الموقنين آمين والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد فيا عباد الله،
يقول الله سبحانه وتعالى :” وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا”، وقال أبو الدرداء رضي الله عنه:” تفكر ساعة خير من قيام ليلة”
أيها الإخوة الكرام بقي أن أجيب على الأسئلة المتبقية، والتي منها الوقوف عند بعض فوائد التفكر وثمراته، أقول إن من التمرات الأولى زيادة الإيمان واليقين، وهو أعظم فوائد التفكر، قال ابن العربي: أمر الله تعالى بالنظر في آياته والاعتبار بمخلوقاته في أعداد كثيرة من آي القرآن، أراد بذلك زيادة في اليقين وقوة في الإيمان، وتثبيتا للقلوب على التوحيد”، ومن فوائده أيضا أنه طريق التذكر وحياة القلوب، فالمسلم لا يزال يعود بتفكره على تذكره، وتذكره على تفكره حتى يفتح قفل قلبه بإذن الفتاح العليم، قال الحسن البصري:” ما زال أهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر وبالتفكر على التذكر ويناطقون القلوب حتى نطقت”،
ومن فوائده أيضا أنه يذهب الغفلة عن المرء ويجلب الحياة لقلبه، قال بعض السلف: دواء القلب خمسة أشياء، قراءة القرآن بالتفكر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين، ومن فوائده أيضا أنه طريق إلى التوبة والعمل، والعمل هو مقصود التفكر وغايته، وإنما يحمد التفكر إذا تبعه العمل، لا أن يكون تفكرا مجردا، ومن فوائده أيضا أنه طريق إلى التفقه، وكثير من الناس لا يعلم أن بين التفكر والتفقه ارتباط ومناسبة، فإن الفقه الذي هو الفهم، والفكر الذي هو التأمل بينهما ارتباط وثيق، والتفقه أبعد مدى من التفكر إذ هو حصيلته وإنتاجه،
ومن فوائده أيضا، أنه طريق إلى الانتفاع بالمخلوقات، فالتفكر يقود إلى استخراج المنافع المتنوعة من المخلوقات، فإن الله سخرها للإنسان وأودع فيها من المنافع والخيرات الدينية والدنيوية، وكمثال على ذلك الله سبحانه وتعالى نبه العباد إلى أنه جعل في الحديد بأسا شديدا ومنافع للناس، وأنه سخر لهم ما في الأرض، فعليهم أن يسعوا لتحصيل هذه المنافع من أقرب الطرق،
ومن فوائد التفكر في الكون أنه يورث الحكمة، ويحيي القلوب، ويغرس فيها الخوف والخشية من الله عز وجل، والتفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك، ومن فوائده أنه يكشف عن عظمة الخالق في خلقه ويجعل المرء يقر بوحدانية الله تعالى ويتواضع لعظمته ويحاسب نفسه على أخطائها فيزداد إيماناً وصفاء، هذا بالإضافة إلى كونه يفتح آفاق المعرفة والتعلم في جميع أمور الحيات.
وإذا تساءلتم أخيرا: كيف نربي أنفسنا على التفكر؟ أقول في الجواب: نربي أنفسنا على التفكر بأن يخلو أحدنا بنفسه في بعض الوقت ويفكر في حاله وفي عمله وفي سيره إلى الله عز و جل، ويطرح على نفسه هذه الأسئلة: هل هو مصيب أو مخطئ، وإذا أقدم على مشروع، فإنه ينبغي أن يجلس مع نفسه ويفكر ويتساءل، هل هذا العمل صحيح؟ هل هو صواب؟، هل عليه فيه تبعات؟ فالمسلم الصادق هو دائم التفكير والنظر،
وهناك أمر آخر يساعد على التفكر وهو أن تعود نفسك أن تفكر، إذا قرأت كلاماً فحلل هذا الكلام، ما معنى هذا الكلام؟ هل هذا الكلام مسلم؟ هل هذا صحيح؟ ولا تكون إمعة، إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت، وما تسمعه في المجالس أعمل فكرك وعقلك فيه، قال بعض السلف: عودوا أعينكم البكاء وقلوبكم التفكر، ومن الأمور المساعدة مزاولة بعض الأشياء التي تعينه على الفكرة، مثلاً الإمام الشافعي رحمه الله عرف عنه أنه كان يحمل عصاً معه إذا مشى، فقيل له أنت قوي فما حاجتك للعصا؟ فقال: “تذكرني أني مسافر”، والمسافر في ذلك الزمان كان يحمل العصا معه، فيقول: أتذكر أني مسافر دائماً، وهكذا أخي الكريم أختي الكريمة عود نفسك على زيارة المقبرة فإنها تذكرك الآخرة، هذا مما يعين على التفكير، وانظر في آيات الله الكونية وفي آياته المتلوة، واقرأوا في التواريخ، وأخبار الأمم والشعوب والأجيال التي انصرمت وما مر عليها من بؤس وسعادة وحروب طاحنة وفتن وملاحم ومشكلات، وانظروا في هذه الأمور، فالعقل ينمو ويكبر بما يحصله من التجارب، وعمر الإنسان قصير، فإذا نظر في القرون التي قبله استجمع شيئاً كثيراً من دعائم العقل، فيكون الإنسان كأنه قد مر بكثير من التجارب، كأنه عاش ألف سنة أو آلاف السنين
أيها الإخوة الكرام، إن هناك شروطا مساعدة على التفكر، أهمها التقوى وترك الفضول من القول والعمل، والمداومة على تدبر القرآن الكريم، والمداومة على الاعتبار وتذكر منازل الآخرة، والمداومة على إعمال العقل والتأمل، وطلب العلم وإعمال النظر فيه وتعليمه للناس، والحمد لله رب العالمين.