هديه صلى الله عليه وسلم في الأكل والشرب (2)
هديه صلى الله عليه وسلم في الأكل والشرب (2)
الأستاذ مولاي يوسف المختار بصير
الحمد لله، الحمد لله الذي أضاء الكون بنور الرسالة، وبعث في الناس رسولا من أنفسهم يحرص على خيرهم ويطهرهم مما تخلقوا به من جاهلية وسفاهة، نحمده تعالى ونشكره شكرا جزيلا يوافي نعمه، ويدفع عنا نقمه، ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ختم به النبوة والرسالة، وجعله أهلا للوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه وكانت لهم به أسوة حسنة، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، في الجمعة الماضية، تناولنا الحديث عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الأكل، وبيننا جملة من الأحاديث والآثار التي رواها الصحابة في باب طريقة الأكل ما ينبغي أن يكون عليه المسلم تجاه نعم الله عليه، وذلك من أجل التأسي برسولنا الأكرم، وتعليم أبنائنا ومن يلينا سنته، والإحتذاء بها، معتبرين أن الإقتداء بهديه في كل المجالات ينقلنا من حال العادة إلى العبادة، خاصة وأننا نتحدث عن شيء فطري وأساسي لحياة الإنسان، ألا وهو الأكل والشرب، واليوم أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، نواصل بحول الله، الحديث في نفس الموضوع، ونبين هديه صلى الله عليه وسلم في الشرب، فأقول وبالله التوفيق، أما عن هدي النبي صلّى الله عليه وسلّم في الشراب فقد وردت العديد من الأحاديث النبوية الشريفة التي تبيّن ذلك، فقد رُوي عن سيدنا أنس بن مالك (ض) “أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يتنفَّسُ في الإناءِ ثلاثًا إذا شرِب، ويقولُ: هو أمرَأُ وأروَى”، بمعنى أنه صلى الله عليه وسلم كان يشرب الماء على دفعتين أو ثلاث، وأمر أن يكون الشرب مصاً لا عبا وكرعا كما تفعل البهائم، لما في ذلك من أثر سيء على المعدة والجهاز الهضمي عموماً، ومن الآداب التي حثّ عليها النبي صلى الله عليه وسلم في الشرب أن يكون ساقي القوم آخر واحد يشرب الماء، مقدّماً الماء لغيره فعن أبي قتادة (ض) أنه قال: “صَبَّ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ لِي: اشْرَبْ، فَقُلتُ: لا أَشْرَبُ حتَّى تَشْرَبَ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: إنَّ سَاقِيَ القَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا”، ومن هديه صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بالبركة بعد الشرب ويقول: “من سقاه اللهُ عزَّ وجلَّ لبنًا فليقلْ: اللهمَّ بارِكْ لنا فيه وزِدْنا منه”، وقال صلى الله عليه وسلم: “إذَا أكَلَ أحَدُكُمْ طَعَاماً فَلْيَقُلْ: اللّهُمّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَأطْعِمْنَا خَيْراً مِنْهُ، وَإذَا سُقِيَ لَبَنَاً فَلْيَقُلْ اللّهُمّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ، فَإِنّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِىءُ مِنَ الطّعَامِ وَالشّرَابِ إلاّ اللّبَن”، رواه أبو داود من حديث ابن عباس. فقد فضّل النبي عليه الصلاة والسلام من الشراب اللبن على غيره، كما كان يعجبه شرب الماء البارد العذب من الآبار، وورد أنه صلّى الله عليه وسلّم شرب الماء قائماً، لكن ذلك كان قليلاً منه، ورُوي عن عبد الله بن عباس (ض) أنه قال: “سَقَيْتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من زمزمَ، فشرِب وهو قائمٌ”، ورُوي عن عبد الله بن عمرو (ض) أنه قال: “رأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يشْرَبُ قائِمًا، وقاعِدًا”. أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، أخرج ابن ماجة عن سيدنا أنس بن مالك (ض) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “إن من الإسراف أن تأكل كل ما اشتهيت”، فالنبي صلى الله عليه وسلم يحذر من الإسراف في الشراب والطعام، فعن المقداد بن معد يكرب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لابد فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه”، كما أنه أرشد إلى أن طعام الواحد يكفي ويشبع الاثنين ويقيم أودهم، ولو حافظ المسلمون اليوم على هذه الوصايا النبوية لحموا أنفسهم من كثير من الأمراض التي بين الطب قديما وحديثا أن أغلبها نتيجة الإسراف وعدم انتظام الأكل والشرب، كما أن من أخلاق المسلم كبح جماح نفسه ووقايتها من الإسراف المذموم، فيعطيها حيناً من مشتهياتها المباحة، ويمنعها حيناً، لا تحريماً للطيبات ولكن ترويضاً لها للتمكن من قيادة زمامها. ذكر الإمام الغزاليّ في كتابه الإحياء الأضرار الناجمة عن الإسراف في الطعام، فمنها الضرر الشرعي، وهو الدخول فيما نهى عنه الرسول صلّى الله عليه وسلّم من الإكثار في الطعام والشراب، ومنها الضرر البدني، وهو أنّ كثرة الطعام تؤدّي بالجسم إلى الفساد والأمراض والكسل عن الصلاة، ومنها الذي يلحق بالقلب والعقل، أو يؤثّر فيهما سلباً، فيمنعهما عن القيام بمهامهما على أكمل وجهٍ. جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب، آمين وآخر دعوانا أن الحمد له رب العالمين.
الخطبــة الثانـيـة
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون، هذه إخوتي بعض أحوال النبي صلّى الله عليه وسلّم في الأكل والشرب، سقناها لكم للتذكرة والتعلم، وما أحوجنا اليوم لمعرفتها وإشاعتها بيننا، لأننا أصبحنا في مجتمعاتنا نرى أن الناس إذا دعوا لحفل أو وليمة تخالف أعمالهم هدي النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومنهجه ومنهج أصحابه، في الأكل والشرب، فلا يذكرون الله لا عند البدء ولا عند الختام، ويسرفون في الأكل والشرب، وتطيش أيديهم في الأواني غير معتبرين لمن يأكل معهم، وكأنها نهاية لفضل الله تعالى عليهم، والأقبح من هذا كله أنهم ينصرفون من غير أن يدعوا لمن استضافهم، ومن غير شكر لله المنعم عليهم، في حين أن شكر المنعم، والدعاء للمضيف واجب، وقد ثبت عن سيدنا رسول الله، فيما أخرجه الإمام مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو لمن ضيفه أو قدم له طعاما وكان يقول: “اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مَا رَزَقْتَهُمْ، وَاغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ”، أخرج أبو داود وابن ماجه عن سيدنا أنس (ض) الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قدم على سعد بن عبادة (ض) فجاء بخبز وزيت فأكل ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فراغه داعيا: “أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الأَبْرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيكُمُ المَلائِكَةُ”، هذا هدي نبينا صلى الله عليه وسلم في الأكل والشرب، وهذا هو الذوق الإسلامي السامي الذي يرفع الإنسان إلى درجة أسمى من غيره من المخلوقات، والذي بفضله ننتقل من حاجاتنا الإنسانية إلى عبادات ننال بها عند الله الدرجات العالية، ونكتب عنده من الشاكرين لنعمه، ألا فتشبهوا إخواني برسول الله لعلكم تفلحون، الدعاء