قصة سيدنا إبراهيم مع ابنه سيدنا إسماعيل: أهم المشاهد والمواقف والدروس.

قصة سيدنا إبراهيم مع ابنه سيدنا إسماعيل: أهم المشاهد والمواقف والدروس

د. عبد المغيث بصير، عضو المجلس الأكاديمي لمؤسسة محمد بصير للأبحاث والدراسات والإعلام

 

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

تعيش الأمة الإسلامية أفضل أيام الدنيا، كما شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لها بذلك، هذه الأيام الفضيلة المباركة التي شهدت أحداثا عظيمة تتعلق بنبي الله سيدنا إبراهيم وابنه نبي الله سيدنا إسماعيل، على نبينا وعليهما أفضل الصلاة والسلام.

في هذه السطور سأتوقف عند أهم المواقف والمشاهد والدروس المستخلصة من هذه القصة العجيبة الغريبة التي صورها القرآن الكريم في سورة الصافات أبلغ تصوير، لنستفيد منها أبلغ العظات والعبر.

تذكر العديد من كتب التفسير والتاريخ والسير، أن سيدنا إبراهيم عليه السلام، عندما أعياه الأمر ولم يجن فائدة مرجوة من دعوته لقومه، قال فيما يحكيه عنه الله عز وجل: “وَقَالَ إِنِّے ذَاهِبٌ اِلَيٰ رَبِّے سَيَهْدِينِ”، أي إني ذاهب لنصرة دينه، حيث أجد من يسمعني ويستجيب لدعائي، وإلا فربُّه موجود معه في كل مكان.

وأول مشهد مؤثر في هذه القصة، تجلى في كون سيدنا إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، لم يكن له ولد، وله من العمر ست وثمانون سنة، فدعا ربه قائلا: “رَبِّ هَبْ لِے مِنَ اَلصَّٰلِحِينَ”، أي: هَبْ لي ذريةً صالحةً مؤمنة تحمل الرسالة من بعدي، تكون نموذجاً إيمانياً يرثني في دعوتي، فأجابه ربه مباشرة بعد ذلك بقوله: “فَبَشَّرْنَٰهُ بِغُلَٰمٍ حَلِيم “، وهو سيدنا إسماعيل عليه السلام، وفي ذلك درس عظيم لكل الآباء أن يتوجهوا بقلب صادق إلى الخالق سبحانه وتعالى أن يهبهم الذرية الصالحة، وأن يستحضروا النية من أجل ذلك قبل وجودها.

ومن المشاهد التي تستحق التمعن والتوقف هي قوله سبحانه: “فَبَشَّرْنَٰهُ بِغُلَٰمٍ حَلِيم”، فالبُشْرى بالشيء تكون قبل وجوده، فوصفه الله بأنه سيكون حليماً وهو ما يزال غلاماً، وذلك يعني بأنه سيجمع الوصفين معاً، لأن الحِلْم عادة ما يتكوَّن لدى الرجل الواعي الناضج الذي يستطيع تقدير الأمور، فالميزة هنا أن يتصفَ الغلامُ بالحِلْم في صغَره، والحليم بالمناسبة هو الذي لا يستفزه غضب، ويتحمل الأمور على مقدار ما تطيب به أخلاقه.

ومن هذه المواقف المؤثرة أيضا، هي ظهور حِلْم هذا الغلام في أول اختبار يتعرَّض له بمجرد بلوغه مرحلة السعي وبداية الشباب، حين قال له أبوه: ” قَالَ يَٰبُنَيِّ إِنِّيَ أَريٰ فِے اِلْمَنَامِ أَنِّيَ أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَريٰ”، فلندقق في جواب الغلام، وأبوه يريد أنْ يذبحه، ” قَالَ يَٰأَبَتِ اِفْعَلْ مَاتُومَرُ سَتَجِدُنِيَ إِنشَاءَ اَللَّهُ مِنَ اَلصَّٰبِرِينَ”، هذا هو الحِلْم بكل ما تحمله الكلمة من معاني يتجلَّى في رده الجميل على والده وهو صغير السن في خضم هذا الامتحان الصعب.

ومن المشاهد العجيبة في هذه القصة أيضا، طلب الوالد من ابنه أن يتفكر ويتدبر في أمر هذه الرؤيا بقوله: ” فَانظُرْ مَاذَا تَريٰ؟”، فكأن الابن الصغير في هذا الموقف الصعب مطلوب منه أمران: بر بأبيه، وبرُّ بربِّ أبيه، فبماذا أجاب؟، ” قَالَ يَٰأَبَتِ اِفْعَلْ مَا تُومَرُ سَتَجِدُنِيَ إِنشَاءَ اَللَّهُ مِنَ اَلصَّٰبِرِينَ”، فقوله: ” اِفْعَلْ”، برّ بأبيه، وقوله: ” مَا تُومَرُ “، برٌّ بربِّ أبيه، ولنتمعن، إنه لم يقُلْ: “افعل ما تريد”، مؤكدا رغم صغَره فهمه لهذه القضية، وإدراكه لهذا الابتلاء، فهو كان يدرك تماماً أن أباه مُتلَقٍّ الأمر من الله، وأن رؤيا الأنبياء وَحْيٌ حَقٌّ.

ومن المشاهد التي تستحق التوقف والتمعن، مناداة سيدنا إبراهيم عليه السلام لولده بقوله:”يَٰبُنَيِّ” هكذا بالتصغير، فلم يقل:”يا ابني”، فقد تعرض لهذا الابتلاء، وهو مشحون بعاطفة الحب لولده والشفقة عليه، لأنه ما يزال صغيراً، ومعلوم أن حنان الوالد يكون على قَدْر حاجة الولد.

ومن أهم الدروس المتجلية في القصة، الاستسلام الظاهر لسيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل على نبينا وعليهما الصلام والسلام في قوله تعالى: ” فَلَمَّا أَسْلَمَا”، أي استسلما معا لأمر الله وأذعنَا لحكمه وسلَّم كلٌّ منهما زمام حركته في الفعل لربِّه، فإبراهيم همَّ بالذبح، وإسماعيل انقاد، فتَلَّهُ حينذاك لِلْجَبِينِ وألقاه على وجهه، أو على جنبه، فناداه ربه وقد جاء الفرج: ” وَنَٰدَيْنَٰهُ أَنْ يَّٰإِبْرَٰهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّءْيا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِے اِلْمُحْسِنِينَ(105) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ اَلْبَلَٰؤُاْ اُلْمُبِينُ “، يعني ارفع يدك يا إبراهيم عن ذبح ولدك الوحيد، فما كان الأمرُ إلا بلاءً مبيناً واضحا قاسيا عليك أنت وولدك.

فلو ذبح سيدنا إبراهيم ولده لَصارتْ سنةً من بعده أنْ يتقرَّب الإنسان إلى الله بذبح ولده، لكن لما صبر واستسلم لأمر ربه جاءه الفرج من الله، وعُوفي وولده من هذا البلاء، وعُوفينا جميعاً معه من هذه المسألة.

فالابتلاء بالنسبة لسيدنا إبراهيم عليه السلام في هذه القصة، أن يرزق بولد على كِبَر، وهو أحبُّ إليه من نفسه ويُؤمَر بذبحه، والابتلاء ليس بأن يموت الولد، إنما أنْ يذبحه أبوه بيده لا بشخص آخر بناءً على رؤيا لا بأمر صريح.

ومن المشاهد التي تستحق التمعن، ما ذكر في قوله تعالى:”وَفَدَيْنَٰهُ بِذِبْحٍ عَظِيم”، وهو الكبش الذي أنزله الله، فِداءً لإسماعيل، فذبحه بالسكين نفسها.

فلنتأمل إن السكين ذبحت الكبش ولم تذبح إسماعيل، كما لم تحرق النار سيدنا إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار في شبابه، إن السكين لا تقتل إلا بأمر الله، وإن النار لا تحرق إلا بأمر الله، ولو شاء الله لذبحت السكين إسماعيل، ولأحرقت النار إبراهيم عليهما السلام.

وختام هذه المشاهد يلخص لنا الجزاء الذي استحقه سيدنا إبراهيم عليه السلام وهو يجتاز هذا الاختبار الصعب بكل ثبات وإيمان وطاعة واستسلام وصبر وقوة يقين، حيث استحق أن ينزله الله تعالى منزلة في جميع الأمم من بعده، وذلك بأنْ يُسلِّموا عليه كلما ذُكِر، فقال تعالى:” سَلَٰمٌ عَلَيٰ إِبْرَٰهِيمَ”، فكلما ذُكِر قلنا: “عليه السلام”، وزاد فجازاه بأن أفدى ابنه إسماعيل من الذبح فعاش، ثم زاده الله فأعطاه إسحاق، قال تعالى:” وَبَشَّرْنَٰهُ بِإِسْحَٰقَ نَبِيـٔا مِّنَ اَلصَّٰلِحِينَ”، فهو أيضاً نبي، وفي آية أخرى قال سبحانه:” وَمِنْ وَّرَاءِاسْحَٰقَيَعْقُوبُ”، ويعقوب أيضاً نبي، واستحق أيضا عليه السلام أن يقول الله في حقه في آية أخرى :” اِنَّ إِبْرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّة”. بل إنه خص في الصلاة الإبراهيمية بالتشبيه دون غيره من الأنبياء صلوات الله تعالى عليهم، لأجل أن يذكر بالجميل على صنعه الجميل مع هذه الأمة المحمدية عليه الصلاة والسلام، حيث دعا لها بقوله كما أخبر الله تعالى في كتابه العزيز : ” رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمُۥٓ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ اُلْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمُ ۥٓۖإِنَّكَ أَنتَ اَلْعَزِيزُ اُلْحَكِيمُ”. ولذلك كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يقول: “أنا دعوة إبراهيم”، فحقيق بهذه الأمة المحمدية أن تذكر سيدنا إبراهيم الخليل بالجميل، وكيف لا تذكره بالجميل، وقد دعا كما أخبرنا تعالى بقوله: ” وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ” أي واجعل لي ثناء حسناً وذكراً جميلاً في الآخرين من الأمم، وهي أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أو المراد بالآخرين كل أمة جاءت بعده، فتدخل هذه الأمة المحمدية في ذلك دخولاً أولياً لأنها آخر الأمم قولاً واحداً، ولأنه دعا لها كما تقدم في الآية الكريمة، قال تعالى:” إِنَّ أَوْلَي اَلنَّاسِ بِإِبْرَٰهِيمَ لَلذِينَ اَتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا اَلنَّبِےٓءُ وَالذِينَ ءَامَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ اُلْمُومِنِينَ”، فهذا النبي في الآية هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والذين آمنوا هي أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

وعند التأمل نجد الله عز وجل خلد ذكرهم في الآخرين أيضا بجعل جملة من أعمالهم الصالحة، والتي وقعت في قصتهم هذه، عبادات لنا نتقرب بها إليه في هذه الأيام الفضيلة المباركة، فبالنظر إلى الكثير من أحكام الحج، نجد السعي بين الصفا والمروة سبع مرات اقتداء بما وقع لهاجر عندما عطش ابنها إسماعيل عليه السلام، فأكرمهم الله ببئر زمزم، الذي لايزال يشرب المسلمون من بركته من ذلك الزمن الغابر إلى اليوم، مرورا بما وقع له من أمر ذبح ابنه وافتدائه بكبش عظيم، فصارت لنا سنة ذبح الأضحية في اليوم نفسه الذي هم فيه سيدنا إبراهيم بذبح ابنه تنفيذا للأمر الإلهي، ورمي الجمرات اقتداء بسيدنا إبراهيم عندما رمى الشيطان اللعين بالحصى، وقد أتاه يسول له كي يرحم ابنه ولا ينفذ أمر ربه، فرجم الشيطان عند العقبة الكبرى والوسطى والصغرى، ووقوف يوم عرفة، فهذه كلها عبادات سن للمسلمين فعلها بسبب ما وقع في قصة سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل عليهما الصلاة والسلام.

وأبلغ عبر هذه القصة نأخذها من نهايتها حيث يقول سبحانه وتعالى:” إنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِے اِلْمُحْسِنِينَ”، أي كذلك كما فعلنا مع إبراهيم عليه السلام، نجزي كل مُحسن من بني الإنسان، والمحسن هو الذي لا يقف عند حَدِّ الواجب المطلوب منه، إنما يتعدَّاه إلى الزيادة من جنس ما فُرِض عليه وكُلِّف به.

ختاما إن في مشاهد ومواقف هذه القصة أعظم دروس لنا في الاقتداء والاقتفاء من الأحوال العملية لهؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في طاعتهم لربهم والتزامهم بالتسليم لقضاء الله وقدره، وتوجههم إلى الخالق أن يهبهم الذرية الصالحة الناشئة على البرور والطاعة والاحترام والتقدير، والتي من خلال أخلاقها تقدم أنموذج العلاقة المثالية للأبناء بالآباء، فكم وكم نحن في حاجة ماسة في هذه الأيام إلى هذه الدروس والمبادئ. والحمد لله رب العالمين.

 

 

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *