دروس من غزوة بدر/ عيد العمال
دروس من غزوة بدر/ عيد العمال
الأستاذ مولاي يوسف المختار بصير
الحمد لله، الحمد لله وحده، نصر عبده، وأيد جنده، وأنجز وعده فقال سبحانه: “لقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة”، نحمده تعالى ونشكره على نعمه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، سيد المجاهدين، وإمام الشجعان المقاتلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين باعوا أنفسهم وقدموا أموالهم وأرواحهم فداء ودفاعا عن الحق فكانوا من المهتدين، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون، لقد شاء الحق عز وجل أن يشرّف شهر رمضان بأكثر من تشريف، شرفه بأعظم حدث شهدته هذه الأرض وهو نزول القرآن، وشرفه بهذه العبادة العظيمة عبادة الصيام، وشرفه بأن كان شهر انتصار المسلمين في أول منازلة حاسمة بين الإيمان والكفر، وإنه لمن المناسب أن يتذكر المسلمون كل عام الوقائع الإسلامية الفاصلة التي صادفت يومًا من أيام هذا الشهر المبارك وهي كثيرة، كالحبل الموصول يبدأ طرفه الأول بغزوة بدر الكبرى، التي تحل بنا اليوم السابع عشر من رمضان ذكراها، والتي سماها القرآن الكريم بيوم الفرقان، وإننا أيها الإخوة المؤمنون لا نريد الوقوف من خلال هذه الخطبة على تفاصيل غزوة بدر ، فتفاصيلها موثقة في كتب السنة والتاريخ، لكن ما يهمنا من تذكرها هو الوقوفَ على نتائجها، واستخلاصَ العبر منها، باعتبارها أول معركة للمسلمين ضد كفار قريش، ولو أنها لم تكن مقصودة لذاتها، وإنما كان القصد منها تعرض المسلمين لقافلة تجارية لقريش قادمة من الشام متجهة لمكة، بقيادة أبي سفيان يعوض بها المسلمون بعض ما أخذت منهم قريش عندما هاجروا من مكة، فخرج رسول الله بنفسه في ثلاثمائة وخمسة عشر رجلاً، ولم يكن معهم سوى سبعين بعيرًا وفرسين، ولما سمع قائد القافلة أبو سفيان، بادر بالإستنجاد بقريش لحماية القافلىة التجارية وفي نفس الوقت حول اتجاهها من طريق مكة إلى جهة البحر، لكن صناديد قريش أبوا إلا الحضور إلى بدر ليس لحماية القافلة التجارية وإنما لمحاربة المسلمين والقضاء عليهم، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار والمهاجرين الذين خرجوا معه لتعرض القافلة في أمر الحرب ضد قريش، فتكلم المهاجرون فأحسنوا، ثم استشارهم ثانية فتكلم المهاجرون، ثم ثالثا فعلم الأنصار أن النبيّ إنما يعنيهم، فقال سعد بن معاذ وكان قد دفع إليه النبي صلى الله عليه وسلم راية الأنصار كما دفع راية المهاجرين لمصعب بن عمير وعلي بن أبي طالب، قال سعد بن معاذ: كأنك تُعرض بنا يا رسول الله، وكأنك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقًا عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم: فأمض بنا حيث شئت، وصِل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا منها ما شئت، وما أخذت منها كان أحبُ إلينا مما تركتَ، فو الله لئن سرت بنا حتى تبلغ البَرْك من غمدان (أقصى الجزيرةـ) لنسيرن معك، ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك، فأشرق وجه الرسول صلى الله عليه وسلم بما سمع منهم وقال: “سيروا وأبشروا، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، وإني قد رأيت مصارع القوم”. فلما طلعت قريش، وكانوا خمسين وتسعمائة مدججين بالسلاح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اللهم هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها، تجادل وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني”، وقام ورفع يديه واستنصر ربه وبالغ في التضرع، واستنصر المسلمون كلهم، وتهيئوا، فلما أصبحوا أقبلت قريش بكتائبها والتقى الجمعان، فمنح الله المسلمين أكتاف المشركين، فتناولوهم قتلاً وأسرًا، وانجلت المعركة عن نصر عظيم للمسلمين، فقُتِل من المشركين سبعون، معظمهم من صناديد قريش وأشرافهم، وعلى رأسهم أبو جهل، وأُسِر مثلُ العدد، بينما استشهد من المسلمين أربعة عشر. وكان لنصر بدر ما بعده في تاريخ الدعوة الإسلامية ومسيرة الدولة الإسلامية، وكلُّ التطورات التي جاءت فيما بعد مدِينةٌ لهذا اليوم الفاصل، وصدق الشاعر إذ يقول: إذا قامت الدنيا تعد مفاخرا *** فتاريخنا الوضاء من بدر ابتدأ. وصور الله تعالى هذا النصر العظيم في قوله: “وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ، بَلَىٰ ۚ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ ۗ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِين”، ايها المسلمون، من الدروس المستفادة من غزوة بدر نسجل أن هذا الإنتصار ينقلنا من حدث تاريخي جزئي إلى تاريخي نموذجي، يشارك في إعداد الفئة المؤمنة التي تنهض بمثل ما نهضت به الجماعة المسلمة الأولى من نصرة الإسلام ونشر دعوته. ونستخلص أيضا ما ينبغي أن نكون عليه دائمًا، وهو الاستعداد للجهاد، الذي يشبه استعداد المهاجرين والأنصار لملاقاة المشركين وإن لم يكونوا خرجوا لقتال، فالجهاد قبل أن يكون منازلاتٍ ومعاركَ حربية، فهو استعداد وتهيؤ دائم، والإسلام بكل تعاليمه جهاد، فالصلاة جهاد، والصيام جهاد، والزكاة جهاد، والحج جهاد، وطلب العلم جهاد، والدعوة جهاد، والصمود أمام الفتن جهاد. ومع الجهاد تكون عزة النفس، ويكون الجد وإتقان العمل. وتبقى تلك الأحداث دروسًا للأجيال ينهلون من عبرها ما يقوي عزيمتهم لبلوغ غاياتهم، ومن دروس غزوة بدر نأخذ كذلك شروط النصر وأسباب الهزيمة، وأن ذلك كله يقع وفق سنن الله. وكذلك نستخلص من بدر عاقبة الإخلاص والصدق، وعاقبة الكبر والرياء والشهرة. ونأخذ من بدر أن قيمة كل مسلم بحسب بلائه في الإسلام وعمله لإظهار الوجه المشرق لأمة الإسلام، الأمةِ المجتهدة المتضامنة، وليس الأمة المتكاسلة، التي تقضي نهار رمضان في النوم، وليله في السهر، والعالم من حولنا يتقدم بالدقائق والثواني ويستثمرها لرقي المجتمعات، فأعداؤنا اليوم كثر يجب علينا جهادهم، أعداؤنا ليسو بشرا تحارب بالسيوف والطائرات والمضرعات، وإنما أعداؤنا هم الجهل الذي نحاربه بالعلم والتعلم، والمرض الذي نحاربه بالحيطة لمن هم أصحاء والإلتزام بضوابط الحجر الصحي في هذا الأوان، وبالتضامن والبدل لفائدة المرضى والمعوزين والمستشفيات، والفقر الذي نحاربه بالجد والإجتهاد والإستثمار في المشاريع التي تهدف إلى القضاء على البطالة وتدر الدخل على الأسر حتى تزدهر أمتنا ويكون انتصارها في هذه التحديات امتداد لإنتصارات سلفنا الصالح في غزوة بدر وغيرها. فاللهم أعز الإسلام والمسلمين وأعل بفضلك كلمة الحق والدين، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب، آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
أما بعد، أيها الإخوة المؤمنون، بعد غد إن شاء الله تعالى يحتفل العالم كله بالعمال والعاملين، وهو عيد لتنويه وتشريف العمال والكادحين المجدين، وتكريم لهم جزاء ما ينجزونه للبشرية من خلال ما يقومون به من أعمال سواء كانت إدارية أو تجارية أو صناعية، لأن كل عامل يضع بعمله لبنة في صرح بناء مجد المجتمع، وديننا الإسلامي رفع من قدر العاملين الكادحين الذين يطلبون الرزق من عرق جبينهم بطرق الحلال، أولئك الذين يتقنون أعمالهم، ويتفانون في إنجاز المهام المنوطة بهم على أحسن وجه، يرجون به الفوز بما اذخره الله تعالى للمخلصين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفورًا له”، ويقول الله تعالى: “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون”. فهنيئا لك أيها العامل، الذي أخلص في عمله طاعة لله، وهنيئا لك أيها الصائم العامل الذي جعل من يوم صومه يوما للبذل والعطاء والإخلاص في الوظيفة والعمل، ولم تتذرع برمضان وبفريضة الصيام لتأخير مصالح الناس والأمة، واعلم أخي العامل، بأن حياتك هي إنجازاتك التي عملتها، وبها يبقى ذكرك مخلدا حين يقال: رحم الله فلانا، فاللهم وفقنا للإخلاص في العمل، واجعلنا من عبادك الذين تشكر صنيعهم، وترضى أعمالهم بقولك: “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون”. الدعاء
خطبة الجمعة من مسجد الحسنى عين الشق، الجمعة 17 رمضان 1442 موافق 30 أبريل 2021