الشتاء ربيع المؤمن(2)

                          الشتاء ربيع المؤمن(2)           

الأستاذ مولاي يوسف المختار بصير

الحمد لله، الحمدلله الذي جعل لعباده المؤمنين مواسم يتقربون إليه فيها بأنواع الطاعات ويتطهرون بها من أدران السيئات، وسن لهم أياما يجعلونها مطية للإكثار من القربات ويشكرونه خلالها على ما أنعم به عليهم من صنوف المكرمات، نحمده تعالى ونشكره على نعم لا تزال تتوالى على ممر الأوقات، ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو دعانا للتعرف عليه والتفكر في آلائه آناء الليل وأطراف النهار، لا شريك له في ربوبيته وألوهيته، وما له من الأسماء والصفات،  القائل: “إِنَّ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوٰتِوَٱلأرْضِوَٱخْتِلَـٰفِٱلَّيْلِوَٱلنَّهَارِلاَيَـٰتٍلاِوْلِىٱلاْلْبَـٰبِ ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَقِيَـٰماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَٰوٰتِوَٱلأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطلا سُبْحَٰنَكَفَقِنَا عَذَابَ النَّار”، ِونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله أول مسارع لفعل الخيرات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كانوا سباقين إلى اغتنام الفرص للإكثار من فعل الخيرات وترك المنكرات والتقرب إلى بارئ الأرض والسماوات، وسلم تسليما كثيرا ما غشيت العباد الرحمات، أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون،في الجمعة الماضية تكلمنا عن فضل فصل الشتاء، وأنه كما قال نبيناصلى الله عليه وسلم: “الشتاء ربيع المؤمن”،طال ليله للمحبين فقاموه بالذكر والتفكر وترتيل كتاب الله  والخلوة مع الله، وقصر نهاره فصاموه تقربا لله، واليوم بإذن الله تعالى نسلط الضوء على  خير الأعمال التي نستغل بها طول ليل فصل الشتاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول، فيقول: أنا الملك، أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر”،  وقال أيضا: “إن في الليل ساعةً لا يوافقها عبدٌ مسلم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه الله إياه، وذلك كل ليلة”، أيها الإخوة المؤمنون، إذا أظلم الليل نامت قلوب الغافلين، وماتت أرواح اللاهين، فمن لم يكن له ورد من الليل فقد فرّط في حق نفسه تفريطاً كبيرا، وأهمل إهمالاً عظيما، وأيُّ حرمان أعظم ممن تتهيّأ له فرصة مناجاة مولاه، والخلوة به، ثم لا يبادر ولا يبالي؟! ما منعه إلا التهاون والكسل، وما حرمه إلا النوم وضعف الهمة، ناهيك عن أقوامٍ يسهرون على ما حرم الله، ويقطّعون ليلهم في معاصي الله، ويهلكون ساعاتهم بانتهاك حرمات الله، فشتان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، سئل أحد السلف ما بالنا لا نقوم الليل؟ قال: (كبلتكم معاصيكم)، قم في ظلام الليل واقصد مهيمنـاً ** يداك إليه في الدجى تتوسل ** وقل يا عظيم العفو لا تقطع الرجا ** فأنت المنى يا غايتي والمؤمل. أخي الغافل، أخي الساهر، أنظر إلى سلفك الصالح ماذا يعمل في ليله؟، كان طاوس بن كيسان وهو أحد رجال الصحيحين، الزاهد العابد الشهير والعالم الكبير يدور على أصحابه في السحر فمرة طرق على أخ له، فخرج أخوه وهو نائم، فقال له طاوس: أتنام في هذه الساعة؟ قال: نعم. قال: والله ما ظننت أن أحداً ينام في هذه الساعة. أيها الإخوة المؤمنون، اعلموا أن لقيام الليل فوائد، أولها أنه المثبت والمعين: فصلاة الليل لها شأن عظيم في تثبيت الإيمان، والإعانة على جليل الأعمال، وما فيه صلاح الأحوال والمآل قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نصفه أو انقص منه قليلا، أو زد عيه ورتل القرآن ترتيلا، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا”. ثانيا: قيام الليل شرف للمؤمن بدليل قولهصلى الله عليه وسلم: “أتاني جبريل فقال: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس”. ثالثا: قيام الليل عملية تجميل ربانية: قيل للحسن البصري (ح): ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوهاً؟ قال: “لأنهم خلوا بالرحمن، فألبسهم من نوره” . رابعا قيام الليل حياة للقلوب، فصلاة الليل يحيا بها -بإذن الله- ميِّت القلوب، وتشحَذ بها فاتر الهمم، وتقرب صاحبها إلى الله، وتنهاه عن الإثم، وتكفر الذنوب والخطايا، وتطرد الداء عن الجسد، مصداقا لما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي: قال صلى الله عليه وسلم: “عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم، ومطردة للداء عن الجسد”، خامسا فصلاة الليل تعبير عن الشكر العملي لله، فعن أم المؤمنين عائشة (ض) قالت: “كان النبيصلى الله عليه وسلم  يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟”  وهذا يدل على أن الشكر لا يكون باللسان فحسب، وإنما يكون بالقلب واللسان والجوارح، فقد قام نبيناصلى الله عليه وسلم  بحق العبودية لله على وجهها الأكمل، وصورتها التامة، مع ما كان عليه من نشر العقيدة الإسلامية، وتعليم المسلمين، والجهاد في سبيل الله، والقيام بحقوق الأهل والذرية، فكان كما قال ابن رواحة (ض):  وفينا رسول الله يتلو كتابه ** إذا انشق معروفٌ من الصبح ساطعُ ** أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا **به موقناتٌ أن ما قال واقع ** يبيت يجافي جنبه عن فراشه ** إذا استثقلت بالمشركين المضاجع. جعلني الله وإياكم من الموفقين لقيام الليل والتهجد فيه، الممدوحين بقول الله العلي الكريم، “تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون، فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءا بما كانوا يعملون”، من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب، آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية

أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، إذا كان لقيام الليل كل هذه الفوائد، أنه المثبت والمعين، وأنه شرف للمؤمن ، وأنه عملية تجميل ربانية، وأنهحياة للقلوب، وأنه تعبير عن الشكر العملي لله، فإنه كذلك الطريق للجائزة الكبرى: فقد أخرج الإمام أحمد وغيره عن أبي مالك الأشعري (ض)  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن في الجنة غرفا، يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام”. أيها الإخوة المومنون والمؤمنات، بضعف النفوس عن قيام الليل تقسو القلوب، وتجفّ الدموع، وتستحكم الغفلة، ذُكر رجلٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: ما زال نائماً حتى أصبح، فقال صلى الله عليه وسلم: “ذاك رجل بال الشيطان في أذنه”. وعن أبي هريرة (ض) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: “يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم، إذا هو نام، ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ، فذكر الله تعالى انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده، فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان”. ولنا إن شاء الله تعالى عودة إلى الموضوع في الجمعة المقبلة.الدعاء.

خطبة الجمعة من مسجد الحسنى عين الشق، الشتاء ربيع المؤمن(2)، الجمعة 21 جمادى ألأولى 1441 موافق 17 يناير 2020  

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *