معاملة النبي صلى الله عليه وسلم وتأديبه للأطفال
الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لاتباع سيد المرسلين، وأيدنا بالهداية إلى دعائم الدين، ويسر لنا اقتفاء آثار السلف الصالحين، نحمده تعالى على ما منَّ به من أنوار اليقين،
ونشكره جل وعلا على ما أسداه من التمسك بالحبل المتين،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن سيدنا محمداً عبده ورسوله، سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، صلاة دائمة إلى يوم الدين،
أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، لازلنا نتفسح في رحاب شمائل رسول الله صلى الله عليه وسلم، نرتشف من سيرته ما يهدينا وييسر لنا سبل الإقتداء بالحبيب المصطفى، واليوم نسلط الضوء على منهجه صلى الله عليه وسلم في تربية الأجيال، باعتبار أن أزمة الأمة الإسلامية عامة، وأزمتنا في بلدنا هذا، تتجلى في سبل توجيه أبنائنا وتخلقهم بخلق الإسلام الفضلى،
واليوم نحن في أمس الحاجة للاهتمام بالناشئة ليكونوا فعلا زينة الحياة الدنيا، ومستقبل الأمة، وعدّة الزمان بعد الله، فهُم شباب الإسلام، والناشئون في طاعة ربهم، فلا تكاد تعرف لهم نزوة، أو يعهد منهم صبوة، يتسابقون في ميادين الصالحات، أولئك لهم الحياة الطيبة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله سبحانه. عباد الله، لئن تطلعت الأمة لإصلاح ناشئتها ورغبت أن تقرّ أعينها بصلاحهم فعليها أن تهتمّ بتربيتهم، وتسليحهم بسلاح الإيمان، وتحصينهم بدروع التقوى، وأخذهم بجدِّ وقوة العلم النافع والعمل الصالح،
وإن العناية بالنشء صبيانا وأطفالا وشبابا، لهي مسلك الأخيار وطريق الأبرار، ولا تفسد الأمم إلا حين تفسد الناشئة من أجيالها، ولا ينال منها الأعداء إلا حين ينالون من شبابها وصغارها. عباد الله، إن الشاب في فترات تكوينه يمر بمراحل، كل مرحلة أهمّ من الأخرى، وإن من أهم تلك المراحل مرحلة الطفولة، فهي السن الذي يتعرف فيه الطفل على مجريات الحياة، فيعرف الصحيح من الخطأ، ويتعلم الصواب أو يتعوّد على الغلط، يقول حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم: “كل مولودٍ يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه”، لهذا كانت مرحلة الطفولة من أخطر المراحل، ولقد كان السلف الصالح يعنون بأبنائهم منذ نعومة أظفارهم، يعلّمونهم وينشّئونهم على الخير، ويبعدونهم عن الشرّ، ويختارون لهم المعلمين الصالحين والمربين الحكماء الأتقياء،
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فقد راعى الأطفال واهتم بأمرهم، فلم يكن صلى الله عليه وسلم يتضجر ولا يغضب منهم، إن أخطؤوا دلهم من غير تعنيف، وإن أصابوا دعا لهم،
وهذه نماذج من معاملته لأطفاله صلى الله عليه وسلم: روى الإمام أحمد في مسنده أن أبا هريرة ض قال: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، فإذا سجد رسول الله وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا رفع رأسه أخذهما من خلفه أخذًا رفيقًا ووضعهما على الأرض، فإذا عاد إلى السجود عادا إلى ظهره حتى قضى صلاته”،
وعن أم خالد ض قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي وأنا صغيرة، وعلي قميص أصفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سنه سنه”، أي: حسن حسن، قالت: فذهبت ألعب بخاتم النبوة على ظهر رسول الله، فزبرني أبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أبلي وأخلِقي، ثم أبلي وأخلقي”،
ولقد كان صلى الله عليه وسلم يلاعب الأطفال، ويمشي خلفهم أمام الناس، وكان يقبلهم ويضاحكهم، عن يعلى بن مرة ض قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد دعينا إلى طعام فإذا الحسين بن علي يلعب في الطريق، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم أمام القوم ثم بسط يديه ليأخذه، فطفق الغلام يفرّ هاهنا ويفرّ هاهنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يلحقه يضاحكه حتى أخذه، فجعل إحدى يديه في ذقنه والأخرى في رأسه ثم اعتنقه ثم أقبل علينا وقال: “حسين مني وأنا من حسين”، وعن أبي هريرة ض قال: سمعت أذناي هاتان وبصر عيناي هاتان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيديه جميعًا بكفي الحسن أو الحسين، وقدماه على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ارقه ارقه”، قال: فرقى الغلام حتى وضع قدميه على صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “افتح فاك”، ثم قبله، ثم قال: “اللهم أحبه فإني أحبّه”، وكان صلى الله عليه وسلم إذا سمع بكاء الصبي وهو في صلاته تجوّز فيها مخافة الشفقة من أمه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ذات يوم فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه، ثم قال: “صدق الله ورسوله: “إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ”، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان فيعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما”، ثم أكمل خطبته.
وعن عمر بن أبي سلمة قال: كنت غلامًا في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا غلام، سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك”.
فاتقوا الله عباد الله، وراقبوه فيما تحت أيديكم من ابنائكم وما استرعاكم الله، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد، فاتقوا الله أيها الناس، واشكروا نعمة الله عليكم بهؤلاء الأولاد الذين جعلهم الله فتنة لكم، فإما قرّة عين في الدنيا والآخرة، وإما حسرة وندم ونكد.
وإن من شكر نعمة الله عليكم فيهم أن تقوموا بما أوجب الله عليكم من رعايتهم وتأديبهم بأحسن الأخلاق والأعمال وتنشئتهم تنشئة صالحة.
عباد الله، هناك أمورًا جعلها الله من فِعل الأب وتنفع الابن من بعده، ومن أهمّ هذه الأمور صلاح الوالد في نفسه، فإنه سبب لحفظ الله عز وجل لأبنائه من بعده، يقول الله سبحانه: “وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ”.
يقول ابن عباس رضي الله عنه: “حفظهما الله بصلاح والدهما ولم يذكر الله للولدين صلاحًا”، وإن الله بفضله وكرمه إذا أدخل المؤمنين الجنة يلحِق بالآباء أبناءهم وإن كانوا دونهم في العمل، يقول الله سبحانه: “وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ”، يقول ابن عباس ض عند هذه الآية: “إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل كي تقرّ بهم أعينهم”، “إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما.
الدعاء….