ظاهرة التسول واستغلال الأطفال في ذلك
ظاهرة التسول واستغلال الأطفال في ذلك
الدكتور مولاي عبد المغيث بصير
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لاأحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله،إن من الظواهر السلبية المؤرقة المحيرة للعقلاء من أهل المجتمع، والتي أضحت تشكل عائقا حقيقيا من عوائق نهضة مجتمعنا وتنميته على كل المستويات، ظاهرة التسول بشكل عام، واستغلال الأطفال في التسول بشكل خاص، فإذا عرفنا حسب بعض الإحصائيات أن واحدا في كل ثمانين فرد تقريبا يتسولون في مجتمعنا، وأن حوالي اثنين وستين في المائة من هؤلاء جعلوا التسول حرفة ومهنةووظيفة رسمية لهم، أضف إلى ذلك التظاهر بالفقر والفاقة والعوز، في حين أن الحقيقة تخالف ذلك، علاوة على التحايل والكذب على الناس من أجل الظفر بصدقاتهم، فهذا يعرض ورقة خروجه من المستشفى واحتياجه للدواء، وذلك يدلي بحكم يقضي عليه بالإفراغ وأداء الكراء، وثالث ورابع يبدي عاهة قائمة به أو مصطنعة تستلزم مزيد الاهتمام والعناية، وهذا يصطحب معه طفلا أو أطفالا يتظاهر بأنه لايجدمايعيلهم به، إلى غير ذلك من الأساليب والحيل والأكاذيب المختلفة التي أضحت لا تنطلي إلا على السدج من الناس. وفي هذا المقام ينبغي أن يعلم الجميع أن حوالي خمسة وعشرين ألف طفل متشرد، غالبيتهم يستغلون في احتراف التسول من قبل آخرين، قد يكونون آباءهم وقد يكونون غير ذلك من الذين يستغلون الأطفال القاصرين الأقل من أربع سنوات، حيث أضحوايوفرون لهم دخلا لا بأس به خلال كل يوم، وخاصة في الأيام الفضيلة كالجمعة والأعياد، فكيف ينبغي أن نفهم الظاهرة على ضوء تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف؟ وكيف ينبغي أن نتعامل معها؟ ومن هو السائل الذي ينبغي التصدق عليه؟
عباد الله، روى الإمام مسلم في صحيحه، أن النبي ﷺ قال:”من سأل الناس من غير فاقة نزلت به، جاء يوم القيامة بوجه ليس عليه لحم”. فمن المعلوم بالضرورة أن دين الإسلام يدعو المسلمين إلى العمل من أجل الكسب الحلال ويحثهم عليه، ويحضهم على اتخاذ الحرف وتعلم الصنائع ليعفوا بها أنفسهم ويغنوا عيالهم، ويكره الإسلام للمسلمين الكسل والبطالة واحتراف التسول ومد اليد بالمسألة.روى ابن حبان في صحيحه أن النبي ﷺ قال: “من سأل الناس شيئا وعنده مايغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم، قالوا يارسول الله ومايغنيه؟ قال: مايغذيه أو يعشيه”، فتأملوا عباد الله إلى أي حد يمنع الإسلام احتراف التسول، ويحذر من مغبته حتى لا يألف المسلمون الكسل ومد اليد إلى الغير، وانظروا كيف اعتبر الإسلام أن ما يأكله المتسول الذي يملك ما يكفيه نصف يومه نارا ملتهبة يدخلها إلى بطنه، فبالأحرى إن كان يملك قوت أسبوع أو شهر أو عام.وروى الإمام أحمد وغيرهأنه جاء رجل من الأنصار يسأل النبي ﷺ، فقال له :”أما في بيتك شيء قال: حلس وقعب، قال: إئتني بهما، فباعهما ﷺ بدرهمين وقال له: اشتر بأحدهما طعاما لأهلك، وبالآخر قادوماوائتني به فلما أتاه بالقادوم، شد فيه ﷺ عودا وقال له: اذهب واحتطب ولا أراك خمسة عشر يوما، ولما عاد الأنصاري ومعه خمسة عشر درهما قال له ﷺ، هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لاتحل إلا لثلاث: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع”، وهكذا كان فقراء المهاجرين من صحابة رسول الله ﷺ يستعفون ولا يسألون، فاستحقوا مدح المولى عز وجل حين قال:” للْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا”، قال علماء التفسير: وكانوا رضي الله عنهم في المسجد ضرورة، وأكلوا من الصدقة ضرورة، فلما فتح الله على المسلمين استغنوا عن تلك الحال وخرجوا ثم ملكوا وتأمروا.
عباد الله، فإذا كان ديننا يشدد الكلام على محترفي التسول بشكل عام، فما بالكم بامتهانه أو استغلال الأطفال والقاصرين من خلال توظيفهم أبشع الاستغلالات للظفر بالمال؟ أطفال في سن يحتاجون فيها إلى الرعاية والتعليم والتربية والتهذيب والمتابعة، نقتل كرامتهم ونعلمهم مد اليد والتسول منذ الصغر، فكيف نريد أن نرى هذا الجيل وهذا المجتمع بل هذا الوطن في مستقبل الأيام؟ وهل خلق هؤلاء الأطفال لضمان رزق آبائهم؟ إلى متى سنبقى نعطي المال لهؤلاء وأمثالهم لكي يخرجوا لنا جيلا فاشلا من الأطفال؟
عباد الله، اعلموا أننا عندما نتصدق على الأطفال أو من يتسول بهم،نساهمشعرنا أو لم نشعر في ضياع الأطفال، وفي ظواهر سلبية أخرى متصلة بهم كالتشرد والضياع والاستغلال الجنسي وغيرها…
أناشدكم بالله عباد الله، إذا قصدكم طفلا يتسول، أو من يتسول به، فلا تعطوهم ولا تشجعوهم، فإنكم بذلك تساهمون في خراب المجتمع وإعاقة نهضته وتنميته. أسأل الله عز وجل أن يبصرنا بعيوبنا، وأن يصلح أحوالنا أمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد فيا عباد الله، إن الإسلام دين العطف والرحمة لا محالة، ولكنه يريد أن يصادف العطف محله، وعليه فإن المسكين الذي يجب البذل له والعطف عليه، هو ذاك الذي قعد به العجز والمرض عن السعي على نفسه وعياله بعمله، أو سعى بكل مايستطيع فلم يجد عملا، إنه ذاك الذي إن نظرت إليه أدركت أنه لا يجد غنى يغنيه، إنه أحيانا شيخ عجوز كبير، وأحيانا طفل يتيم صغير، وأحيانا ضرير مريض لا يفارق السرير، وأحيانا رجل مكروب طافت به الهموم وأحاطت به الديون من كل جانب، فما أجمل الصدقة وما أحسن العطاء لهذا النوع الذي يستحي أن يريق دم وجهه وماء عينيه، هذا هو المسكين الحقيقي شريف النفس الموصى به، والمؤكد على إعانته شرعا، سئل الإمام الحسن البصري رحمه الله: إن الفقراء قد كثروا فمن نعطي منهم؟ قال: أعطوا من وجدتم في قلوبكم رأفة له.وهذا تماما مصداق ما يعنيه قوله عز وجل:”وأما السائل فلا تنهر”،وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: “السائل بريد الآخرة، يجيء إلى باب أحدكم فيقول: هل تبعثون إلى أهليكم بشيء”. وروي أن النبيﷺقال: “ردوا السائل ببذل يسير، أو رد جميل، فإنه يأتيكم من ليس من الإنس ولا من الجن، ينظر كيف صنيعكم فيما خولكم الله”، ويشهد لهذا الحديث،الحديث المشهور بحديث الأعمى والأبرص والأقرع، الذين بعث الله إليهم السائل في صورة ملك بقصد اختبارهم.
ختاما عباد الله، قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: “سؤال الحاجات من الناس هي الحجاب بينك وبين الله تعالى، فأنزل حاجتك بمن يملك الضر والنفع، وليكن مفزعك إلى الله تعالى يكفيك الله ما سواه وتعيش مسرورا”، والحمد لله رب العالمين.