حياة سلفنا الصالح في علاقتهم بشهر رمضان

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك

ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله، خير نبي أرسله أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى، وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، لقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان الإكثار من أنواع العبادات، فكان يهتم بالقرآن في رمضان، وكان أجود ما يكون في رمضان، يكثر فيـه الصدقة والإحسان والصلاة والذكر والاعتكاف، وكان يخص رمضان من العبادة ما لا يخص غيره به من الشهور، وثبت عن الكثير من السلف الصالح كما تعلمون أنهم كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم”، حرصا منهم على مافي شهر رمضان من الخيرات.
أيها الإخوة الكرام، هاهو ذا شهر رمضان قد مضى منه الثلثان، ولم يتبقى منه سوى تسعة أو عشرة أيام، فهل ياترى وفقنا فيه لصالح الأعمال؟ أو أمضيناها في الفضول ومنكر الأقوال؟ وهل ياترى شعرنا بلذة العبادة والأنس بالله، أم أننا أديناها عبادات شكلية صورية لم تسجل لنا أي حضور أو اتصال؟ فياسعد من تغير حاله نحو الأحسن في علاقته بالخالق وخلقه، وياسعد من تقبلت منه أعماله وظفر بالمغفرة والرحمة والعتق من النار، وياسعد من اتخذ قرارا ليكون إنسانا آخر، ليكون قريبا من الله على الدوام حتى يسلم الروح إلى بارئها وياتيه اليقين، فكيف كان حال السلف الصالح في هذا الشهر الفضيل؟
أيها الإخوة الكرام، لقد رأيت من المستحسن في بداية هذه العشر الأواخر أن نذكر أنفسنا بشيء من حياة سلفنا الصالح في علاقتهم بشهر رمضان، حتى يزداد إيماننا، وتقوى صلتنا بخالقنا وتقوى عزائمنا وتشحذ هممنا علنا نقتدي بهم ونتشبه بأحوالهم، وإنما الأعمال بالخواتيم كما يقال، لقد كان للسلف في كل باب من أبواب القربات أوفر الحظ، وخلاصة رمضان السلف الإمساك عن تعاطي جميع المفطرات الحسية والمعنوية، وفعل ما يرضي الله، يحتسبون النوم كما يحتسبون اليقظة، يتنافسون في الطاعات والقربات، ويفرون من مقاربة المعاصي والسيئات، يحفظون صيامهم من جميع المفطرات، يعملون بكتاب الله وسنة رسوله، ويوصي بعضهم بعضاً بأن لا يكون يوم صوم أحدهم كيوم فطره،
أيها الإخوة الكرام، سأضرب لكم أمثلة عن حال السلف رحمهم الله في رمضان مع الكثير من العبادات التي ذكرناها آنفا، ففيما يتعلق بالصلاة وقيام رمضان، أقول مبتدئا بسيد السلف نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام، قالت أمنا عائشة رضي الله عنها:لا تدع قيام الليل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدعه، وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعداً، وأخرج البيهقي عن السائب بن يزيد قال: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبَي بن كعب وتميما الداري رضي الله عنهما أن يقوما للناس في رمضان، فكان القاريء يقرأ بالمئين، حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلاَّ في بزوغ الفجر، وهنا أحب أن أنبه إلى أنه يستحسن أن يكمل أحدنا التراويح مع الإمام حتى يكتب في القائمين، فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أهل السنن: من قام مع إمامه حتى ينصرف كتب له قيام ليلة.
وكان من حال السلف الصالح في رمضان الإكثار من الصدقة وإطعام الطعام، وكان سيد السلف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، كان أجود بالخير من الريح المرسلة، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الترمذي عن أنس أفضل الصدقة صدقة في رمضان، وكان السلف الصالح يحرصون على إطعام الطعام ويقدمونه على كثير من العبادات، سواء كان ذلك بإشباع جائع أو إطعام أخ صالح، ولا يشترط في المطعم الفقر، وقد قال بعض السلف لأن أدعو عشرة من أصحابي فأطعمهم طعاماً يشتهونه أحب إلى من أن أعتق عشرة من ولد إسماعيل، وعبادة إطعام الطعام، ينشأ عنها عبادات كثيرة منها التودد والتحبب إلى المسلمين الذين أطعمتهم فيكون ذلك سبباً في دخول الجنة،كما ينشأ عنها مجالسة الصالحين واحتساب الأجر في معونتهم على الطاعات التي تقووا عليها بطعامك.
أيها الإخوة الكرام، وكان من حال السلف الصالح في رمضان الاجتهاد في قراءة القرآن، وشهر رمضان له خصوصية بالقرآن، وبذلك فقد كانوا يكثرون من قراءة القرآن والبكاء عند قراءته أو سماعه خشوعاً وإخباتاً لله تبارك وتعالى، وتعلمون جميعا أن جبريل عليه السلام كان يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان، وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يختم القرآن كل يوم مرة، وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان كل ثلاث ليال، وبعضهم في كل سبع، وبعضهم في كل عشر، فكانوا يقرءون القرآن في الصلاة وفي غيرها، فكان للشافعي في رمضان ستون ختمة، يقرؤها في غير الصلاة، وكان الزهري والإمام مالك إذا دخل رمضان يفرون من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم ويقبلون على تلاوة القرآن من المصحف، ومن الفوائد التي أحب أن أفيدكم بها فائدة ذكرها ابن رجب رحمه الله، يقول: وإنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان خصوصا الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر أو في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناما للزمان والمكان.
أما حالهم في البكاء عند تلاوة القرآن، فإنه لم يكن من هدي السلف هذّ القرآن هذّ الشعر دون تدبر وفهم، وإنما كانوا يتأثرون بكلام الله عز وجل ويحركون به القلوب، ولايحصى عدد السلف الذين ذكرت لهم مواقف ووقفات مع آيات من كتاب الله تعالى ولم يستطيعوا تجاوزها إلى غيرها، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم

 

الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد فياعباد الله، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: “إذا صمت فليصم سمعك وبصرك، ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء”، وبذلك فقد كان من شأنهم حفظ اللسان وقلة الكلام وتوقي الكذب والتخلق مع الناس، وكان من الأمور التي يحرصون عليها تحري ليلة القدر، قال الله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ  لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ”، وقال صلى الله عليه وسلم في المتفق عليه: من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى ليلة القدر ويأمر أصحابه بتحريها وكان يوقظ أهله ليالي العشر رجاء أن يدركوا ليلة القدر، وفي المسند عن عبادة مرفوعاً من قامها ابتغاءها ثم وقعت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وورد عن بعض السلف من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يغتسلون ويتطيبون في ليالي العشر تحرياً لليلة القدر التي شرفها الله ورفع قدرها.
ومما كانوا يحرصون عليه وهم يؤدون هذه العبادات الإخلاص لله عز وجل، نعم الإخلاص فكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش؟ وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر والتعب؟ ولذلك نجد النبي صلى الله عليه وسلم في الكثير من الأحاديث الواردة في فضل شهر رمضان قوله: إيماناً واحتساباً”، وقد حرص السلف على إخفاء أعمالهم خوفاً على أنفسهم، فهذا محمد بن واسع يقول: لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة وقد بلّ ما تحت خده من دموعه، لاتشعر به امرأته، ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي جنبه، قال عبدالعزيز بن أبي داود: أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح فإذا فعلوه وقع عليهم الهم: أيقبل منهم أم لا ؟
وكان السلف الصالح يحذرون من اللهو في رمضان وإضاعة الوقت وتقطيعه في غير طاعة الله، كما كانوا يحذرون الغفلة والإعراض عنه عز وجل، وكانوا يقللون من الطعام ويكثرون من الجلوس في المساجد للذكر والدعاء، قال ابن مسعود: ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي، وقال الحسن البصري: يا ابن آدم! إنما أنت أيام إذا ذهب يوم ذهب بعضك.
وأختم بما ذكره الحافظ الذهبي عن أبي محمد اللبان أنه: “أدرك رمضان سنة سبع وعشرين وأربعمائة ببغداد فصلّى بالناس التراويح في جميع الشهر فكان إذا فرغها لا يزال يصلي في المسجد إلى الفجر، فإذا صلى درّس أصحابه. وكان يقول: لم أضع جنبي للنوم في هذا الشهر ليلاً ولا نهاراً. وكان ورده لنفسه سبعا مرتلاً، والحمد لله رب العالمين.

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *