مقدمة كتاب التصوف الإسلامي وثقافة السلم والتسامح

مقدمة كتاب التصوف الإسلامي وثقافة السلم والتسامح

 الدكتور مولاي عبد المغيث بصير، عضو المجلس الأكاديمي لمؤسسة محمد بصير

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي هدى وزكى، نحمده سبحانه على رعايته وعنايته المتواصلة الأوفى، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد إمام كل من تزكى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ما عظم الأعلى.

       أما بعد، فقد عزمت مؤسسة محمد بصير للأبحاث والدراسات والإعلام في شخص رئيسها، خادم أهل الله بالزاوية البصيرية مولاي إسماعيل بصير-حفظه الله- على طبع منتخبات من أعمال الندوة العلمية الدولية، التي نظمتها تحت الرعاية السامية لجلالة الملك أمير المؤمنين محمد السادس حفظه الله ونصره، بتاريخ 5-6 شوال 1439هـ الموافق لـ 19-20 يونيه 2018م بمقر الزاوية ببني عياط وبمدينة أزيلال، تخليدا للذكرى الثامنة والأربعين لأحداث انتفاضة سيدي محمد بصير التاريخية بالعيون.

هذه الذكرى التي نظمت هذا العام بشعار: “التصوف الإسلامي وثقافة السلم والتسامح”.وانبرى للحديث في الجلستين العلميتين الغنيتين لهذه الندوة العلمية الدولية، ضيوف مكرَمون وصفوة مباركة من الشيوخ والجامعيين العارفين بالتصوف وبقضايا العصر الراهنية، الوافدين من البلدان العربية والإفريقية والآسيوية والأوروبية، وكانت كلمة خادم الطريقة البصيرية مولاي إسماعيل بصير-حفظه الله تعالى- واسطة عقد العروض وشكلت الإطار العام لها.

         وإن مواضيع هذا الكتاب متنوعة، وهذا التنوع يزيد القارئ والمطلع توضيحا وتنويرا، بحيث انطوى على شذرات عقدية وتربوية، وسيَر حيةَّ، وحقائق عملية، وقضايا تاريخية وآنية، جُماع مضامينها بيان جهود إمارة المؤمنين المغربية في ترسيخ السلم والأمن داخل المجتمعات الإنسانية -الصحراء المغربية أنموذجا-، كيف لا وأرض المغرب حاضنة التصوف الكبرى، وبلاد الأولياء والصالحين والخبر يقين، فضلا عن دور الزاوية البصيرية في تثبيت السلم ونشر ثقافة التسامح، وكذا إيضاح ما استجد في قضية الاختفاء القسري للمجاهد سيدي محمد بصير، والكشف عن منهجه السلمي في حركته وانتفاضته، عروجا على دعوة الإسلام الكونية إلى الوسطية والاعتدال والتسامح، وتجلي الخلق النبوي القرآني في ذلك، وخلقه فعل مجتمعي بالأساس، وهو في عالم الناس ووسط الناس، تأثيرا وإصلاحا ودعوة، وهو وصف الحياة الكونية في الإطار الرباني الداعي إلى أن تقوم به صفوة من العباد، أمة مخصوصة شرَّفها الله بذلك بعد أن أعدَّها لذلك، أهل التصوف ورسالتهم في تكريس قيم التسامح والتعايش السلمي، ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(سورة آل عمران، الآية 104)، وهي حِلية هذه الندوة المباركة.

           فكرة هذه الندوة العلمية الدولية منبثقة عن تصاعد الاهتمام خلال الآونة الأخيرة، بتحسين وترسيخ واقع التسامح، بغض النظر عن الدين والجنس والتراث والثقافة، من جانب وزارات الأوقاف والمؤسسات الدينية والهيئات الثقافية ومنظمات المجتمع المدني ومراكز الحوار، فضلاً عن منظمات إقليمية ومؤسسات دولية في أنحاء المعمورة، في صورة برامج ومبادرات ومؤتمرات وملتقيات ومجالس، على نحو يقود في نهاية المطاف إلى بناء وتأهيل عقول وسواعد تؤمن بقيم التسامح والانفتاح والحوار ونبذ الكراهية، وتعمل على إيجاد حلول مستدامة للسلام والتعايش السلمي، لا سيما في ظل دواعٍ ملحة تتعامل مع اتساع رقعة الصراعات، وتزايد الاحتقانات الداخلية، وتعزيز قدرة التصدي لنزعات التطرف والإرهاب العاكسة لموجة الحقد والكراهية التي تسود العالم العربي والإسلامي والغربي، وتأسيس جسور التسامح مع مختلف الجنسيات والأعراق، وتكوين قنوات مؤسسية للتواصل مع العالم الخارجي.

            لقد كان ولا يزال بفضل الله تعالى لإمارة المؤمنين بالمغرب الدور الفاعل والفعال في مواجهة الأشكال المعاصرة للعنصرية والتمييز العنصري وكره الأجانب، ولا أدل على ذلك احتضان المملكة للقاءات ومنتديات دولية، انبثقت عنها إعلانات مرجعية هامة، كخطة عمل الرباط بشأن حظر الدعوة إلى الكراهية القومية والعنصرية والدينية، التي تشكل تحريضًا على التمييز أو العداوة أو العنف، المعتمدة عام 2012م، وإعلان فاس عام 2015م، الذي زكى مضامين خطة عمل الرباط في الشق المتعلق بدور مختلف الفاعلين، وبالأخص الزعماء والقادة الدينيين، وكذلك إعلان مراكش عام 2016م، الذي اعتبر رسالة سلام حقيقية وتقاسم القيم المشتركة للمسلمين حول العالم لحماية الأقليات الدينية، هذا دون أن ننسى الخطاب التاريخي لجلالة الملك محمد السادس نصره الله، عند استقباله سماحة البابا فرنسيس، فهذا الخطاب يعتبر بحق إطارا مرجعيا لكل عقلاء العالم.

           والإشكال الثاني الذي تعرضت له أعمال الندوة بالبيان والتفهيم، الاعتراضات التي اعترضت على التسامح الإسلامي تنكر عليه تسامحه وسلمه؛ فقال أصحاب الاعتراض من المبشِّرين والمستشرقين والمستغربين، ومَن لف لفهم، ونحا نحوهم :

– كيف يكون الإسلام دين السماحة، ويدعو إلى السلم، ويدافع عن الأمن، ثم يُبِيح لأتباعه أن يتدخَّلوا في أديان غيرهم، ويحاربوهم بناء على هذا، مع أن هذا الأمر مخالف لقول الله تعالى ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾؟ (سورة البقرة، الآية 256).

     – وكيف يجوز باسم الفتوحات الإسلامية أن يقتل الرجال، وتُسبَى النساء، وتؤخَذ الأموال، وتُسلَب مقدسات، وتُنتهك حرمات؟!

        – وهل من التسامح أن يحمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- السيف، وينشر الإسلام بالقوة،ولا يكتفي بالإقناع والحجة؟وأين هذا مما يدل عليه قوله تعالى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ ؟سورة (الكافرون، الآية 6)، إن المخالفين أيضًا لهم الحرية في البقاء على أديانهم وعقائدهم

  • وأين هذا التسامح المزعوم من قول الله تعالى -: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾؟(سورة البقرة، الآية 193).

وبسبب ذلك لم يستطع المسلمون في أي بقعة من العالَم أن يتعايشوا مع غيرهم بالأمن والسلام، فما لغيرهم أن يتعاونوا ويتسامحوا معهم حتى في الشؤون المدنية والاجتماعية، ما دامت عقيدتهم السياسية الأساسية هي الحاجز الأكبر دون نشوء هذا التعاون والتسامح؟

هكذا المستشرقون – والمستغربون في بلادنا – ينظرون إلى القضايا، ويتهمون الإسلام[1].

وأحب أن نضع في الاعتبار،وننبه الأذهان إلى تلك الحقيقة: إن حديثنا خلال أعمال هذه الندوة العلمية الدولية عن بعد الإسلام عن التطرف والكراهية والإرهاب، ليس معناه أننا ندافع عن الإسلام؟

إن اعتبار الإسلام متهمًا – ينبغي أن تنبري أقلامنا للدفاع عنه -، هو منهجٌ خاطئ يجب الابتعاد عنه؛ لأن النظام الرباني لا يحتاج إلى دفاع البشر عنه لتبرئته من التهم، ولا إلى إعلان براءته مما يتهمه به الناس ويكون نقصًا في عقيدتنا إنْ ظننا لحظة واحدة أن دين الله مُحْتاج إلى تبرئة ساحته بكلام يقوله البشر من عند أنفسهم، إنما يحتاج الناس دائمًا إلى بيان حقائق الإسلام لهم، وتوضيح ما أشكل عليهم ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (سورة النحل، الآية 44).

فالمنهج الصحيح إذًا هو بيان حقائق الإسلام للناس، فهم في حاجة دائمة إلى هذا البيان في كل جيل من أجيالهم، وفي الأجيال المعاصرة خاصة، التي أصبح الإسلام غريبًا بينها، من شدة جهلها بحقائقه. 

ولا بأس – في أثناء بيان حقائق الإسلام – أن نقف عند شبهة تَرِدُ في أذهان الناس من أنفسهم بسبب عدم المعرفة، أو يثيرها الأعداء ليفتنوا بها المسلمين عن دينهم، فتجلى هذه الشبهة ببيان الحقيقة فيها.

أما الدفاع عن الإسلام، فقد كان بعض الكتَّاب الإسلاميين قد وقعوا فيه بحسن نية، وفي وقتٍ كانت آثار الهزيمة الداخلية ما تزال عالقة بالنفوس إزاء الهجوم المستمر العنيف الذي يثيره المستشرقون وأعداء الإسلام لفتنة الشباب المثقف عن دينه.

وكل هذا لا يمنعنا أن نضيء للقارئ الكريم ببعض الحقائق والإضاءات عن هذا الموضوع، حتى نفهم كل مصطلح على الوجه الصحيح الذي يعنيه، لأننا أصبحنا نعيش في عالم المصالح التي استحكمت، ووصلت إلى درجة قلب معنى العديد من الكلمات المتصلة بموضوع ثقافة السلم والتسامح واعتبارها هي المعنى الصحيح وما عدى ذلك هرطقة، وذلكم كمصطلح النضال والجهاد والمقاومة والجور والتطرف والإرهاب، وغيرها.

   فمن عجيب المفارقات إذن، أن يعد تطاول الإنسان على جاره، بحجة أن له مصالح كامنة في عمق داره نضالا حضاريا، وسعيا إلى إقامة نظام عالمي عادل، على حين يعد دفاع هذا الجار عن داره، وسعيه بالوسائل الممكنة إلى حماية حقوقه وممتلكاته الشرعية فيها، جورا وتطرفا وإرهابا.

والترجمة الخفية الكامنة في تلافيف هذا المنطق هي: يجب أن يشق أعداء الدين في العالم الطريق إلى مصالحهم حيثما وجدت، وكل نضال يصدر من الذين تتعارض حقوقهم مع مصالحهم إرهاب تجب مقاومته والقضاء عليه.

والذي ينبغي أن يعرفه أبناء جلدتنا، أن الإسلام الإيديولوجي ومن ثم السلوكي والحضاري الملتزم من حيث هو، ليس إلا التطرف بذاته في ميزان أعداء الدين، مستثنين الإسلام التراثي أو الانتمائي الفارغ من المضمون، وقد وقع الاختيار على الإسلام لمناصبته العداء لسببين:

أولهما: تزايد انتشار الإسلام في المجتمعات الغربية بشكل ذاتي، وتقبل العقلية الغربية مبادئ الإسلام ومعتقداته، واستئناسها بالكثير من أخلاقياته، وهو الأمر الذي نبه الغرب إلى خطر الإسلام عليهم كما يتصورون.

ثانيهما: تخوفهم من احتمال ظهور يقظة إسلامية حقيقية، تدفع المسلمين إلى تجاوز علاقتهم التقليدية بالإسلام، وتنهض بهم إلى تطبيقه قيما وشرعة ونظاما. يقول تقرير لمجلس الأمن القومي، صدر في شهر مارس من عام 1991م، بعد أن تحدث عن الإسلام وخطورته على مصالح الغرب، وعن ضرورة اتخاذ السبل الكفيلة بدرء خطره: ” لإيقاف التأثير المتزايد للإسلام والمشكلة الفلسطينية، يجب إشغال المسلمين بتناقضات، ليحارب كل منهم الآخر، وللقضاء على قوتهم، كما يجب خلق عداوات بين التيارات الإسلامية”، ونشرت مجلة فورين أفارز في عدد نونبر عام 1992م مقالا ضافيا عن خطر الإسلام وبيان أفضل الطرق لتفاديه والقضاء عليه، وأفضل الطرق في ذلك فيما انتهى إليه المقال، “هو تقطيع جسور التضامن والتعاون بين الدول العربية التي هي المصدر الأول للخطر الإسلامي، والعمل على إيجاد أكبر قدر من التشاكس والتناقض بين شعوب المنطقة وحكامها، بحيث يسودها القلق والاضطراب وتنأى عن الهدوء والاستقرار”.

هذا شيء، والشيء الآخر الذي ينبغي توضيحه والتوقف عنده بالمناسبة، هو ماذا عن أولئك الذين يصرون على نعت الجهاد القتالي الذي شرعه الله عز وجل لحماية الحقوق وردع العدوان بالإرهاب؟ إن الجهاد في الشريعة الإسلامية، في كلمة جامعة، ليس أكثر من العين الساهرة التي تحرس حقوق الأمة.

وآية ذلك أن المسلمين عاشوا في مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاما يتعرضون لأصناف من الاستهانة والإيذاء، دون أن يؤذن لهم بالجهاد، إذ لم تكن فيها حقوق يقاتلون دونها، فلما هاجروا مع رسول الله إلى المدينة، وتحقق للمسلمين فيها أرض ووطن، وقامت لهم عليها دولة، وظهر لهم في ظلها نظام وسلطة، كان لابد لهم من سبيل لحماية حقوقهم هذه من أي عدو متربص هنالك.

 ومن أجل هذه الحاجة شرع الله الجهاد، إذن فالجهاد القتالي لم يشرع لإرغام الناس على الإسلام، كما يحلو لبعض المفتئتين من محترفي الغزو الفكري أن يقولوا، ومتى كان الإسلام الذي يساق الناس إليه كرها إسلاما مقبولا عند الله؟

لقد شهد تاريخ الفتوحات الإسلامية التي كانت بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم التي كانت بقيادة الخلفاء رضي الله عنهم من بعده، أنه ما من غزوة عقد لواؤها إلا وكانت ردا على عدوان واقع، أو متوقع، أي عدوان خفي يخطط له.

ألا فلتضحك الدنيا اليوم ضحك ذهول قاتل من هذا الذي تراه العين ولا يصدقه العقل: وحوش تتقوقع تحت صور ملائكة الحب والسلام، وقيم ربانية تنزلت رحمة للإنسانية جمعاء، تنعت من قبل تلك الوحوش بالإرهاب.

وفي هذا السياق، لا ينبغي أن تفوتنا الإشارة إلى أولئك المحترفين الجدد للغزو الفكري الذين يطالبون بسحب آيات من القرآن الكريم وحذفها لكونها تنادي بالقتال، وتتسم بالعنف والرعب والتطهير العرقي، وتعادي السامية حسب زعمهم، ويظنون أنهم بتوقيعهم تلك العريضة سيحصلون سلما وأمنا، ونسوا أنهم بسعيهم ذلك إنما يسعون في الأرض فسادا، فهم بذلك يؤججون المزيد من مشاعر الغضب عند المسلمين.

 ألا ينظرون إلى أن الجرائم التي يرتكبها أعداء الإسلام ضد المسلمين العزل في مشارق الأرض ومغاربها تتسبب في تصاعد العداء والكره أكثر من كل الآيات القرآنية؟، ألا يعتبرون أن ظاهرة إلغاء الآخرين والتفكير في المصالح الذاتية بإثارة الانقسامات و الاضطرابات في الجسم المسلم هي من الأسباب الأولى لعدم وجود اللاتسامح في العالم؟ آن الأوان أن يعلموا أن تعدد أسباب العنف موجودة في كل منا، قبل أن تكون موجودة في النصوص.

 إن توقيع أمثال هذه العرائض، والسعي في دعمها، والدعاية لها، يظن أصحابها أنهم بذلك سيحققون سلما للعالمين، وهم إنما يثيرون القلاقل ومزيدا من التطرف.

ولا أجد في هذا المقام كلاما يشفي الغليل غير ما ورد في خطاب أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله، عند استقباله مؤخرا لسماحة البابا فرانسيس، فقد أشار حفظه الله إلى إحدى أكثر الحلقات رمزية من تاريخ الإسلام والمسيحية، عندما غادر المسلمون مكة، بأمر من النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولجأوا فرارا من الاضطهاد إلى النجاشي، ملك الحبشة المسيحي، فكان ذلك أول استقبال وأول تعارف متبادل بين الديانتين الإسلامية والمسيحية.

 وتطرق جلالة الملك إلى مختلف التحديات الجديدة التي تواجه الإنسانية، والتي تستمد خطورتها من خيانة الرسالة الإلهية وتحريفها واستغلالها، وذلك من خلال الانسياق وراء سياسة رفض الآخر، فضلا عن أطروحات دنيئة أخرى، وفي ثنايا كلمته الجامعة المانعة  ذكر أن الحوار القائم على “التسامح” بين الديانات السماوية في واقعنا اليوم ينبغي أن يتطور ويتجدد كذلك، لأنه استغرق وقتا ليس بيسير، دون أن يحقق أهدافه، فالديانات السماوية لم توجد للتسامح في ما بينها، لا إجباريا كقدر محتوم، ولا اختياريا من باب المجاملة؛بل وجدت للانفتاح على بعضها البعض، وللتعارف في ما بينها، في سعي دائم للخير المتبادل؛ قال تعالى:” يا أيها الناس، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم” (سورة الحجرات، الآية 13)، وأكد أن التطرف، سواء كان دينيا أو غير ذلك، مصدره انعدام التعارف المتبادل، والجهل بالآخر، بل الجهل، وكفى، ذلك أن التعارف المتبادل يعني رفض التطرف، بكل أشكاله؛ وهو السبيل لرفع تحديات هذا العصر المضطرب.ولمواجهة التطرف بكل أشكاله، فإن الحل لن يكون عسكريا ولا ماليا؛ بل الحل يكمن في شيء واحد، هو التربية، فدفاعي عن قضية التربية، إنما هو إدانة للجهل. ذلك أن ما يهدد حضاراتنا هي المقاربات الثنائية، وانعدام التعارف المتبادل، ولم يكن يوما الدين، واليوم، فإني بصفتي أمير المؤمنين، – يقول جلالة الملك- أدعو إلى إيلاء الدين مجددا المكانة التي يستحقها في مجال التربية، ولا يمكنني وأنا أخاطب هؤلاء الشباب، ألا أحذرهم من مخاطر التطرف أو السقوط في نزوعات العنف، فليس الدين هو ما يجمع بين الإرهابيين، بل يجمعهم الجهل بالدين، لقد حان الوقت لرفض استغلال الدين كمطية للجهلة وللجهل وعدم التسامح لتبرير حماقاتهم، فالدين نور ومعرفة وحكمة، والدين بطبيعته يدعو إلى السلام، ويحث على استثمار الطاقات في معارك أكثر نبلا، بدل هدرها في سباق التسلح، وأشكال أخرى من التسابق الأعمى،… فرسائلنا تتسم بطابعها الراهن والأبدي في آن واحد، وهي تدعو الشعوب إلى الالتزام بقيم الاعتدال، وتحقيق مطلب التعارف المتبادل، وتعزيز الوعي باختلاف الآخر، وبذلك، نكون، قداسة البابا، قد اجتمعنا” على كلمة سواء بيننا وبينكم”[2].

      نعم فلمواجهة التطرف بكل أشكاله، فالحل يكمن في شيء واحد، هو التربية كما خلص إلى ذلك جلالة الملك حفظه الله، وإن أكثر من عني بأمر التربية هم أهل التصوف، وأهل التصوف رفعوا شعار الأخلاق حتى قال قائلهم: “من زاد عليك في الأخلاق زاد عليك في التصوف”، وعرفوا عند الخاص والعام بصبرهم وتسامحهم وحلمهم وتغافلهم وجبر خواطر الخلق، ولم يسمع عنهم في يوم من الأيام على مر التاريخ أنهم كانوا سببا في فتنة أو تطرف أو إرهاب.

        كان لهم على الدوام منهج رصين وواضح لا يهتز في نشر الدين الصحيح والذود عن الحرمات وصون الحريات وحفظ الأمن وإشاعة روح التعايش المدني، لأن التصوف الذي يتسم بالوسطية والاعتدال في مشربه الفكري وتجاربه الروحية والأدوار التي تقوم بها المؤسسات التي تمثله، لا يمكن اعتباره مجرد حالة معرفية وجدانية وحسب، بل هو تجربة وخبرة إنسانية وحمولة تراثية، تتميز بالصفاء الروحي والقيم الأخلاقية التي ترقى إلى قيمة المواطنة الفاعلة، يمكن الاستفادة منها على مختلف الأصعدة وتوظيفها لوضع تصور صحيح لمتحولات الواقع الإنساني مع القدرة على استيعاب تحديات الزمان الذي يعيشه إنسان العصر بمختلف مشاكله واختلالاته.

لذلك كان لزاما علينا بالضرورة إعادة التذكير بأهمية التصوف الوسطي المعتدل، والحاجة الملحة إليه في عصرنا أكثر من أي وقت مضى، حيث يجب إبراز حاجة الأمة إليه لتعزيز خصوصياتها وهويتها، فهو الكفيل بترميم التصدعات وترشيد السلوكات وتصحيح التصورات.ومن جهة أخرى فالتصوف حمولة معرفية وتراثية، توثق وترسخ قيم الهوية الوطنية وثقافة التعايش ومحبة الغير والتسامح والحوار، والوقائع التاريخية تثبت بأن زوايا أهل التصوف قامت بدور كبير  في تاريخ البلاد التي تحتضنها والإسهام في إرثها الوطني والإنساني، كما أن التصوف حارس أمين على الأخلاق والقيم الوطنية، وقد قدم خدمة للدين والأمة والوطن عن طريق نشر العلم وإشاعة محاسن الأخلاق، والدعوة إلى الوحدة والتآخي، وعدم الانسياق وراء العصبية الطائفية أو المذهبية؛ والتي تدعو إلى الفرقة والتشتت.

 فهل يمكن لعاقل أن يَـصِم الصوفية بالتطرف والنظرة الإقصائية لبقية الفرق الإسلامية والطوائف الأخرى دينية كانت أو إثنية؟ وهل ثبت أن متصوفاً واحداً غُرر به فالتحق بالجماعات الإجرامية المتسترة بالدين؟

لقد وقف المتصوفة الكبار إزاء التنوع الديني والمذهبي موقفاً تسامحياً عميقاً، مطورين التصور القرآني لوحدة «الوحي» إلى مداه الأخير، ناظرين إلى هذا التنوع كسبل مختلفة لاكتشاف الحق.

إن الواجب يحتِّم على أهل العلم والعمل أن يبينوا للناس جوهر الإسلام ورسالته العظيمة بأسلوب يليق بسماحة الدين الحنيف، الذي يحث على الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى يستجيب الناس، ويواجهوا دعاوى الإرهاب باسم الدين، والقتل باسم الدين.

و قبل أن أختم أحب أن أحمد الله تعالى على ما حبانا به في بلدنا المملكة المغربية على مر التاريخ من سلم وتسامح وأمن وأمان، جعل المغاربة يتشبثون دواما بروابط الأخوة التي تجمع أبناء سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، حتى غدت ركيزة أساسية للحضارة المغربية، الغنية بتعدد وتنوع مكوناتها، وأصبح – بفضل الله – يشكل التلاحم الذي يجمع بين المغاربة جميعا، بغض النظر عن اختلاف معتقداتهم، نموذجا مثاليا في السلم والتسامح، قل نظيره في جميع أنحاء العالم.

       وفي الختام أقول: هذه محاولة في بيان جملة ما تعرض له السادة العلماء في هذه الندوة الميمونة أرجو أن أكون قد أحللتها مكانها من هذا الكتاب، وأن تكون قد جاءت متلاحمة مع شعار الندوة، غير مفصولة ولا ممصولة. وقد عنيت عناية خاصة بالإشكالات التي يكثر الحديث عنها،كما نبهت إلى بعض السبل لعلاجها.

       ويسرني أن أذيل هذه المقدمة بشكري الجزيل المقرون بالاعتراف بالجميل للسادة أعضاء المجلس الأكاديمي لمؤسسة محمد بصير للأبحاث والدراسات والإعلام : الطالب الباحث عبد المطلب بصير، الذي ساعد في كتابة ورقن بعض المداخلات، والدكتور الجيلالي كريم والأستاذ المهدي لبريشي والدكتور آسية المستقيم الذين ساعدوني في إعداد هذا الكتاب ومراجعته،وقدموا لي بعض التصويبات والمرئيات في هذه المداخلات.

       أرجو أن يكون هذا الكتاب إسهاما معتبرا في موسوعة الفكر والثقافة المعتدلة الوسطية التي تخاطب العقل وتقوم على الاستدلال بالكتاب والسنة، وأسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن ينفع به، ويجعله عملا خالصا مقبولا، وأن يجزي السادة العلماء المشاركين في هذه الندوة خير الجزاء، وكل من أعان على إنجاحها، وما توفيقي إلا بالله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وكتبه عبد المغيث بصير بن الشيخ سيدي محمد المصطفى بصير

برشيد في يوم الخميس 9 شوال 1440هـ الموافق 13 يونيه 2019م

[1]انظر أمثلة لذلك عند:

– جولد تسيهر، “العقيدة والشريعة في الإسلام“، ترجمة محمد يوسف موسى وآخرين، ط دار الكتب الحديثة،ص 34.
-جاستونفييت،”موسوعة اليونسكو حول تاريخ الجنس البشري وتقدمه الثقافي والعلمي”، المجلد الثالث (الحضارات الكبرى في العصر الوسيط)، الفصل العاشر الخاص بالعرب والإسلام، بتصرف.

– محمد عبد الله السمان،”مفتريات اليونسكو على الإسلام“، المختار الإسلامي، الطبعة الأولى، 1396هـ – 1976م،ص 63 – 68. (بتصرف).

[2]مقتطفات من خطاب جلالة الملك محمد السادس حفظه الله عند زيارة البابا فرانسيس هذه السنة للمغرب.

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *