كما تدين تدان
بسم الله الرحمن الرحيم
كما تدين تدان
الأستاذ مولاي يوسف بصير
الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، ونهاه عن الغيبة والنميمة والكذب وآفات اللسان، وبشره بالفوز نظير ما قدمه من أحسن الأعمال، وحذره من عواقب الجزاء عن سوء الفعال، فقال: “فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره”، نحمده تعالى ونشكره على ما أولانا به من فضل وإحسان، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نرجو بها دخول الجنان، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المؤيد بالمعجزات والبرهان، بين من خلال سنته المطهرة ونهجه القويم أن “البر لا يبلى، والذنب لا ينسى والديان لا يموت، وأن الإنسان في هذه الحياة الدنيا كما يدين يدان”،صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كان شعارهم الصدق والإيمان، وسلم تسليما كثيرا ما تعاقبت الليالي وتوالت الأزمان،
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، اتقوا الله في أنفسكم، وتحفظوا من مغبة الجزاء على أعمالكم وأقوالكم، فإن كل ذلك محفوظ عليكم، ومسجل في كتاب عند ربنا الديان، “لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها”، يجازى المرء بما دونه فيه من أقوال وأفعال في الدنيا قبل الوقوف بين يدي الله عز وجل يوم يُدين كل امرئ بما كان قد دان.
أيها الإخوة المؤمنون، جاء في الأثر حديث تتداوله الألسنة لصحة معناه، لكنه ليس مرفوعا لسيد البشر صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى كما بينه علماء الحديث، يروى عن سيدنا أبي الدرداء (ض): “البر لا يبلى والذنب لا ينسى والديان لا يموت، اعمل ما شئت أو(فكن كما شئت) كما تدين تدان”، وفي شرح هذا الأثر يقول العلماء (ح) بأن البر لا ينقطع ثوابه ولا يضيع عند الله تعالى ويشمل كل أنواع الخير والعمل الصالح الذي يشكره الله تعالى لصاحبه في الدنيا قبل الآخرة، كما أن الذنب لا ينسى فهو مسجل لا يمحى إلا بتوبة نصوح يتبعها عمل صالح أو حسنات ماحية، وإلا فإن الله مجاز كل واحد بعمله جزاء وفاقا، فلينظر الواحد منا ما قدم من عمل، وليكن على يقين بأن الله تعالى مجازيه نظير ما قدم. أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، يغلط الكثير من الناس حينما لا يرون تأثير الذنب الذي عملوه أو شاهدوه من الآخرين، ويظن الواحد منهم أنه لا يغير بعد ذلك وأنه كما قال القائل:إذا لم يغير حائط في وقوعه… فليس له بعد الوقوع غبار، وما علموا أن الله تعالى يمهل عباده ولا يعجل لهم بالجزاء، بل يمهلهمليتوبوا ويستغفروا، ومن مواعظ الحكماء: “عباد الله الحذرَ الحذرَ! فوالله لقد ستر حتى كأنه غفر،ولقد أمهل حتى كأنه قد أهمل”، أيها الإخوة المؤمنون، كثيرا ما يحدث بعضنا نفسه، ويعود عليها باللائمة إذا وجد بأن كل الأبواب موصدة تجاهه، ويتساءل لماذا لا يوفقني الله لطاعته ؟ لماذا يجعلني من أهل معصيته؟ لماذا يبتليني بالأمراض والضعف في بدني ؟ لماذا يكدر عليّ معيشتي؟ لماذا لا يجعلني أشعر بالسعادة والفرح والسرور؟ لماذا يبتليني بالهموم والغموم والأحزان وضيق الصدر؟ لماذا يوقعني في المصائب والفشل والبلايا؟ لماذا يبتليني بالغضب وضعف البصيرة؟، ولو تأمل هذا المشتكي في ذلك، لعلم أن الآفة فيه والبلية منه، فسبب تلك الشرور والمصائب التي تحيط بالإنسان هي نفسه التي بين جنبيه ! قال تعالى “أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ “،وقال تعالى “مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ”، وقال تعالى: “وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ”، فالجزاء من جنس العمل، والحصاد من جنس البذرة، واعمل ما شئت فكما تدين تدان، فعلى الإنسان أن يكون له وقت يختلي فيه بنفسه وينظر إليها بنظر المعاتب ليرى بعين بصيرته بأن ما يعانيه من ضيق وشدة وموانع تحول بينه وبين ما يرجوه إنما هو من جنس ما يتعامل به مع عباد الله، والعكس صحيح، فكل من وجد في حياته فرجا وسعة وتوفيقا من الله تعالى لصالح العمل فليعلم بأن ذلك نظير وجزاء ما سعى إليه بين العباد من صالح الأقوال و الأفعال، فيا عبد الله، إذا وقعت في معصية،فاعلم أن ذلك منك لا من غيرك.وإذا نزل بك بلاء، فبسبب جهلك وظلمك.وإذا عشت في ضيق وهم وغمّ وكرب وخوف وقلق، فاعلم أن ذلك بسبب بعدك عن ربك، وإعراضك عن خالقك وفاطرك، فانظر في نفسك،ودققّ النظر، فسترى سبب ذلك لائحاً أمام عينيك. أما إذا لم تر ذلك، فالأمر كما قال البوصيري (ح):قد تنكر العين ضوء الشمس من رمدٍ *** وينكر الفم طعم الماء من سقم، قال تعالى “فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ”، أقول قولي هذا وأستغفر اله لي ولكم ولسائر المسلمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، أطباء القلوب، السالكين سبيل سيد المرسلين، كثيرا ما يحرصون على تلقين تلاميذهم مبادئ مراقبة الله تعالى والخشية من سريع عقابه ونقمه، على خاصته من عباده، فهو سبحانه وتعالى يغار أن تنتهك الحرمات، ويؤكدون على مبدأ، كما تدين تدان، تقوية للنفس وتزكية لها من الوقوع في المحرمات، وتدريبا لها على المبادرة لفعل الخيرات والمبرات سعيا إخلاصا في العبادة لرب الأرض والسماوات، وفي هذا المجال، أقص عليكم قصة لأحد الصالحين في البصرة، ربى أبناءه على سلوك الصراط المستقيم، سالكا في ذلك نهج نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم، مرة أراد أحد أبنائه السفر للتجارة خارج الوطن، فكان من جملة ما أوصاه به أن يحفظ الله عز وجل في خلوته وجلوته، وأن لا يغتر بما يجد من إباحية في سلوك الناس فينساق معهم، بل يوطن نفسه ويستشعر مراقبة ربه، وفعلا قام الولد بما أوصاه به والده، وخلال أيام سفر الإبن جاء سقاء لدار الرجل التقي الصالح، يريد تزويد البيت بما يحتاجونه يوميا من الماء، لكن لفت انتباه الرجل الصالح أن ابنته العفيفة الطاهرة المتربية على الأخلاق الرفيعة لما فتحت باب البيت للشاب السقاء انتهز فرصة وانتزع منها قبلة أو قبلتين وهي تدفعه عنها، ثم انصرف، ولم تكن تلك عادته، فبدأ الرجل الصالح يفكر في الأمر، ويٌسائل نفسه عن هذا الإبتلاء الذي حل ببيته، فلم يجد لذلك حلا، وانتظر لحين عودة ابنه من السفر، فبدأ الرجل الصالح يسأله عن سفره وعن مراقبته لله عز وجل في كل أحواله، وألح عليه في ذلك، وركز أسئلته عن العفة وغض البصر الذي أوصاه به قبل السفر، فما كان من الولد الصادق إلا أن قص على والده ما حصل له ذات ليلة وهو يخلو بنفسه، فإذا هو يبصر فتاة افتتن بجمالها، ونظر إليها فبادلته النظرة بأختها، وسعى إليها فقبلها قبلتين وهي راغمة مدافعة، فتذكر وصية والده وعاد أدراجه نادما مستغفرا عما بدر منه، حينها قال له والده الرجل الصالح: “لو زدت لزاد السقا”، أي لو زدت على ما فعلت، لفعل السقاء مثله ونظيره بأختك جزاء وفاقا، وكما يدين المرء يدان، فاللهم ألهمنا رشدنا، وردنا إليك ردا جميلا، الدعاء.