وقفات مع قصة نبي الله سيدنا موسى وفرعون (1)
وقفات مع قصة نبي الله سيدنا موسى وفرعون (1)
الدكتور مولاي عبد المغيث بصير
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى، وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، أحببت التوقف معكم اليوم عند حدث عظيم، حدث في هذا الشهر، شهر محرم الحرام، وهو نصر الله لنبيه سيدنا موسى عليه السلام ومن معه من قومه على الطاغية فرعون ومن معه، علمنا بهذا الحدث عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ووجد اليهود يصومون اليوم العاشر من شهر الله المحرم، فسألهم عن سبب صيامهم؟ فقالوا: يوم صالح، نجَّى اللهُ فيه موسى وقومَه، وأهلك فرعونَ وقومَه، فقال صلى الله عليه وسلم:”أَنَا أَوْلَى بِمُوسَى منهم”، فكيف نشأ إذن نبي الله موسى عليه السلام؟ وما هي أطوار قصته مع فرعون؟ وماهي العبر والعظات التي يمكن استخلاصها من هذه القصة الطويلة المثيرة؟.
عباد الله، إن قصة نبي الله موسى عليه السلام تعتبر من القصص العظيمة التي حظيت بعناية كبيرة من قبل القرآن الكريم، ونجد أطوارها مذكورة في العديد من السور، كما أن له مواقف كثيرة سواء مع فرعون أو مع من كان معه من الحاشية والبطانة، والذي يهمنا بالضبط هو ماوقع بينه وبين فرعون. وكيف نصره الله عليه؟
عباد الله، إن مجملَ ما ذكره الله في كتابِه من نبأِ موسى وفرعون، أن فرعونَ -ملِكَ مصر- علا في الأرضِ، وجعل أهلَها شيعاً، يستضعفُ طائفةً منهم، هم بنو إسرائيل، بنو يعقوبُ بنُ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ عليهم السلام، علا عليهم فرعونُ، وتسلَّط، يذبِّح أبناءَهم، ويستحيي نساءَهم، فكان من أعظمِ المفسدين في الأرضِ، فأخرج الله من هؤلاء المستضعفين، من يبيِّن لفرعونَ سوءَ عملِه، وضلالَ سعيه، فبعث الله موسى عليه السلام.
بداية عباد الله هناك حدث تضمن معجزات باهرة في طفولة نبي الله سيدنا موسى عليه السلام يستحق أن نقف عنده، حيث إنه لما بلغ فرعون أن غلاما يبعث من بني إسرائيل يكون هلاكه على يده، جعل فرعون يتتبع الحوامل من نساء بني إسرائيل فإن ولدت ذكرا قتله وإن ولدت أنثى أبقاها للخدمة في بيوت آل فرعون؛ ولكن الحذر لن ينجي من القدر كما يقال.
فلما ولد موسى عليه السلام، أوحى الله إلى أمه أن تجعله في صندوق من الخشب، وأن تلقيه في نهر النيل، فحمله النهر وأوصله إلى آل فرعون، فالتقطوه وفرحوا بهذا الصندوق فوجدوا فيه هذا الغلام، فلما رأته امرأة فرعون أحبته حباً شديدا، وقالت لفرعون: “لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً”؛ ولكن الله سبحانه وتعالى منعه من رضاعة النساء فكان لا يقبل رضاعة أي امرأة من النساء، فلما ضاق بهم الأمر جاءت أخت موسى على خفية:”فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ”، ففرحوا بذلك وأرسلوه معها إلى أم موسى”كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ”، فجعلت ترضعه وتأخذ الأجرة من آل فرعون على إرضاعه، وشب في آل فرعون كأنه من أبنائهِم إلى أن اختاره الله سبحانه وتعالى لرسالته، أرسله إلى فرعون وأرسل معه أخاه هارون ليعاضده.
تأملوا عباد الله كيف شاء الله تعالى أن يكون بعد ذلك هلاك فرعون على يد الطفل الذي سيتربى في كنفه؟، وفي ذلك الأمر زيادة في الحسرة والغم، لأن اختيار سبب الهلاك كان بفعل صنيع الإنسان واختياره، قال تعالى:”فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا”، وتأملوا أيضا كيف كاد الحزن يهلك قلب أم موسى لما تركته وحيداً في اليم؟، ولكن شاء الله أن يرجع الطفل الوليد إلى أمه كي ترضعه جهراً، وفي ذلك دلالة على أن الله تعالى لايخلف وعده لأوليائه، قال تعالى: “وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ”.
بعد هذه الفترة أرسل الله تعالى سيدنا موسى عليه السلام إلى فرعونَ ليدعوه إلى ربِّ العالمين، فبدأ فرعون في مواجهة دعوة التوحيد وادعى الألوهية من دون الله، وحاول محاولات عقلية ساذجة معتمدا على المؤثرات المادية والشهوات للتأثير على الناس وصرفهم عن دعوة موسى عليه السلام وتشويهها، كما استخدم القتل والاضطهاد في بني إسرائيل، قال تعالى:”وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ. أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ”، وقال أيضا:”وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ”، فبدأت بعد ذلك آثار طاعة فرعون تظهر على الفراعنة، كما بدأت البطانة السيئة تخوِّفه مِن تنامي دعوة موسى عليه السلام وزيادة أتباعه، فأعلن فرعون الحرب الدموية والقهر للمؤمنين، هكذا بدأت أطوار هذه القصة المثيرة، نسأل الله تعالى أن ينفعنا بعظاتها وعبرها أمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد فيا عباد الله،كل هذه الأمور السابقة التي ذكرنا جعلت سيدنا موسى عليه السلام ومن معه يعيشون تحت وطأة الأذى والاضطهاد والقهر، مما اضطرهم إلى التخفي بصلاتهم، قال تعالى:”وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ”. فشق عليهم الأمر، ونصحهم سيدنا موسى عليه السلام بالاستعانة بالله، وبشرهم بقرب الفرج، وأن ما تعرضوا له يعد سنة الله في أوليائه وأحبائه أن يبتليهم بأنواع الابتلاءات استعدادًا لما سوف يلاقونه من أنواع المسؤوليات: “قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا، قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ”.
بعد ذلك ابتلى الله الفراعنة بالمجاعة ونقص الثمرات لعلهم يرجعون إليه، فبدأ سيدنا موسى وسيدنا هارون عليهما السلام يدعوان على الفراعنة غضبًا لله؛ ولئلا يغتر بهم غيرهم، قال تعالى معبرا عن ذلك: “وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ. قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ”، وللأسف الشديد ما ازداد الفراعنة بالابتلاء إلا عنادا، وبدل أن يتوبوا ازدادوا كفرًا وتكذيبًا، فأرسل الله تعالى عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين، تماما كما ذكر القرآن الكريم.
بعد ذلك تابوا إلى الله توبة كاذبة خالطها الاستكبار، يقول تعالى معبرا عن ذلك:”وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ- أي العذاب- قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ”.فنقضوا توبتهم وازدادوا في العناد والكفران.
ولعله في هذه المدة قد آمن بعض آل فرعون، “زوجه وابن عمه والماشطة”؛ مما زاده غضبًا وثورانًا على نبي الله موسى ومن معه. فماذا وقع بعد ذلك؟ ذلك ما سنعرفه بحول الله وقوته في خطبة لاحقة والحمد لله رب العالمين.