الحث على العمل المتقن (1)
الحمد لله، الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضلَّ له،
ومن يضلل فلا هادي له؛
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وجه عباده لما فيه خيرهم وأمرهم بالعمل الحسن الذي يرضاه منهم بقوله: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)؛
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وخليله وأمينه القائل: “من أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفورًا له” صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، في الأسبوع المقبل إن شاء الله سيحتفل العالم بأسره ونحن معهم بعيد العمال، وهو عيد لتنويه وتشريف العمال والكادحين المجدين بما ينجزونه للبشرية من خلال ما يقومون به من أعمال سواء كانت إدارية أو تجارية أو صناعية لأن كل عامل يضع بعمله لبنة في صرح بناء مجد المجتمع.
ولقد وجهت الشريعة الإسلامية أفرادها إلى العمل، وحثتهم على التكسب وطلب الرزق، وبينت لهم أن الكسب باليد خيرُ ما يُجمع، وهو سبيل أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، وحذرت أشد التحذير من الاعتماد على التسول واستجداء الناس والتذلل لهم، لما يورثه من المذلة والمهانة في الدنيا والآخرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده، لأن يأخذ أحدكم حبله، فيحتطب على ظهره، فيأتي به فيبيعه، فيأكل منه ويتصدق منه، خير له من أن يأتي رجلاً أعطاه الله من فضله فيسأله، أعطاه أو منعه”، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم”.
ولقد أمر الله تعالى المؤمنين بترك البيع والشراء والتجارة ساعة أداء العبادة المفروضةِ عليهم، وذم من يشتغل بالتكسب في ذلك الوقت، وأذن لهم بالانتشار وطلب الرزق بعد أدائها، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)، يقول القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (وَذَرُوا الْبَيْعَ): “مَنَعَ اللهُ عز وجل البيع عند صلاة الجمعة، وحَّرمه في وقتها على من كان مخاطبًا بفرضها، والبيع لا يخلو عن شراء، فاكتفى بذكر أحدهما، وخص البيعَ لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق”.
ثم قال عند قوله تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ): “هذا أمر إباحة، أي: إذا فرغتم من الصلاة فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في حوائجكم، “وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ” أي: من رزقه.
ونُقل عن عِراك بن مالك رحمه الله ـ وهو من أعلام التابعين ـ أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: اللهم إني أجبتُ دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين”.
وبين الله تعالى في كتابه الكريم أن العمل لكسب العيش وتحصيل ما لا بد منه كان دأب أنبياء الله صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى: (وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ)، قال القرطبي رحمه الله: “هذه الآية أصل في تناول الأسباب وطلب المعاش بالتجارة والصناعة وغير ذلك”، وقال ابن كثير رحمه الله: “يقول تعالى مخبرًا عن جميع من بعثه من الرسل المتقدمين أنهم صلى الله عليهم وسلم كانوا يأكلون الطعام ويحتاجون إلى التغذي به، ويمشون في الأسواق للتكسب والتجارة، وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم، فإن الله تعالى جعل لهم من السمات الحسنة والصفات الجميلة والأقوال الفاضلة والأعمال الكاملة والخوارق الباهرة والأدلة القاهرة ما يستدل به كل ذي لبٍ سليم وبصيرةٍ مستقيمة على صدقِ ما جاؤوا به من الله”.
وأخبر جل وعلا عن داود عليه الصلاة والسلام بقوله: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ)، والمراد باللبوس هنا الدروع، يقول الإمام القرطبي رحمه الله: “هذه الآية أصل في اتخاذ الصنائع والأسباب، وهو قول أهلِ العقول والألباب، لا قول الجهلةِ الأغبياء القائلين بأن ذلك إنما شُرع للضعفاء، فالسببُ سنةُ الله في خلقه، فمن طعن في ذلك فقد طعن في الكتاب والسنة، ونَسَبَ من ذكرنا إلى الضعفِ وعدمِ المُنَّة، وقد أخبر الله تعالى عن نبيه داود عليه الصلاة والسلام أنه كان يصنع الدروع والخوص، وكان يأكل من عمل يده، وكان آدمُ حَرّاثًا، ونوحُ نجارًا، ولقمان خياطًا، وطالوت دباغًا، وقيل: سقّاء، فالصنعة يكف بِها الإنسان نفسه عن الناس” انتهى كلامه رحمه الله.
فهنيئا لك أيها العامل، الذي أخلص في عمله طاعة لله، قال تعالى: “هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ”. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبــة الثانـيـة
أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون، لا يذكر العمل إلا مقرونا بوقته، فكل عامل يقوم بواجبه في الوقت الذي يخصص لذلك العمل، بل حتى العبادات الصرفة التي طلب منا المولى جل وعلا القيام بها إنما جعلها مقرونة بوقتها المخصص لها، ولا تصح من مسلم قبل أوانها، قال تعالى: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا)، والصيام مفروض بحلول شهر رمضان، والحج لا نوقعه إلا في أشهر الحج، والزكاة قرينة بحلول الحول وبلوغ النصاب، أو عند الحصاد، وهكذا، عباداتنا ومعاملاتنا رهينة بالوقت، ولكن الملاحظ أن أغلبنا لا يعير للوقت قيمة، خاصة بعد إضافة ساعة على التوقيت العادي، فتجد أغلبنا لا يزال غارقا في السهر، مضيعا للالتزامات، وما علم أن كل تأخير في التزاماته إنما يعود سلبا على النتائج المرجوة من الزيادة في الساعة، كتغيير أوقات الأكل والسهر والتبكير بالعمل حتى يستثمر الإنسان باقي الوقت فيما يفيد كصلة الرحم، وممارسة الرياضة، وقضاء مصالح البيت، ورعاية الأبناء خصوصا وأنهم مقبلون على الامتحانات التي تحدد مصيرهم السنوي، وكما أن في هذه الزيادة اقتصادا مرجوا في الطاقة ينبغي تحقيقه لمصحة الأمة.
وقد أقسم الله تعالى بالزمان الذي هو وقت الإنسان لقيمته الغالية ولما يعود على الإنسان من خلاله من خير أو شر، فقال جل وعلا: (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)، ولنا عودة إلى الموضوع في الجمعة المقبلة إن شاء الله تعالى. فحافظوا أيها المؤمنون على الوقت، واستثمروه فيما ينفع.
الدعاء…