هديه صلى الله عليه وسلم في النوم (3 )

هديه صلى الله عليه وسلم في النوم (3 )

الأستاذ يوسف المختار بصير

الحمد لله، الحمد لله الذي أضاء الكون بنور الرسالة، وبعث في الناس رسولا من أنفسهم يحرص على خيرهم، ويطهرهم مما تخلقوا به من جاهلية وسفاهة، نحمده تعالى ونشكره شكرا جزيلا يوافي نعمه، ويدفع عنا نقمه، ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، به ختم الله النبوة والرسالة، وجعله أهلا للوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه وكانت لهم به أسوة حسنة، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، حتى ننقل عاداتنا إلى عبادات نتأسى فيها بنبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقفنا الجمعتين الماضيتين على هدي النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، وذكرنا ما كان يدعو به نبينا صلى الله عليه وسلم قبل نومه وعند اضطجاعه وكيف كان فراشه ووسادته، كما تطرقنا لبعض من أسرار النوم على الشق الأيمن، ومزاياه من الناحية الصحية، نواصل اليوم بذكر أوقات النوم وأفضلها حسب الهدي المحمدي، فأقول وبالله التوفيق، أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، إذا كانت حاجة الإنسان للنوم حاجة فطرية فيا ترى ما الوقت المناسب لأن يأخذ الإنسان غايته منه، وما هل كان للرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر هدي معين؟ فتعالوا بنا لنبحث في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في اختيار أوقات النوم، ذكرت كتب السنن والسير أن نوم النبي عليه الصلاة والسلام كان من أعدل النوم وأنفعه، فقد كان ينام ما يعادل ثماني ساعات هي ثلث الليل والنهار، وهي أفضل النوم عند الأطباء، فكان ينام أول الليل، ويقوم آخره، وربما سهر أول الليل في مصالح المسلمين، وكان تنامُ عيناه، ولا ينامُ قلبُه. وإذا نام، لم يُوقظوه حتى يكونَ هو الذي يستقيظ، كما ثبت عنه حرصه على نوم القيلولة، والقيلولة هي النوم وسط النهار في وقت الزوال أو قريب منه قبله أو بعده في وقت الظهيرة ولا بأس بها، ومما جاء في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: “ولكن تميماً الداري أتاني فأخبرني خبراً منعني القيلولة من الفرح وقرة العين”، وهذا دال على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على القيلولة، وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الطبراني في الأوسط: “قِيلوا فإنَّ الشياطين لا تَقِيل”، وفائدة النوم في هذا الوقت الإستعانة به على التهجد بالليل. ومن هديه صلى الله عليه وسلم أيضا أنه كان يحب أن ينام مبكرا، ففي الحديث: “وكان -أي النبي صلى الله عليه وسلم- يستحب أن يؤخر العشاء التي تدعونها العتمة، وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها”، لأن النوم قبلها قد يؤدي إلى إخراجها عن وقتها مطلقًا أو عن الوقت المختار، والسمر بعدها قد يؤدي إلى النوم عن الصبح أو عن وقتها المختار أو عن قيام الليل، والسهر ابتلاء عظيم أُصيبت به الأمة في وقتنا الراهن، خاصة مع انشغال الناس شبابا وشيبا بوسائل التواصل الاجتماعي، وبالقنوات التلفزية المتنوعة والمتعددة، وما تحمله من مواد تستميل عشاقها، فيسهرون الساعات الطوال، ولا ينامون إلا عند اقتراب ساعة الفجر، فيضيعون الصلاة، ويضيعون بركة البكور، ونسائم الصباح، التي يقول عنها الشاعر: السر في الصباح من نامه ** مأموله من نومه قد فاته **  أنفاسه نفائس للحجا ** يا ويح من ضيع أوقاته، أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، فكما حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على النوم في الأوقات التي ذكرنا، نجده صلى الله عليه وسلم ينهانا عن أوقات أخرى للنوم، وهي نوم في أوقات من النهار التي قيل عنها إنها أردأ النوم حيث يورث الأمراض الرطوبية والنوازل، ويفسد اللون ويورث الطحال، ويُرخي العصب ويكسل ويضعف الشهوة إلا في الصيف وقت الهاجرة، وأردؤه نوم الصُّبحة، وهو أن ينام الشخص حين يصبح وقد قيل إنه يؤثر في الرزق لأن ذلك وقت تطلب فيه الخليقة أرزاقها، وهو وقت قسمة الأرزاق، فنومه حرمان إلا لعارض أو ضرورة، وكل ذلك على حسب مشيئة الله، وهو أي نوم الصبحة مضر جدًا بالبدن لإرخائه البدن وإفساده للفضلات التي ينبغي تحليلها بالرياضة، فيحدث تكسرًا وعِيًّا وضعفًا، وإن كان قبل التبرز(أي قضاء الحاجة) والحركة والرياضة وإشغال المعدة بشئ فذلك الدّاء العضال المولّد لأنواع من الأمراض، فقد روي أن سيدنا عبد الله بن عباس (ض) رأى ابنا له نائمًا نومة الصُبحة -أي النوم أول الصباح، أو نوم الغداة – فقال له مستنكرا: “قم، أتنام في الساعة التي تقسم فيها الأرزاق؟”. وأردأ من هذا النوم بعد العصر، وقد قال العلماء فيه: إن النوم بعد العصر يضعف الفهم، وهو لغير حاجة لا خير فيه، وقد ورد في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث ولكنه حديث ضعيف، وقد قيل: نوم النهار ثلاثة خُلُقٌ وخُرْقٌ وحُمْقٌ، فالخُلُقُ هو نومة الهاجرة، هو النوم عند نصف النهار عند اشتداد الحر وقت الظهر، وهي خُلُقُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الخُرْقُ فهو نومة الضحى قيل إنه يشغل عن أمر الدنيا والآخرة، وأما الحُمْقُ فهو نومة العصر. وقد قال أحدهم في نوم الضحى والعصر: ألا إنَّ نوماتِ الضّحى تورثُ الفتى ** خبالا ونومات العُصَير جنون، كما ثبت النهي عن صفات أخرى للنوم، لضررها بالإنسان، وهي: النوم في الشمس، وهو نوم الإنسان بعضه في الشمس وبعضه في الظل، وهو نوم ردئ قيل إنه يثير الداء الدفين، فقد روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة (ض) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا كان أحدكم في الشمس فقلص عنه الظل فصار بعضه في الشمس وبعضه في الظل فليقم”، كما أخرج أبو داود وابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم “نهى أن يقعد الرجل بين الظل والشمس، كما نبه النبي صلى الله عليه وسلم عن النوم على الأكل ونهى عنه، وذلك لأنه  يقسي القلب ولهذا كان في وصايا الأطباء لمن أراد حفظ صحته أن يمشي بعد العشاء خطوات، ولو مائة أو خمسين أو أربعين خطوة، ولا ينام عقبه فإنه مضر جدا، وقال الأطباء المسلمون: أو يصلي عقيبه أي بعد طعام العشاء وذلك ليستقر الغذاء بقعر المعدة فيسهل هضمه ويجود بذلك، جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب، آمين وآخر دعوانا أن الحمد له رب العالمين.

الخطبــة الثانـيـة

أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، كان صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ من منامه في الليل قال: “لاَ إلَه إِلاَّ أَنْتَ سبحَانَكَ، اللهمَ إنِّي أستغْفِركَ لِذَنبِي، وَأَسْأَلُكَ رَحمَتَكَ، اللهُمَّ زِدْني عِلماً، وَلاَ تُزِغ قَلبي بَعْدَ إِذ هَدَيتَني، وَهَبْ لي مِن لَدنكَ رَحْمَةَ، إِنَّكَ أَنتَ الْوَهاب “. وكان إذا انتبه من نومه قال: “الْحَمْدُ لله الَّذِيَ أَحيَانَا بَعدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النّشُور”. ثم يتسوَّك، وربما قرأَ العشر الآيات من آخر سورة آل عمران من قوله: “إنَ في خَلْقِ السَّموَاتِ والأَرْضِ…” إِلى آخرها، وقال: “اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَاواتِ والأَرْض وَمَنْ فِيهنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيَمُ السَّمَاوَاتِ والأَرضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْد، أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقُّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبيّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللهُمَّ لَكَ أَسلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لي مَا قَدَّمْتُ، وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ، وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ إِلَهي، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ”. أما من أرقه النوم، فقد أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يدعو بهذا الدعاء ففي سنن الترمذي عن بريدة قال: “شكى خالدٌ (ض) إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ما أنام الليل مِن الأرَقِ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا أوَيْتَ إلى فِرَاشِكَ فَقُلْ: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَواتِ السَّبْع وَمَا أظَلَّتْ، ورَبَّ الأرَضِينَ، وَمَا أَقَلَّتْ، وربَّ الشَّيَاطينِ وما أضَلَّتْ، كُنْ لَي جاراً مِنْ شَرِّ خَلْقِكَ كُلِّهِمْ جميعاً أنْ يَفْرُطَ علىَّ أحدٌ مِنْهُمْ، أَوْ يَبْغيَ عَلَيَّ، عَزَّ جَارُك، وجَلَّ ثَنَاؤُكَ، ولا إلهَ غَيْرُك”، وعن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كان يُعَلِّمُهم مِنَ الفَزَعِ: “أعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التامَّةِ مِنْ غَضِبهِ، وعِقَابِهِ، وَشرِّ عِبَادِه، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وأعُوذُ بِكَ رَبِّ أنْ يَحضُرُونِ”. ونظرا لأهمية النوم في حياة الإنسان عامة والمسلم خاصة، فقد خصص أهل الدثور من أموالهم وقفا يسمى وقف مؤنس المرضى، وهو وقف يُنفَق منه على عدَّة مُؤذِّنين، مِن كل رخيم الصوت حسن الأداء، فيُرتِّلون القصائد الدينيَّة طول الليل، بحيث يُرَتِّل كل منهم ساعة، حتى مطلع الفجر، سعيًا وراء التَّخفيف عن المريض الذي ليس له مَن يُخَفِّف عنه، وإيناس الغريب الذي ليس له مَن يُؤنِسه. هذا أيها الإخوة المؤمنون هدي نبينا، وثمار حضارة المسلمين الخاص بالنوم، فأيننا نحن من التأسي بنبينا فيه وبالتأسي بسلفنا الصالح، ألا فتشبهوا إخواني برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمسكوا بهديه لعلكم تفلحون، الدعاء.

خطبة الجمعة من مسجد الحسنى عين الشق، التأسي برسول الله: هديه صل الله عليه وسلم في النوم (3) الجمعة 23 ربيع الثاني 1441 موافق 20 دجنبر 2019.

 

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *