الخوف على الذرية بعد الموت وكيف تعامل معها السلف الصالح؟
الخوف على الذرية بعد الموت وكيف تعامل معها السلف الصالح؟
الدكتور مولاي عبد المغيث بصير
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، قال الله تعالى في كتابه الكريم:” وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدا”، وفي المتفق عليه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دخل على سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يعوده في مرض ألم به، قال: يارسول اللّه إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟، قال: لا، قال: فالشطر؟ قال: لا، قال: فالثلث قال: الثلث، والثلث كثير”، ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: “إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس”. هكذا إذن علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول إذا حضرنا أحدا يريد أن يوصي بماله.
عباد الله، إن الخوف على الذرية والأهل من بعد الوفاة بتركهم دون مال أو ثروة يعتمدون عليها في حياتهم، هي إحدى الإشكاليات المؤرقة للعديد منا، وحال الناس في ذلك متباين، فمن الناس من يسبل عمره وأوقاته وجهده وثرواته وممتلكاتهلزوجه وأولاده، حتى إذا أدركه الموت ورجع لتقييم علاقته بربه يجد بأنه سيقدم على خالقه صفر اليدين، وسيخلف تلك الأموال والثروات لمن لن يحسن التعامل معها، وسيصرفها في لحظات وقد جمعت خلال سنوات عديدات، ومن الناس من يفكر في وهب ماله لغيره وتقديمه لآخرته دون أن يترك شيئا لورثته، ومن الناس من يفكر في نفسه فقط، ويؤمل آمالا بعيدة في العيش، من خلال تكديس الثروات وامتلاكها، ويظن بأنه سيخلد في الأرض، حتى إذا أدركه الموت، ترك المال لورثته فأنفقوه فيما يصلح وفيما لايصلح، ويحاسب هو على القليل والكثير من ذلك، ومن الناس من يتوسط فيفكر تفكيرا مثاليا بترك جزء من ماله لورثته وتقديم جزء منه لآخرته، ومنهم من رزق الكفاف والعفاف والغنى عن الناس، فهو يسعى ليل نهار في تعليم أولاده وتربيتهم وربطهم بالخالق عز وجل، ويعطف على أولاد غيره من ضعاف الناس ويصدر نفعه إليهم، حتى إذا أدركه الموت ترك أولاده بزاد من العلم والمعرفة والأخلاق وحب الخير للغير، وشيء من المال، وخبرة لايستهان بها تؤهلهم للعيش في هذه الحياة في توازن تام بين الدنيا والدين وحب الناس لهم، هذه هيأحوال غالبية الناس بخصوص هذا الموضوع، فكيف ينبغي أن نفهم ذلك تبعا لتعليمات الدين؟ وكيف كان حال السلف الصالح بخصوص هذا الموضوع؟
عباد الله، إن غالبية الآباء ينشغلون بأمرالأبناء كما أسلفنا، فإذا ما توفّر للإنسان قُوت يومه تطلّع إلى قُوت العام كله، فإذا توفّر له قوت عامه قالأعمل لأولادي، فترى خير أولاده أكثر من خَيْره، وتراه ينشغل بهم، ويُؤثِرهم على نفسه، ويترقّى في طلب الخير لهم، ويودُّ لو حمل عنهم كل تعب الحياة ومشاقها،ومع ذلك فالإنسان عُرْضَة للأغيار، وقد يأتيه أجله فيترك وراءه كل شيء؛ ولذلك فالحق سبحانه من خلال الآية التي تم الاستهلال بها يدلّنا على وَجْه الصواب الذي ينفع الأولاد، فالإنسان حين يترك ذرية ضعيفة يتركها وهو خائف عليهم أن يضيعهم الزمان. فإن كان عندك أيها المسلم ذرية ضعيفة وتخاف عليها، فساعة ترى ذرية ضعيفة تركها غيرك فلتعطف عليهم، وذلك حتى يعطف الغير على ذريتك الضعيفة إن تركتها. واعلم أن ربنا رقيب وقيوم ولا يترك الخير الذي فعلته دون أن يرده إلى ذريتك.
حكى الشيباني رحمه الله قال: جلسنا يوما في جماعة من أهل العلم فيهم ابن الديلمي، فتذاكروا ما يكون من أهوال آخر الزمان. فقلت له: يا أبا بشر، ودي ألا يكون لي ولد. فقال لي: ما عليك، ما من نسمة قضى الله بخروجها من رجل إلا خرجت، أحب أو كره، ولكن إذا أردت أن تأمن عليهم فاتق الله في غيرهم؛ ثم تلا الآية. نعم فإذا أردت أن تأمن عليهم فاتق الله في غيرهم.
واجتمع مرةسيدنا معاوية وسيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنهما في أواخر حياتهما، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: ياأمير المؤمنين ماذا بقي لك من حظ الدنيا؟، فقال معاوية: أما الطعام فقد مللت أطيبه، وأما اللباس فقد سئمت ألينه، وحظي الآن في شربة ماء بارد في ظل شجرة في يوم صائف،وصمت معاوية قليلا وسأل عمرا: وأنت يا عمرو ماذا بقي لك من متع الدنيا؟ وكان سيدنا عمرو بن العاص صاحب عبقرية تجارية فقال: أنا حظي عين خرارة في أرض خوارة تدر عليّ حياتي ولولدي بعد مماتي، فهو يطلب عين ماء مستمر في أرض فيها أنعام وزروع تعطي الخير له ولأولاده من بعده، وكان هناك خادم يخدمهما، يقدم لهما المشروبات، فنظر معاوية إلى الخادم وأحب أن يداعبه ليشركه معهما في الحديث، فقال للخادم: وأنت يا وردان ماذا بقي لك من متاع الدنيا؟ أجاب الخادم: بقي لي من متع الدنيا يا أمير المؤمنين صنيعة معروف أضعها في أعناق قوم كرام لا يؤدونها إليّ طول حياتي حتى تكون لعقبي في عقبهم. لقد فهم الخادم عن الله قوله:”وَلْيَخْشَٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً”، فالذين يتقون الله في الذرية الضعيفة يضمنون أن الله سيرزقهم بمن يتقي الله في ذريتهم الضعيفة. أسأل الله عز وجل أن يتولانا وأهلنا وأولادنا بعين عنايته أمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة السلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد فيا عباد الله، يقول الحق سبحانه:” وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِـع عَّلَيْهِ صَبْراً”، فما قصة هذه الآيات؟ هذا جزء من قصة سيدنا موسى عليه السلام مع العبد الصالح في سورة الكهف، تبدأ من قوله تعالى:” فَٱنطَلَقَاحَتَّىٰ إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ ٱسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً”، وهي قصة قرية لئيمة أبت أن تضيف سيدنا موسى والعبد الصالح لما بلغ بهما الجوع مبلغه، ووجد العبد الصالح في هذه القرية جدارا يريد أن يسقط وينقض فأقامه، واعترض عليهسيدنا موسى؛ بحجة أنهما طلبا منهم طعاما فلم يطعموهما، تأملوا وتمعنوا،فلو أن الجدار وقع وهم لئام لا يطعمون الطعاملمن استطعمهم، ثم رأوا الكنز المتروك لليتامى المساكين بعد سقوط الجدار، فماذا سيصنعونبالكنز؟ دون شك سيغتصبوهوسيتركوا الغلامين بدون مال.
إذن فعندما رأى العبد الصالح الجدار سيقع، أقامه حتى يواري الكنز عن هؤلاء اللئام إلى الوقت الذي وقته الله إليه؛ لأن والد اليتيمين كان صالحا، وقد ذكر على أنه جدهم السابع، اتقى الله فيما تحت يده فأرسل الله له جنودا لا يعلمهم ولم يرتبهم ليحموا الكنز لولديه اليتيمين.
عباد الله، اتقوا الله في ضعاف الناس وفي اليتامى ولا تؤذوهم، وكلموهم كما تكلمون أولادكم بالأدب الحسن والترحيب وادعوهم بقولكم يا بني ويا ولدي،واعلموا أنه حين يتقي المؤمن الله في أولاد غيره من ضعاف الناس، يرزقه الله من يتقي الله في أولاده، والحمد لله رب العالمين.