لماذا نخشى الفقر والله ضمن الأرزاق؟

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك،

اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك وأشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، يقول الله تعالى في كتابه الكريم:” اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَٰلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ”، في هذه الآية الكريمة قرن عز وجل الرزق بالخلق فقال تعالى:” خلقكم ثم رزقكم”، فدل على أن الرزق من الله سبحانه لا غير كالخلق تماما، ثم لم يكتف بالدلالة حتى وعد فقال عز وجل: “إن الله هو الرزاق”، ثم لم يكتف بالوعد حتى ضمن فقال:” وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها”، فأتى سبحانه بلفظة على حملا للمكلف على الثقة به تعالى في شأن الرزق والإعراض عن إتعاب النفس في طلبه، ثم لم يكتف بالضمان حتى أقسم فقال: فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون”، قالت الملائكة عند نزول الآية: هلكت بنو آدم أغضبوا الرب حتى أقسم لهم على أرزاقهم.
أيها الإخوة الكرام، الإنسان مفْطورٌ على حبّ وُجوده وعلى سلامة وُجوده، وعلى كمال وُجوده، وعلى استمرار وُجوده في حياته، شيئان خطيران نعطيهما أهميّةً كبيرة في حياتنا، ألا وهما أجلُنا ورزْقُنا، وإن كلّ ما ترون مما نفعلُه من انحرافات ومجاوزات وتعدِّياتٍ، إنّما ينطلقُ بناء على سعينا في الحفاظ على حياتنا وعلى رزقنا، فحُبّ الحياة والحِرْصُ على الرِّزْق وخشية الفقر مع  ضمان الله للأرزاق وراء كلّ المعاصي والانحرافات، وقد تستغربون إذا عرفتم أنّ تِسْعة أعشار المعاصي تأتي من جراء السعي في كسْب الرّزق، والحقيقة الكبرى أنَّ أحدًا لا يعرفُ أين رزْقه، قال بعض الحكماء: أُغرِّبُ خلْف الرّزق وهو مُشرّق وأُقسِمُ لو شرّقت راح يُغرِّب.
وإن من العوارض الشاغلة عن عبادة الله تعالى، والتي تشغل عن العبادة وتحتاج إلى فراغ القلب والبدن ليحصل حقها، وهو ما يتعلق بالجري وراء تحصيل الرزق، والفراغ لا يكون إلا للمتوكلين بل أقول كل من هو ضعيف القلب لايكاد يطمئن قلبه إلا بشيء معلوم من الرزق، وعندما نتأمل في الكثير ممن يعيشون حولنا في مجتمعنا نجد أن الكثير منا يخشى الفقر مع أن الخالق عز وجل ضمن الأرزاق، ويتجلى ذلك في وجود فئات من الناس من بني مجتمعنا يقضون جل أوقاتهم يجرون وراء البحث عن الرزق والإكثار من الأرباح وقد لا يبالون أهي من حلال أم من حرام؟، أو أن جريهم وراءها قد يكون على حساب أوقات مخصوصة لعبادة الله، أو أوقات مخصوصة للأهل والأولاد، أو مخصوصة للراحة، فظهرت بيننا أيضا فئة من الناس يجرون وراء البحث عن الكنوز، وجل أوقاتهم ضاع في ذلك، وظهر بيننا الذين يعطلون العبادات ولاهم لهم إلا تحصيل المزيد من الأموال والحرص على الدنيا، وظهر بيننا الذين يمتهنون التسول ولو حصلوا ما يكفيهم، وظهر بيننا الذين يطلبون الرزق عن طريق الحرام ويستكثرون من ذلك، وظهر بيننا الذين يحتالون على الناس بشتى أنواع الحيل من أجل كسب الرزق، وظهر بيننا الذين يسرقون ويغشون من أجل كسب الرزق، وظهر بيننا المتعلقون بالدنيا وإطالة الأمد فيها بالتخطيط لعشرات السنين المستقبلية، لذلكم ففي هذه الخطبة بحول الله وغيرها من الخطب اللاحقة إنشاء الله تعالى، وبعد أن عرفنا أهمية هذا الموضوع، سأتعرض لمعنى الرزق والأحاديث والآثار الواردة في ذلك وأنواعه، ومتى يكون الرزق نعمة ومتى يكون نقمة، والحكمة من تفضيل بعض الناس على بعض في الرزق، ولماذا يقنن الله تعالى على عباده في الرزق؟، وهل هناك أرزاق تستمر بعد الموت؟ وأسباب سعة الرزق، وكيف نحصل البركة فيه وغيرها من الإشكاليات التي يثيرها هذا الموضوع؟
أيها الإخوة الكرام، الرزق هو ماساقه الله سبحانه وتعالى إلى الإنس والجن والدواب فانتفعت به بالفعل، فشمل المأكول وغيره مما انتفع به العبد لا ما يملكه، بل ولا كل ما يأكله فإنه قد يأكل شيئا ثم يقذفه من جوفه، ويكون رزق غيره فلا قدرة له على معرفة رزقه، فإنه لا يعرف ما الذي ينتفع به، وأرزاق العباد على الله، فهو خالق الأرزاق والمتكفل بإيصالها لجميع خلقه، والفرق بين الرازق والرزاق، أن الرازق اسم فاعل وأما الرزَّاق فهو صيغة مبالغة، ومعنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى يرزق جميع المخلوقات مهما كثر عددهم، وهذا هو المعنى الذي قررته الآية حين قال تعالى:” ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين “، فهو لم يخلقهم للتسخير وللخدمة في توفير الطعام والشراب أو حفظه، كما يفعل السادة مع العبيد، بل هو سبحانه الرزاق الذي يرزق غيره، وقوله في الآية:” هو الرزاق ” تعليل لعدم طلب الرزق، وهو نفس المعنى الموجود في قول الله تعالى:” وهو يطعم ولا يطعم “، يعني أنه تعالى هو الذي يرزق الخلائق، وهو الغني المطلق فليس بمحتاج إلى رزق، أي هو الذي يطعمهم، وهو جل وعلا لا يأكل ولايشرب تعالى عن ذلك علوا كبيرا، لأنه لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه المخلوق من الغذاء، فهو الغني لذاته، الغني المطلق، قال تعالى :” يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد “، و في آية أخرى قال عز وجل :”وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى”.
أيها الإخوة الكرام، إن من المتفق عليه أن أربعة لا تقبل التغير أصلا: العمر والرزق والأجل والسعادة أو الشقاوة، فقد صح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله إليه الملك، فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد “، فعلى العاقل ألا يهتم برزقه الاهتمام البالغ، علينا أن نمتهن الأسباب ونتوكل على الله فإنه حسبنا ونعم الوكيل، روي أن موسى عليه السلام لما أمر بالذهاب إلى فرعون تعلق قلبه بأهله قائلا من يقوم بأمرهم؟ فأمره الله تعالى أن يضرب صخرة بعصاه، فضربها فانشقت عن صخرة، فضربها فانشقت عن أخرى، فضربها فخرجت منها دودة في فمها مايجري مجرى الغذاء فسمعها تقول: سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني ويذكرني ولا ينساني، وعن أنس: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مفازة في حاجة فرأينا طيرا يلحن بصوت، فقال عليه الصلاة والسلام أتدري ما يقول هذا الطير يا أنس؟ قلت الله ورسوله أعلم بذلك، قال إنه يقول يارب أذهبت بصري وخلقتني أعمى فارزقني فإني جائع، فجاء طير آخر وهو الجراد فدخل في فمه فابتلعه ثم رفع صوته وجعل يلحن، فقال عليه الصلاة والسلام، أتدري ما يقول؟ قلت الله ورسوله أعلم، قال إنه يقول الرزق مقسوم والحريص محروم والبخيل مذموم والحاسد مذموم.أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

 

الخطبة الثانية
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد، فيا عباد الله، قال عليه الصلاة والسلام: إن روح القدس،أي جبريل، نفث في روعي، أي تفل في قلبي، والمراد ألقى الوحي فيه من غير أن أسمعه أو أراه،”لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله” أي ثقوا بضمانه، “وأجملوا في الطلب” أي اطلبوا الرزق بطريق حلال بلا حرص ولا تهافت على الحرام، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعصية الله، فإن الله تعالى لا ينال ماعنده إلا بطاعته.
أيها الإخوة الكرام، أختم بهذه القصة: ضاق الحسن بن علي رضي الله عنهما ضيقة شديدة وكان عطاؤه من معاوية كل سنة مائة مائة ألف فحبسها عنه فدعا بدواة ليكتب إليه ثم أمسك فرآه عليه الصلاة والسلام يقول له كيف أنت؟ فقال بخير يا أبت وحدثه بذلك، فقال له: دعوت بدواة لتكتب إلى مخلوق مثلك تذكره نفسك، فقال كيف أصنع؟ قال: قل اللهم اقذف في قلبي رجاءك واقطع رجائي عمن سواك حتى لا أرجو أحدا بعدك، اللهم ما ضعفت عنه قوتي وقصر عنه أملي ولم تنته إليه رغبتي ولم تبلغه مسألتي ولم يجر على لساني مما أعطيته الأولين والآخرين من اليقين فاخصصني به يارب العالمين، قال فما ألححت بهن أسبوعا حتى بعث إلي معاوية بألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم، فقلت الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره ولا يخيب من رجاه ومن دعاه ولا يقطعه، فرأيته صلى الله عليه وسلم فقال كيف أنت؟ قلت بخير وحدثته حديثي فقال هكذا من رجا الخالق ولا يرجو المخلوق.والحمد لله رب العالمين.
الدعاء …

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *