لا تغضب

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك،

وأشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى، وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، روى الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني، قال لا تغضب، فردّد ، قال لا تغضب، بهذه الكلمة الموجزة أيها الإخوة والأخوات، أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى خطر هذا الخلق الذميم، وروى الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من دعاء: “اللهم إني أسألك كلمة الحق في الغضب والرضا”.
أيها الإخوة الكرام، في بعض الخطب الماضية ذكرنا أن الغضب يعتبر من أهم مداخل الشيطان اللعين علينا ليزج بنا في رحاب المعصية، وأن أسهل أحوالنا أن يتلبس الشيطان بنا عندما نكون في حالة الغضب، وكثير منا لا يحسن الغضب إن غضب، ولم نرب أنفسنا وأولادنا كيف نغضب؟ ولماذا نغضب؟، فالملاحظ عموما على الناس ومن خلال معاملاتهم اليومية واحتكاكهم المباشر أنهم يفقدون السيطرة على العقل والاتزان المطلوب والمعاملة بالحسنى، فتجد بعضهم عند حالة الغضب يسب بعضا، وبعضهم يضرب بعضا وبعضهم يتشاجر مع بعض وبعضهم يعتدي على الآخر، فتجد تعبيرات الوجه متغيرة، ولغة الجسد هي التي تتكلم: الأصوات العالية، الكشف عن الأسنان، التحديق بالأعين، مع ازدياد في معدل ضربات القلب وضغط الدم، وفقدان الوعي واتخاذ قرارات فورية مستعجلة، ويزداد الأمر استفحالا عندما يعتبر البعض منا الغضب شجاعة ورجولة وعزة نفس وكِبر همة، ونادرا ما تحدث المشاجرة البدنية بدون التعبير المسبق عن الغضب، وعلماء النفس يؤكدون أن الشخص الغاضب في الغالب يكون مخطئا جدا، حيث إن الغضب يتسبب في فقدان القدرة على مراقبة وضبط النفس، والقدرة على الموضوعية والمحافظة على الاتزان، وهنا يحسن بي أن أنبه إلى أن الكثير من أشكال الغضب التي نراها بين الحين والآخر في المجتمعات اليوم تستخدم غالبا كإستراتيجية للتلاعب من أجل التأثير على أفراد المجتمع، وتضيع أثناء ذلك الكثير من حقوق الناس، وتضيع الكثير من الأوقات سدى، ويكون بالتالي الشيطان وحزبه هم الرابح الأكبر، فلننتبه لذلك ولنعبر عن غضبنا وإضرابنا بطرق حضارية لاضرر فيها ولا ضرار، فالغضب جماع الشر، ومصدر كل بليّة، فكم مُزّقت به من صلات، وقُطعت به من أرحام، وأُشعلت به نار العداوات، وارتُكبت بسببه العديد من التصرفات التي يندم عليها صاحبها ساعة لا ينفع الندم، وكم أوصل أشخاصا أمام المحاكم؟ وكم زج بآخرين في سجون لم تخطر لهم يوما على بال؟ إنه غليان في القلب، وهيجان في المشاعر، يسري في النفس، فترى صاحبه محمر الوجه، تقدح عينيه الشرر، فبعد أن كان هادئا متزنا، إذا به يتحول إلى كائن آخر يختلف كلية عن تلك الصورة الهادئة ، كالبركان الثائر الذي يقذف حممه على كل أحد، لذلكم أحببت أن أخصص خطبة هذا اليوم المبارك لموضوع الغضب لنعرف به وبدرجات الناس في قوة الغضب وأسبابه وأنواعه، على أن نتكلم في خطبة لاحقة عن نتائجه ومختلف العلاجات التي قدمها الإسلام لهذا الداء، وذكر صور من هدي السلف الصالح عند حالة الغضب.
الغضب أيها الإخوة والأخوات كلمة يدرك معناها الصغير والكبير بلا تكلف أو تعب، قال العلماء رحمهم الله تعالى: والغضب حالة نفسانية وهو بديهي التصور، والغضب في اللغة الشدة، ورجل غضوب أي شديد الخلق، والغضوب الحية الخبيثة؛ لشدتها، وقيل في معناه تغيُّر يحصل عند فوران دم القلب ليحصل عنه التشفي في الصدر، وقيل الغضب إرادة الإضرار بالمغضوب عليه.
أما درجات الناس في قوة الغضب، فأولاها نجد التفريط، ويكون ذلك بفقد قوة الغضب بالكلية أو بضعفها، والثانية الإفراط، ويكون بغلبة هذه الصفة حتى تخرج عن سياسة العقل والدين ولا تبقى للمرء معها بصيرة ونظر ولا فكرة ولا اختيار، والدرجة الثالثة: الاعتدال وهو المحمود، وذلك بأن ينتظر إشارة العقل والدين.
وأنواع الغضب ثلاثة، الأول الغضب المحمود وهو ما كان لله تعالى عندما تنتهك محارمه، وهذا النوع ثمرة من ثمرات الإيمان، إذ أن الذي لا يغضب في هذا المحل ضعيف الإيمان، وكان غضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يُعرف إلا أن تنتهك محارم الله تعالى، فعن عائشة رضي الله عنها قالت:  ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا قط بيده، ولا امرأة ،ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل، ومن ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  على أصحابه وهم يختصمون في القدر فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، فقال  بهذا أمرتم ؟ أو لهذا خلقتم ؟ تضربون القرآن بعضه ببعض بهذا هلكت الأمم قبلكم، فقال عبد الله بن عمرو ما غبطت نفسي بمجلس تخلفت فيه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما غبطت نفسي بذلك المجلس وتخلفي عنه، والنوع الثاني وهو الغضب المذموم، وهو ما كان في سبيل الباطل والشيطان كالحمية الجاهلية، والغضب بسبب تطبيق الأحكام الشرعية، وانتشار حلق تحفيظ القرآن الكريم، ومعاداة المسلمين لبعض الأمور الخلافية البسيطة، والنوع الثالث وهو الغضب المباح وهو الغضب في غير معصية الله تعالى ولم يتجاوز حدَّه ،كأن يجهل عليه أحد، وكظمه هنا خير وأبقى، قال تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، ومما يُذكر هنا أن جارية لعلي بن الحسين رضي الله عنه جعلت تسكب عليه الماء فتهيأ للصلاة فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجه  فرفع علي بن الحسين رأسه إليها ، فقالت الجارية إن الله عز وجل يقول :(وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) فقال لها : قد كظمت غيظي قالت وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ فقال لها قد عفا الله عنك قالت وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قال اذهبي فأنت حرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،
أما بعد، ففيا عباد الله،
أما أسباب الغضب وبواعثه فكثيرة جدا، والناس متفاوتون فيها، فمنهم مَن يَغضب لأمر تافه لا يُغضب غيره وهكذا، فمِن أسباب الغضب أولا نجد العُجب، فالعجب بالرأي والمكانة والنسب والمال سبب للعداوة إن لم يُعقل بالدين وذلك برده ودفعه، فالعجب قرين الكِبْر وملازم له، والكِبْر من كبائر الذنوب فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يدخل الجنة مَن في قلبه مثقال ذرة من كِبر، وجاء أن يحيى بن زكريا لقي عيسى بن مريم صلى الله عليهما وسلم فقال : أخبرني بما يُقرِّب من رضا الله، وما يُبعد من سخط الله ؟ فقال : ” لا تغضب ” . قال الغضب ما يبدأه وما يعيده ؟ قال : ” التعزز والحمية والكبرياء والعظمة، ومن أسبابه المراء، وللمراء آفات كثيرة منها الغضب، لهذا فقد نهى الشارع عنه قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا)
ومن أسبابه: المزاح، والمـزاح بدؤه حلاوة وآخـره عـداوة، فتجد بعض المكثرين من المزاح يتجاوز الحد المشروع منه إما بكلام لا فائدة منه، أو بفعل مؤذ قد ينتج عنه ضرر بالغ ثم يزعم بعد ذلك أنه كان يمزح ؛ لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا يأخذن أحدكم متاع صاحبه جادا ولا لاعبا)، ذكر خالد بن صفوان المزاح فقال : يَصُكُّ أحدكم صاحبه بأشد من الجندل،  ويُنشقه أحرق من الخردل، ويُفرغ عليه أحرَّ من المرجل ثم يقول: إنما كنت أمازحك، ومن أسبابه بذاءة اللسان وفحشه بشتم أو سب أو تعيير مما يوغل الصدور ويثير الغضب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله يبغض الفاحش البذيء، ومن أسباب الغضب أيضا  الغدر وشدة الحرص على فضول المال والجاه، فهذه أيها الإخوة والأخوات أسباب الغضب فلنحاول جهدنا اجتنابها والحمد لله رب العالمين
الدعاء.

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *