مظاهر تجلي حقوق الإنسان في سيرة وشمائل الرسول ﷺ

الحمد لله رب العالمين القائل في التنزيل: ﴿ولقد كرمنا بني آدم﴾، وأفضل الصلاة والتسليم على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، القائل وهو الصادق الأمين:

«الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»، وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى صحابته أجمعين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وعلى ذريته إلى يوم الدين.
يا ملجأ الصادي جئتك ساعيا، ولذمة الآل راعيا، فاجعل حبيبك يوم حشري ساقيا، حاشا لجودك أن تقنط راجيا، الفضل أجزل والمواهب أوسع.
أما بعد، فما كان لمثلي أن يتكلم أمام المشايخ والعلماء، ولكنا آثرنا الطاعة على الأدب، فسامحوني، لأقول: الشكر والتقدير للسيد الوالي والسيد العامل، أيها الحفل الكريم، أشكر سيدي إسماعيل وسيدي عبد المغيث وسائر أحباب شيخنا الكبير الشريف سيدي المصطفى بصير رحمه الله، على جهودهم وسعيهم في خدمة الأمة ونشر الدعوة والعلم وخاصة تحفيظ القرآن وإحياء المواسم بزاويتهم المباركة، الزاوية البصيرية، وبهذا المؤتمر جعله الله خالصا لوجهه الكريم، ونفع به الحاضرين وكافة الأمة إنه سميع الدعاء.  
والله سبحانه وتعالى نسأله أبدا ودائما أن يغفر لنا ولسائر المسلمين، وأن يبطل كيد الظالمين، وأن ينصر عباده المومنين، خاصة شعب سورية الحبيبة، المظلومين الأبطال، وأن يرد عنهم أكف الظلمة، وأن يفرج عنهم ما هم فيه، عاجلا غير آجل، من تقتيل وتعذيب وتشريد وتهجير، ﴿وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا﴾، وأن يؤيدهم بنصر عزيز من عنده، وأن يلطف بنا وبهم بألطافه الخفية، وأن تكون لكل واحد منهم ﴿لا تخف نجوت من القوم الظالمين﴾، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
إن موضوع الحقوق يعني الدين كله، لأن معنى الحق العدل ووضع الشيء في محله، وإحقاق الحق وإبطال الباطل، ومعنى الظلم وضع الشيء في غير محله، والزيغ عن الطريق السوي، وأول دعاء جاء في القرآن الكريم، طلب الاستقامة والثبات على الصراط المستقيم ووصفه الله بالجادة المسلوكة وطريق خيرته من خلقه، وقال: ﴿ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا، وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما، ولهديناهم صراطا مستقيما، ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن ألئك رفيقا﴾، وخط رسول الله ﷺ، خطا مستقيما في الأرض وقال هذا سبيل الله مستقيما، ثم خط بيده خطوطا وقال هذه السبل، وليس منها إلا عليه شيطانا يدعو إليه، وكان ﷺ يتخوف لأمته من شر الدنيا أكثر من خوفه من الردة  والشرك.
فالدين هو اتباع الحق والهدى، كما أنه كف الظلم والخروج من الظلمات إلى النور تبعا لأولياء الله من النبيين والصالحين، وبراءة من دعاوى الدنيا والنفس والهوى والشيطان، والوقاية من هؤلاء الأعداء في عملين هما في الحقيقة شيء واحد: جهاد النفس، ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين﴾، والثاني اتباع السنة، ﴿أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده﴾، وكثير من الأسماء الحسنى التي سمى الله بها نفسه في القرآن الكريم ترجع عامتها إلى إقامة الحقوق، وإزالة المظالم، فهو الحق جل جلاله، وهو العدل وهو المقسط وهو الحكم وهو الحكيم، فالله تعالى يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون،  وهو الحسيب، ﴿وكان الله على كل شيء حسيبا﴾، وقال تعالى: ﴿إنا إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم﴾، وذلك الحساب يتطرق إلى كل صغير وكبير بأدق المقاييس، قال تعالى ﴿ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين﴾، وهو الديان جل جلاله، ملك يوم الدين، ومالكه وهو سريع الحساب، شديد العقاب، والمنتقم والعفو والغفور وإلى ما ذلك من الصفات المشابهة في معاني الحقوق ومتفرعاتها.
وأما الإنسان فجبلته الجحود، والعدول عن الحق، وقد وصف الله تعالى جنس الإنسان بالظلم البالغ والكفران الشديد، قال تعالى: ﴿إن الإنسان لظلوم كفار﴾، فذكر أربع تأكيدات بعضها فوق بعض: إن واللام المزحلقة ووزن فعول ووزن فعال، ﴿إن الإنسان لظلوم كفار﴾، ولقد ذكرت لفظة ظلم ومشتقاتها ومرادفاتها مئات المرات في القرآن الكريم، فلا عجب أن نجد الإنسان فعلا ظالما لنفسه ولغيره، منذ بداية التاريخ، وأن الظلم ظلمات يوم القيامة، عفا الله عنا وعن سائر المسلمين؛ ومع ذلك فالإنسان منذ خلق رزق ضميرا يميز به الحق من الباطل، قال تعالى: ﴿وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون﴾،  فالإنسان مخير في كل لحظة من كيانه بين طريق العدل وطريق الظلم،  قال تعالى: ﴿بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره﴾، فالجبرية مثلا يلقون معاذيرهم ويقولون غرائزنا تدفعنا إلى ما لابد من فعله أو تركه، وهم إخوان الإباحية، وجعل الله تعالى ضمير الإنسان كالمرآة بحكم الحق عليه فأنزله منزلة المحاسب على نفسه، وقال له: ﴿كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا﴾، وقد جاء حديث نبوي عجييب الألفاظ كثير المعاني يجمع بين سر هذا الحفظ الإلهي لعبده وبين معنى جبلة العبد الظلمانية فيما روى سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليه نورا من نوره، فمن أصابه بشيء من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل»، رواه الإمام الترمذي وقال حديث حسن.
فإن وفق الإنسان بتوفيق الله له، فآمن واجتنب الآثام وعمل الصالحات يرزقه الله حاكما ومناصحا قلبيا يصونه من الميل عن الصواب، ويصوب به أحواله على الدوام، قال تعالى: ﴿ياأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا﴾، وقال: ﴿واتقوا الله ويعلمكم الله﴾، قال تعالى: ﴿ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما﴾، قال الإمام البيضاوي رحمه الله في تفسيره لهذه الآيات «ولهديناهم صراطا مستقيما﴾، أي يصلون بسلوكه جناب القدس ويفتح عليهم أبواب الغيب، قال النبي ﷺ: «من عمل بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم»، انتهى من عزو البيضاوي؛ وهذا الحديث أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث أنس رضي الله تعالى عنه، ولاشك أن تمرة هذه الصلة وعلامتها هي معية ومحبة خير الخلق سيدنا محمد ﷺ، ومحبة من معه، كما قال الله تعالى في الآية التي بعدها: ﴿ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا﴾.
وجاء في كتاب الزهد لهناد بن السري الكوفي، وفي كتاب الزهد لتلميذه أحمد رحمهما الله عن محمد بن سيرين التابعي الكبير رضي الله عنه، أنه قال: «إذا أراد الله بعبد خيرا جعل الله من قلبه واعظا يأمره وينهاه، وقال: ويجري الله الخير على يدي من يشاء والشر على يدي من يشاء»، فاللهم الخير كله نرجو منك ونعوذ بك من الفتن كلها ما ظهر منها وما بطن، وما تقدم منها وما تأخر.
وتميزت أمة الإسلام بالتركيز على حقوق الإنسان في توازن تام بين حقوق الفرد وحقوق المجتمع، ننظر مثلا إلى الاقتصاد، والأخلاق وقوانين الجنايات، فالاقتصاد الإسلامي مثلا يراعي حقوق الاتجار والملكية والربح الحلال دون الإفراط المؤدي إلى أكل الضعيف والفقير والصغير وإتلاف حقوقهم، الذي نراه في المجتمعات الرأسمالية، وكذلك في الأخلاق والعلاقات الزوجية، يضع الشرع قوانين وسطى بين الترهب والإباحة خلافا للتفريط الإباحي المطلق الذي نراه في الغرب، وكذلك في الحدود وأحكام القصاص التي وضعها الشارع من أجل رحمة العامة وحياة الشعوب، قال تعالى: ﴿ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون﴾، وذلك مع الاعتبار التام لأحوال الأفراد وظروفهم كما قال ﷺ: «ادرأوا الحدود بالشبهات»، وهي قاعدة مسلمة عند السلف الصالح، والقاعدة الشرعية العامة والمبدأ الأول في العقوبات المقررة لجرائم الحدود.
وهذا التوازن مخالف للوضع في أكثر المجتمعات الغربية، التي لغت مثلا عقوبة الإعدام في جرائم القتل، لغتها مطلقا بحجة المحافظة على حقوق الفرد، فهذا إفراط من أجل الحفاظ على حقوق المجرم وتفريط في حقوق المقتول وذويه وتفريط آخر في حقوق المجتمع عامة، فانظروا إلى هذا الاعتدال الذهبي الذي نراه في الشريعة الإسلامية، ونعم قاعدة السلف الصالح «خير الأمور أوسطها»، روي من قول ابن عباس وعبد الله بن منبه ويزيد بن مرة الجعفي، وأبي قلابة، وجاء أيضا بلفظ: «خير الأعمال أوسطها»، ولفظ: «وعليكم بالأوساط من الأعمال».
وإني لأذكر قول أستاذنا الشهيد الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله، في بعض دروس التفسير، وهو يذكر قول الله تعالى: ﴿والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان﴾، قال: «انظروا كيف ذكر الميزان ثم الميزان ثم الوزن ثم القسط ثم الميزان، خمس كلمات بمعنى واحد ألا وهو المحافظة على الحقوق».
ومن ينظر إلى أحوال البلاد والعباد اليوم، يجد الظلم سائدا وطاغيا إلى حد لا يكاد يعقل، بل بلا استثناء طائفة دون أخرى كأن الجميع في استباق عشوائي لهضم حقوق الغير، ومن أدهى مظاهر هذا الظلم طبعا الولاة إذا ظلموا، حيث تظلم الطبقة السائدة جميع من دونهم من الناس، وقد نبه عنه رسول الله ﷺ في أحاديث الفتن والجبابرة.
ومن أدهى مظاهر الظلم أيضا الفقر العظيم المصطنع من التجار المتلاعبين بالأثمنة والأسواق والزراعة والفوائد الربوية والعقارات وغيرها، ومن نتائجها استئصال أموال الناس لصالح الأغنياء، نتيجة تقليص الطبقة الوسطى وتقسيم المجتمع إلى طبقتين فقط، الفقراء وهم الأكثرية، وأغنياء، كما حصل في التسعينات مثلا في أمريكا وفي شرق آسيا، وكما يحصل الآن في اليونان وإسبانيا، وفي مدينة بومباي الهندية وهي من أكبر مدن العالم، سكانها فوق عشرين مليون نسمة، نجد أكثر من نصف هذا العدد، فوق العشر مليون، يعيش في حالة فقر مدقع، رب المدخول الشهري ما دون 15 دولار أمريكي، وترى في جانبهم أبراجا عالية بناها الأثرياء يكنزون فيها السيارات الفاخرة، ويمرحون في مسابحهم الخاصة، ومن أعجب ما ترى أن اقتصاد الأحياء الفقيرة في مومباي من إنتاج صناعة مبنية عموما من إعادة تدوير نفايات الأحياء الغنية، يعني أن الفقراء يأكلون من مزابل الأغنياء، حقيقة ومجازا، ولا تجد إلا حماما واحدا أو حنفية واحدة لخدمة عشرات البيوت أو المئات، ورأيت بعيني في مقاطعة في جنوب إفريقيا فيها عين ماء واحدة تستخدمها 150 أسرة، بل في جزيرة العرب نجد ملايين الناس يعانون الفقر والحرمان، وهذا كما قلنا ليس لعدم وفور موارد وثروات مادية ولكن لاحتكارها عند أقل أقلية من سكان الأرض، وإهمال البقية ظلما وعدوانا، ثم نتج ظلم متكامل بأنواع  شتى من الاستغلال نتيجته الفرق المادي الفاحش بين الغني والفقير، مع نتائج أخرى، هي أيضا عوامل زائدة لتباعد الظرفين، بين الفقير والغني، كعموم الجهل وانتشار الأمراض والجرائم والفواحش والحروب، وسبب هذا الوضع البعد كل البعد من أسباب التوفيق، ومن نور التوفيق  الإلهي والشرع المحمدي نسأل الله السلامة.
وإذا حاسبنا أنفسنا من يستطيع أن يجزم أنه غير ظالم لنفسه ولغيره ولحقوق ربه؟ لا إله إلا الله محمد رسول الله، لا نعني الشرك والعياذ بالله، ولكن بالخصال المذمومة، كالغيبة والنميمة والرياء والغش وغيرها من الصفات التي تجعل المرء مفلسا، كما قال الرسول ﷺ في الحديث المشهور: «ولو صام ولو صلى»، يعني أن الشيطان يأتي إليه ويسلبه العمل الصالح بما ارتكبه من المظالم، ودليل أن ترك الظلم عسير وليس بهين أن رسول الله ﷺ أمر سيدنا أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بدعاء التوبة من الظلم دبر كل صلاة: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا»، وفي رواية «ظلما كبيرا»، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت»، وهذه إشارة كافية لسائر الأمة، أن أول خطوة في طاعة الحقوق يجب أن تكون التوبة ومحاسبة النفس وإصلاح ذات البين، وفي حديث آخر قال ﷺ: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة، إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة»، وقال: «دب إليكم داء الأمم من قبلكم الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، ولا أقول تحلق الشعر ولكنها تحلق الدين»، ولنعم عادة المحدثين الذين كانوا يبدأون مجالسهم كما ذكر الشيخ عبد الهادي الخرسة بقراءة حديث الرحمة، قال راوية الدنيا السيد عبد الحي الكتاني رحمه الله: «قدموا هذا الحديث – الراحمون يرحمهم الرحمن – على غيره ليقتدي به طالب العلم»، ونقول نقدمه حتى نقتدي به عامة، فيعلم أن مبنى الدين على التراحم والتواد ومبنى العلم، لا على التدابر والتقاطع، فإذا شب الطالب على ذلك شبت معه خصلة التعارف والتراحم فيشتد ساعده بذلك، فلا يشيب إلا وقد تخلق بالرحمة وعرف غيره بفوائدها ونتائجها فيتأدب الثاني بأدب الأول وعلى الله في الإخلاص والقبول يعول.
والنظرية الشمولية التي عبر عنها هذا الحديث الشريف بلفظ: «ارحموا من في الأرض»، وفي رواية: «أهل الأرض»، إشارة إلى كون حقوق العباد أمر مشترك ومنسجم بعضه ببعض ليس بمنفصل، أي أن دفاعك عن حقوق أخيك في الشرق ينتفع به أخوك في الغرب، أخوك الإنسان، يعني ينتفع منه الخلائق أجمعين، من نزول الرحمة ورفع الظلم، وليس فقط من ترى أنت، فإن ظلم أحد من الناس فكأننا كلنا ظلمنا عند الله، وإن رحمت واحدا فأنت رحمت عيال الله، ورحمت نفسك، قال تعالى: ﴿من قتل نفس بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا﴾.
غفر الله لنا ولسائر المسلمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *