كيف يمكن ألا يخزيك الله أبدا؟
كيف يمكن ألا يخزيك الله أبدا؟
الدكتور مولاي عبد المغيث بصير
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، إن من أهم ما يطلبه الواحد منا في دار الدنيا والآخرة، هو أن لا يخزيه الله أبدا، أو يرده خائبا، أو يتخلى عنه أو يعرضه لمواقف يهان فيها أو يفتضح فيها أمره، أو يلحقه خزي أو عار أو خجل، وتجد الواحد منا يطلب كل ما تسعد به حياته، ويبقيه مزهوا فرحا مرفوع الرأس بعيدا عن الضنك، أو ما يكدر صفو الحياة، بأن يظل سالما آمنا على نفسه من كل شيء يتهدده، أو يوصل الحُزن إلى قلبه ووجدانه، وبالجملة كل مايقي مصارع السوء ويؤمن من كل مكروه وسوء، وهل تعلمون عباد الله كيف يمكن تحصيل ذلك ويؤمن من مختلف الأسواء والمهالك؟
أقول في الجواب:يمكن تحصيل كل هذه الخيرات وهذه البركات في رحاب الأخلاق النبوية التي جبل عليها سيد الوجود سيدنا محمد ﷺ قبل بعثته، وأكدها بجميل خصاله ووصاياه بعد بعثته.
هذه الأخلاق النبوية العظيمة التي أخبرت بها زوجه أم المؤمنين سيدتنا خديجة رضي الله عنها،لما حدثها بشأن الملك الذي نزل عليه بغار حراء في ابتداء أمره، وجاءها ترتعد فرائصه، وقال لها معبرًا عن خشيته:”لقد خشيتُ على نفسي”، تأملوا ودققوا في هذه القولة:”لقد خشيت على نفسي”، وكل واحد منا قد يتعرض لمواقف في هذه الدنيا، وربما بعد حين في الآخرة، سيضطر لأن يقول: “لقد خشيت على نفسي”، فأصغوا السمع إلى جواب أم المؤمنين، وكيف يمكن أن تطمئن على نفسك،.. فأجابته بقولها البلسم الشافي مؤكدة له عناية الله به، مدللة على خصال كريمة يتصف بها المصطفىﷺ، وسلوكيات طيبة يمارسها في مجتمعه:” كلا، أبشر، فو الله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، والكل هو من لا يستقل بأمره،كالضَّعيفُ المُنقَطِعُ واليتيمُ، وتَكسِبُ “المَعدومَ” أي: تُعطي النَّاسَ الفقراء ما لا يَجِدونَه عند غَيرِك،وتقري الضيف، أي: تُهَيِّئ له طعامَه ونُزُلَه، وتعين على نوائب الحق، أي حوادثه”.
فقد وضحت له أن الله لن يخزيه أبدا في الدنيا والآخرة لعلة واحدة، هي أنه مواظب على جملة من العبادات الاجتماعية، فلن يخزي الله ولن يخيب الله من وصل الرحم، وصدق الحديث، وحمل الكَل، وأكرم الضيف، وأعان على نوائب الدهر، فهذا القلب الكبير الذي يحمل كُل هذا الخير للناس لا يخزيه الله ولا يخيبه الله، وهو تماما ماعبر عنه رسول الله ﷺ فيما رواه الحاكم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه: “صنائع المعروف تقي مصارع السوء”. فأين نحن من هذه الأخلاق اليوم؟ وكيف نطلب أن لا يخزينا الله أبدا ونحن غير متحققين بها؟ وكيف لنا أن نتحقق بها؟
أول تلكم الأخلاق صلة الأرحام، بالسؤال عنهم وزيارتهم وزيارة من قطعك منهم على الخصوص، والعطف والتصدق على الفقراء والضعفاء منهم، وأن تكون سندا ووتدا لهم، واحرص ألا يسمعوا منك إلا كل خير، وألا يروا منك إلا كل صلاح، وكن لكبيرهم ابنا، ولصغيرهم أبا، ولصاحبهم أخا، وأنبه في هذا المقام إلى جملة أمور في علاقة الأرحام بعضهم ببعض، وهو الحرص على تجنب مايهدم العلاقات، ويقطع الصلات، من سائر أنواع الإذايات.
وثاني هذه الأخلاق،صدق الحديث، وهي من أشرف الخصال التي كادت أنتفقد، وذلك بأن لا تكذب أبدًا، ولا تغش أبدًا، ولا تزور شهادة، ولا تدلس مقالة، وكل ما في معنى ذلك.
وثالث هذه الأخلاق، أنتحمل الكَل، وهو العاجز والضعيف كما سبق بيانه، بأن تُعينه وتحمل عنه همومه وحاجته وتقضي مسألته، وترحم ذلته، وتسعد قلبه.
ورابع هذه الأخلاق، إقراء الضيف، وذلك بإكرام الناس إذا نزلوا بدارك، وحلوا بحضرتك،بتحضير أشهى الأطعمة، وتجهيز النمارق و الأفرشة، وتقضي حاجاتهم، فإن بات الضيف بدارك بات آمنًا عزيزًا، وإن انصرف فمُكرم مسرور.
وخامس هذه الأخلاق، العون على نوائب الدهر، فإذا جاءك من يطلب العون تعينه على نائبته، وإذا جاءك مكروب تعينه على كربته.
عباد الله، إن أصحاب هذه الصنائع الخيرية، ما كان الله ليخزيهم، وما كان ليكلهم إلى عدو بعيد، أو إلى قريب ظالم، هم أحق بالتمكين، وأولى بسعادة الدنيا والآخرة، وكان حقًّا على الله أن يسخر لهم من خلقه من ينصرهم ويؤازرهم، حتى ينعم صناع الخير في ظلال الله
فاصنع خيرًا وأحسن إلى القريب والبعيد يسعد الله قلبك، ولا يخزيك أبدا، أسأل الله أن يوفقنا للتخلق بأصول مكارم الأخلاق، أمين أمين أمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد فيا عباد الله، وإذا تأملنا في حياة الصحابة الكرام رضي الله عنهم وفي حياة سلفنا الصالح، نجدهم تشربوا وتحققوا بهذه الخصال، فهذا سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، يُبتلى فيخرج مهاجرًا نحو أرض الحبشة، كما أخبرت بنته أمنا عائشة رضي الله عنها حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة، وهو من سادة قريش، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض، فأعبد ربي، فقال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج، ولا يُخرج مثله، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار، فأرجع فاعبد ربك ببلدك، فأنفذت قريش جِوار ابن الدغنة. وذكر في سيرة سيدنا أبي بكر رضي الله عنه أنه كان يحلب للحي أغنامهم، فلما استخلف، أي أصبح خليفة للمسلمين،قالت جارية منهم: الآن لا يحلبها، فقال أبو بكر: بلى وإني لأرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن شيء كنت أفعله. وهذا العلامة العز بن عبد السلام رحمه الله رغم فقره، كان كريمًا كثير الصدقات، فيحكي أنه لما كان بدمشق،وحدثت ضائقة، وعانى الناس من قلة المال، وانخفضت أسعار البساتين فأعطته زوجته مصاغها أي حليها، وقالت: اشتر لنا بثمنه بستانًا نصيف فيه، فأخذ المصاغ وباعه وتصدق بثمنه، فسألته زوجته: هل اشتريت لنا بستانا؟قال: نعم، بستانًا في الجنة، إني وجدت الناس في شدة فتصدقت بثمنه، فقالت: جزاك الله خيرًا،
عباد الله، فاقتدوا بنبيكم وسلفكم تسعدوا، واغتنموا أيام هذا الشهر الفضيل المبارك وعودوا إلى إحياء هذه الخصال والأخلاق الطيبة المباركة في زمان يشكو أزمة الأخلاق بشكل عام، لعل الله تعالى يضمد جراحنا ويزيل أوجاعنا ويقينا كل مكروه وسوء ويديم سعادتنا في الدنيا والآخرة.والحمد لله رب العالمين.