كيف نعزز خلق الستر في المجتمع؟
كيف نعزز خلق الستر في المجتمع؟
الدكتور عبد المغيث بصير
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى، وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، يقول الله تعالى في كتابه الكريم: “إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ”، وروى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” من نفَّس عن مؤمن كُرْبة من كُرَب الدُّنيا، نفَّس الله عنه كُرْبة من كُرَب الآخرة، ومن سَتَر على مسلم، سَتَره الله في الدُّنيا والآخرة، والله في عون العبد، ما كان العبد في عون أخيه”.
عباد الله، إن من أهم الأخلاق التي ينبغي أن يتحلى بها المسلم في أيامنا هذه خلق الستر على نفسه وعلى المسلمين، حيث نجد ديننا الإسلامي أمر المسلم بستر نفسه، فلا يُشْهر خطاياه أمام الخَلْق، ولا يذكر زلَّاته أمام النَّاس، ولو كانوا أصدقاءه، كما أمر المسلم بستْر المسلمين، وأمر بستْر الميِّت، خاصة إذا غسله ورأى فيه شيئًا معيبًا، فعليه أن يَسْتره، ويكتم أمره.
عباد الله، وبنظرة عابرة على العديد من الظواهر السلبية المتصلة بالموضوع والمتفشية في المجتمع، والتي طلب الشارع الستر فيها، نجد الناس اليوم تكشفها بكل الوسائل المتاحة، بل وتجاهر بها وتعلنها، ومن ذلك الكلام على الغير بالقبيح من الأقوال، والتجسس عليهم لمعرفة ماخفي من أخبارهم، والتطلع على بعض العيوب بقصد فضحها، أضف إلى ذلك ما أصبحنا نشاهده من تسجيلات صوتية ومرئية على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تجد من يجاهر بالمعصية وتأخذه العزة بالإثم في ذلك، ومنهم من يسعى بسابق إصرار وترصد ليسجل غيره ويصوره ليفضحه ويشيعه في الناس، ومن الناس من يغض طرفه عن محاسن الناس الكثيرة، ويبحث عن هفوة أو سوء لينشره.
بعد ذكر هذه التجليات الواقعية لحالنا مع هذا الخلق، فماهو معنى خلق الستر؟ وماهي سلبيات إشاعة الفاحشة في المجتمع المسلم؟
السَّتْـرُ عباد الله هو تَغَطية الشَّيء، والمراد به السَّتْـرُ على المسلم إن وقع في معصية، شريطة أن لايعلنها ويجهر بها، فمن كان معروفًا بالاستقامة، وحصل منه الوقوع في المعصية، نُوصِح وسُتِر عليه، وقد حث ديننا على السَّتْر ورغَّب فيه، واتَّخذ وسائل من أجل ذلك، فشرع حدَّ القذف، حتَّى لايُطْلِق كلُّ أحد لسانه، ونهى عن تجسَّس المسلم على أخيه المسلم، وكذا أمر في إثبات حدِّ الزِّنى بأربعة شهود احتياطا ومبالغة في ستره، فلم يقبل فيه إلَّا أربعة يصِفُون الفِعْل وصف مشاهدة، ينتفي معها الاحتمال؛ وكذلك في الإقرار، لم يكتف بأقلَّ من أربع مرَّات، حرصًا على سِتْر ما قدَّر الله ستْره، وكَرِه إظهاره، والتَّكلُّم به، وتوعَّد من يحبُّ إشاعته في المؤمنين بالعذاب الأليم، في الدُّنيا والآخرة .
عباد الله، تأملوا كثيرا في كلمة:”يُحِبُّونَ” في قوله عز وجل: “إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا”، فالمقصود في هذه الآية الذين يحبون أن تشيع الفاحشة ولو لم يتكلَّموا بها؛ لأن هذه المسألة تبدأ بالحب أولا، ثم التحدث، ثم السماع دون إنكار، ولفظاعة هذه الجريمة ذكر الحق سبحانه المرحلة الأولى منها فقط، وهي مجرد أن تحب أن تشيع الفاحشة في المجتمع المسلم، ولذلك ينبغي أن نفهم بأن مسألة إشاعة الفاحشة مسألة خطيرة جدا.
ويظن بعض الناس خطأ أن إشاعة الفاحشة فضيحة للمتهم وحده، ونسوا بأن الأَسْوء من ذلك هو إشاعتها بين الناس وأنها ستكون أُسْوة وقدوة سيئة في المجتمع، فتوجيه الحق سبحانه وتعالى في هذا الصدد إلى كل مسلم، وهو عندما تسمع خبراً يخدش الحياءَ أو يتناول الأعراض، فإياك أنْ تشيعه في الناس؛ لأن الإشاعة ستعمل على إيجاد قدوة سلوكية عند كل من سمع ذلك، فيقول في نفسه: فلان فعل كذا، وفلان فعل كذا، ويتجرأ هو أيضاً على مثل هذا الفعل، لذلك توعد الله تعالى مَنْ يشيع الفاحشة وينشرها ويذيعها بين الناس بقوله:” لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ”.
ومما ينبغي التنبيه عليه، مايقوم به الكثيرون في أيامنا هذه عندما تصلهم بعض الأخبار أو التسجيلات الصوتية أو المرئية التي ينبغي سترها وعدم فضحها، حيث يقومون بمشاركتها ونقلها بينهم فيرسلها كل واحد منهم إلى أصدقائه ومعارفه، بل إن البعض منا يشاركها مع أقرب الناس إليه كزوجه وأبنائه من أجل التسلية والهزل، لكن هؤلاء نسوا أو تناسوا بأنهم شعروا أم لم يشعروا، بأن ماتناقلوه وسمحوا لأنفسهم بإشاعته، أنه بعد أيام قلائل سيصير قدوة سلوكية لدى كل من اطلع عليه من ذويهم ومن الغير. وهذا هو الحاصل وهو الذي يحصل تماما.
عباد الله، وقد تحصل الإشاعة في حق رجل محترم مُهَابٍ في مجتمعه وله مكانة، ومثل ذلك يزهد كل من وصله خبره في حسنات هذا الرجل وإيجابياته، فيحرم المجتمع كله تبعا لذلك من حسناته. قال أحد الربانيين: “ومن النَّاس من طبعه طبع خنزير: يمرُّ بالطَّيِّبات فلا يلوي عليها، فإذا قام الإنسان عن رجيعه قَمَّه، وهكذا كثير من النَّاس، يسمع منك، ويرى من المحاسن أضعاف أضعاف المساوئ، فلا يحفظها، ولا ينقلها، ولا تناسبه، فإذا رأى سقطة، أو كلمة عَوْراء، وجد بغيته، وما يناسبها، فجعلها فاكهته ونقله”، لذلكم فسَتْر غيب الناس عن الناس نعمة كبيرة تُثري الخير في المجتمع وتُنميه، ويجعلنا نتعامل مع الآخرين، وننتفع بهم على عِلاَّتهم، هذا علما أن الحق تبارك وتعالى لم يعصم أحداً من المعصية وعمل السيئة. أسأل الله تبارك وتعالى أن يمن علينا بستره الجميل، وأن يخلقنا بهذا الخلق الأثيل، أمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد، فيا عباد الله، إن السَّتْر على الناس لايعني بحال من الأحوال ترك الإنكار على من تَسْتُره فيما بينك وبينه، وإذا أنكرت عليه ونصحته، فلم ينتهِ عن قبيح فعله، ثمَّ جَاهَر به جازت الشَّهاده عليه بذلك، كما ذكر العلماء، حيث لايعدون ذلك من الغيبة المحرَّمة، بل إنه من النَّصيحة الواجبة.
عباد الله، كان النَّبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه إذا بلغه عن الرَّجل الشَّيء،لم يقل: ما بال فلان يقول؟ ولكن يقول: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟ وهذا مشهور عنه صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، وفي المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “كلُّ أمَّتي معافى إلا المجَاهرين، وإنَّ من المجَاهرة: أن يعمل الرَّجل باللَّيل عملًا، ثمَّ يصبح وقد سَتَره الله عليه، فيقول: يافلان، عملت البارحة كذا وكذا. وقد بات يَسْتُره ربُّه، ويصبح يكشف سِتْر الله عنه”، والمجَاهرون هم الذين يجاهرون بالفواحش، ويتحدَّثون بما قد فعلوه منها سرًّا. ولنعلم أنَّ ستْر الله مستلزم لستْر المؤمن على نفسه، فمن قصد إظهار المعصية والمجَاهرة، فقد أغضب الله تعالى فلم يَسْتُره، ومن قصد التَّسَتُّر بها حياءً من ربِّه ومن النَّاس، مَنَّ الله عليه بِسِتره إيَّاه.
فلنستر إخواننا عباد الله، فإنَّه لا طاقة لنا بحرب الله، القادر على كشف عيوبنا، وفضح ذنوبنا، التي لايعلمها النَّاس عنا، ولنلجم ألسنتنا عن الخوض في الأعراض، وتتبُّع العَورات، وإفساد صِيت المسلمين، وإساءة سُمْعَتهم. فإنَّ من اتَّبع عَورات المسلمين يتَّبع الله عَوْرته، ومن يتَّبع الله عَوْرته يفضحه في بيته كما جاء في الحديث الصحيح. نسأل الله السلامة والعافية، والحمد لله رب العالمين.