الحث على العمل المتقن (2)

الحمد لله، الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضلَّ له،

ومن يضلل فلا هادي له،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وجه عباده لما فيه خيرهم وأمرهم بالعمل الحسن الذي يرضاه منهم بقوله: “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون”،
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وخليله وأمينه القائل: ” من أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفورًا له” صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
أمَّا بعد .فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، في الجمعة الماضية تناولنا الحديث عن العمل وقيمته التي نوه بها الإسلام، وكان عنوانا على شرف وعلو مكانة العاملين، حتى إن الله سبحانه وتعالى ذكر لنا أنواعا من الحرف التي مارسها أنبياؤه ورسله وهذا في حد ذاته تشريف للعاملين الكادحين الذين يجدون ويجتهدون في الكسب والتعفف عن سؤال الناس واستجدائهم، وكان على رأس العاملين الكادحين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، واليوم بإذن الله تعالى نكمل الحديث في نفس الموضوع ونقول وعلى الله الاتكال:
أيها الإخوة المؤمنون، لقد باشر الأنبياء كلهم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، باشروا رعي الغنم، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما بعث الله نبيًا إلا رعى الغنم”، فقال أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ فقال “نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة”.
وكان كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضلهم يحترفون بأيديهم، وعلى رأسهم الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، قالت عائشة رضي الله عنها: لما استخلف أبو بكر الصديق قال: لقد علم قومي أن حِرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي، وشُغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال، وأحترف للمسلمين فيه. ولقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتَّجرون وهم فقراء، فيغنيهم الله من فضله.
وفي قصةِ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ما يوضح ذلك ويبينه، روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم عبد الرحمن بن عوف، فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، وعند الأنصاري امرأتان، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق، فأتى السوق، فربح شيئًا من أقط وشيئًا من سمن، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أيام وعليه صفرة، فقال: “مَهْيَمْ يا عبد الرحمن؟ فقال: تزوجت أنصارية، فقال: فما سقت إليها؟ قال: وزن نواة من ذهب، قال: أولم ولو بشاة”، لقد جاء هذا الصحابي إلى المدينة المنورة فقيرا وهاهو بعد حين من الزمن يسير يستطيع أن يتزوج ويقوم بتبعات الحياة الزوجية من بركة كسبه.
أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات يتضح من كل ما تقدم تأكيد الشريعة الإسلامية على أهمية العمل والاكتساب، وأن على كل فرد قادر أن يسعى بنفسه لتحصيل ما يحتاجه من مقومات الحياة، والله تعالى قد قدر الأرزاق وكتبها، وعلى المرء أن يأخذ بجميع الأسبابِ الممكنة لتحصيل الرزق وجمعه، وأن لا يبقى خاملاً ينتظر رزقه، فإن الله تعالى أمر بالسعي في الأرض والتنقل بين أرجائها طلبًا للعمل  والكسب، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ).
وهكذا فإن الإسلام رغَّب في الكد والعمل والتحصيل، وذم البطالة بشتى صورها، وحذر منها لما فيها من الجمود والاتكالية، فبقاء الفرد عاطلاً دون عمل معتمدًا على غيره يجعله ذليلاً مكسور الجناح، واضعًا نفسه تحت رحمة الخلق وشفقتهم، يرجو برهم وعطفهم، ويخاف شرَّهم وعقابهم، فهو إن لم يسايرهم منعوا عنه العطاء، ومخرجه من ذلك أن يكون عاقلاً منتجًا، وأن يوجد لنفسه مهنةً، يكتسب من خلالها، وأن يكون في عداد المثمرين المنتجين، حتى لا يبقى عالة على نفسه و مجتمعه، قال الله تعالى: (وَقُلِ  اعْمَلُوا  فَسَيَرَى  اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ).
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.   

الخطبــة الثانـيـة
فيا أيها الإخوة المؤمنون، إن الإنسان المسلم مطالب باستيفاء شروط الخلافة في الأرض والسعي في مناكبها عبادةً لله، وإعماراً للأرض، واستفادة مما فيها من ثروات وخيرات لا يصل إليها إلا بالعمل، وليس أي عمل، بل بالعمل الجاد المتقن الذي نبحث عنه جميعا عندما نقبل على شراء ما يلزمنا، لكن عندما نصنعه أو نود تسويقه لغيرنا يسعى كثير منا إلى الغش فيه وعدم المبالاة بإتقانه، ونمدح منتوجات غيرنا مما نستورده أو يهدى إلينا بما يسمى بالجودة.
وما علم أكثرنا من صناع وتجار وفلاحين، وأصحاب الكسب، والموظفين وأصحاب المهن الحرة، وكل من يمارس عملا أن إتقان العمل سبب لرقي المجتمع، ودليل على تمسكنا بديننا، وأن إتقان العمل وسيلة لاستجلاب محبة الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه”.
فالإتقان سمة أساسية في الشخصية المسلمة يربيها الإسلام فيه منذ أن يعتنقه، وهي التي تحدث التغيير في سلوكه ونشاطه، فالمسلم مطالب بالإتقان في كل عمل تعبدي أو سلوكي أو معاشي، وحق للعاملين المتقنين أن يكون لهم في كل عام يقطعونه يوم يقف فيه العالم بأسره منوها بما ينجزونه لفائدة البشرية من أعمال، ولهم يوم القيامة بين يدي الله يوم يجازون فيه عن أعمالهم بالجزاء الأوفى لأن كل عمل يقوم به المسلم بنيّة العبادة هو عمل مقبول عند الله يُجازى عليه سواء كان عمل دنيا أم آخرة. قال تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين).
الدعاء…

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *