وقفات مع قصة نبي الله سيدنا موسى عليه السلام وفرعون (تتمة)
وقفات مع قصة نبي الله سيدنا موسى عليه السلام وفرعون (تتمة)
الدكتور مولاي عبد المغيث بصير
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى، وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، تتميما لما بدأناه في الجمعة الماضية بطرقنا لموضوع قصة نبي الله سيدنا موسى عليه السلام وفرعون، بمناسبة شهر محرم الحرام، أقول: بعدما عرفنا ما أكرم الله به سيدنا موسى عليه السلام في طفولته من معجزات باهرة، وماعاناه هو وقومه من قهر وبطش وتجبر فرعون وقومه، وما ابتلى الله به فرعون وقومه ليؤوبوا ويتوبوا إليه، أمر سيدنا موسى عليه السلام ومن معه من الفئة القليلة بالهجرة إلى أرض فلسطين ليلاً فرارًا بالدين والنفس.
وهكذا انطلق بنو إسرائيل في ليلة واحدة، وسرعان ما وصل الخبر إلى فرعون، فأمر بجمع جنوده مِن جميع أنحاء مصر لطلب بني إسرائيل، قال الله تعالى في ذلك:”وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ، فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ.إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ.وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ.وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَذِرُونَ”.ولما وصل سيدنا موسى إلى مدينة مدين بهداية الله له؛ وجد على بئرها جماعة من الناس مِن رعاة الغنم يتزاحمون عليها، ووجد مِن بيْن الناس امرأتين تكفكفان غنمهما أن تختلط بغنم الناس، فسألهما عن خطبهما؟ فقالتا: لانقدر على ورود الماء إلا بعد صدور الرعاء لضعفنا، وسبب مباشرتنا لهذه الرعية ضعف أبينا وكبره، فسقى لهما سيدنا موسى عليه السلام ولغنمهما، ثم رد الصخرة الكبيرة على البئر كما كانت، ثم تولى إلى ظل شجرة، وقد جهده الجوع والمشقة، “فقال رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ”، فسمعته الفتاتان، ولما رجعتا إلى أبيهما سيدنا شعيب عليه السلام، وعلم أبوهما بأمر موسى عليه السلام، أمر إحداهما أن تذهب إليه فتدعوه، فقالت:”إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا “، فلما جاءه سيدنا موسى وأخبره بأمره؛ قال سيدنا شعيب عليه السلام: لاتخف، لقد نجوتَ حيث خرجت الآن مِن تحت سلطان فرعون ودولته، فعند ذلك قالت إحدى الفتاتين:”يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ”، فما كان مِن نبي الله سيدنا شعيب إلا أن عرض عليه نكاح إحدى ابنتيه على أن يقوم على خدمته ثماني أو عشر سنوات، فأتم سيدنا موسى أبعد الأجلين.
تأملوا عباد الله في عظيم خُلق نبي الله سيدنا موسى عليه السلام ومروءته حيث رقَّ لحال المرأتين مع ما هو فيه مِن الجوع والمشقة والغربة وقدم لهما المعونة دون قيد أو شرط، وتأملوا في ابنة سيدنا شعيب تضع معياري القوة والأمانة لاختيار أصحاب المسؤولية، وتمعنوا عرض نبي الله سيدنا شعيب ابنته على سيدنا موسى: “إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ”، ثم انتبهوا إلى أهمية مدرسة رعي الغنم في حياة الأنبياء، والقادة في كل زمان ليتعلموا الصبر والتواضع والرحمة والزهد والحرص على الجماعة.
وبعد هذه المرحلة عباد الله، بدأ نزول الوحي على سيدنا موسى عليه السلام، قال الله تعالى في ذلك: “وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا”، فلما صار أهلاً لتحمل الرسالة، آتاه الله الوحي، وذلك لما خرج مِن مدين، وسار بأهله جهة مصر متخفيًا ومعه غنم وولدان مِن أهله، وكان ذلك في ليلة مظلمة باردة، وقد تاهوا في طريقهم، حيث جعل سيدنا موسى يوقد النار فلا تشتعل، واشتد الظلام والبرد، فبينما هو كذلك إذا أبصر نارًا تأجج في جانب جبل الطور مِن الجهة الغربية، فقال سيدنا موسى لأهله: امكثوا إني رأيت نارًا لعلي أستعلم من عندها على الطريق، ويظهر أنه رآها دونهم، ولأنها كانت نورًا في الحقيقة، فلما قصد سيدنا موسى إلى تلك النار وانتهى إليها، وقد اشتد النور حتى إنه جعل يضع يده على وجهه مِن شدته، وهناك ناداه ربه:”يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ”، وقال له أيضا:”وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى”، وكلام الله مع سيدنا موسى عليه السلام كان مِن أعظم عوامل تثبيته لمواجهة أعتى الظالمين وأفجر المكذبين في عصره، فأكرمه الله بعد ذلك بمعجزات باهرة لمواجهة المكذبين، وذلكم كآية العصا التي تنقلب حية عظيمة لها ضخامة هائلة، وآية نور اليد وبياضها، وبقية الآيات التسع التي كانت أثناء مواجهة الفراعنة واشتداد الأحداث، وآية شق البحر والحجر بالماء، ونزول المن والسلوى. كل هذه آيات بينات أيد الله بها نبيه سيدنا موسى عليه السلام، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. الخطبة الثانيةالحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد فيا عباد الله، بعد هذا كله فكيف كانت المواجهة بين سيدنا موسى وأعتى ملوك الأرض حينئذ؟ خرج فرعون في جنوده مقتفيا أثر بني إسرائيل، وهو في جيش كثيف عرمرم، فأدركهم عند شروق الشمس في المنطقة المعروفة اليوم بخليج السويس، ولما تراءى الجمعان، وعاين كل مِن الفريقين صاحبه وتحققه ورآه، ولم يبقَ إلا المقاتلة، وأصحاب موسى تأكدوا أنهم لايستطيعون مقاومتهم عدة ولا عددا، فقالوا لسيدنا موسى عليه السلام: “إِنَّا لَمُدْرَكُونَ”؛ حيث لايوجد أمامهم إلا البحر، فليس لهم طريق ولا محيد إلا سلوك طريقه، وهذا ما لا يستطيعه أحدٌ ولا يقدر عليه، وفرعون مِن ورائهم، وهم منه في غاية الخوف والذعر؛ فشكوا إلى نبي الله، فأجابهم:”كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ”، وتقدَّم إلى جهة البحر، وهو يقول: ها هنا أمرتُ؛ فلما تفاقم الأمر وضاق الحال واشتد، واقترب فرعون وجنوده، وزاغت الأبصار؛ فعند ذلك نزل الوحي إلى موسى الكليم عليه السلام: “أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ”، فلما ضربه، يُقال إنه قال له: انفلق بإذن الله، “فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ”. وأمر الله الريح، فلفحت طين أرض البحر؛ فصار يابسًا بإذن الله، لا تعلق به سنابك الخيل والدواب ولا الأقدام، فانحدر سيدنا موسى عليه السلام وبنو إسرائيل فيه مسرعين مستبشرين، وقد شاهدوا مِن الأمر العظيم ما يحير الناظرين، ويطمئن قلوب المؤمنين؛ فلما انفصلوا عن البحر وخرج آخرهم منه، كان ذلك عند قدوم أول جيش فرعون ووفودهم عليه، فأراد موسى عليه السلام أن يضرب البحر بعصاه ليرجعه كما كان عليه؛ لئلا يكون لفرعون وجنوده وصول إليه، ولا سبيل عليه، فأمره القدير سبحانه أن يترك البحر على هذا الحال، وذلكم قوله تعالى:”وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ”، أي: ساكنًا على هيئته.فتركه على هيئته وحاله، وانتهى فرعون فرأى ما رأى؛ وهاله هذا المنظر العظيم، وتحقق ما كان يتحققه قبْل ذلك مِن أن هذا مِن فعل الله تعالى؛ فأحجم ولم يتقدم، وندِم على نفسه على خروجه في طلبهم، لكنه أظهر لجنوده تجلدًا، وحملته نفسه الخبيثة على أن قال لجنده: “انظروا كيف انحسر البحر لي؛ لأدرك عبيدي الآبقين مِن يدي، الخارجين عن طاعتي وبلدي” وجعل يقدم تارة، ويحجم تارات.إلى أن شاء الحق سبحانه وتعالى أن يقوده في اتجاه سيدنا موسى ومن معه؛ فلما رأته الجنود سلك البحر، اقتحموا وراءه مسرعين، فخلصوا في البحر أجمعين، حتى همَّ أولهم بالخروج منه؛ فعند ذلك أمر الله كليمه فيما أوحاه إليه أن يضرب بعصاه البحر، فضربه فارتطم عليه البحر كما كان، وجعلت الأمواج تخفض فرعون تارة، وترفعه تارة، وبنو إسرائيل ينظرون إليه، وإلى جنوده، فلما عاين فرعون الهلكة وأحيط به، وباشر سكرات الموت، تاب حينئذٍ إلى ربه، وآمن حين لا ينفع نفس إيمانها، قال تعالى: “حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً”. وهكذا لم ينجُ منهم إنسان، ونجى الله المؤمنين فلم يصب منهم أحد، قال الله عز وجل:”وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ.ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ”.فهذه هي القصة الكاملة المختصرة كيف نجى الله سيدنا موسى عليه السلام من الطاغية فرعون والحمد لله رب العالمين. |