خطبة: ألم أعهد إليكم يابني آدم ألا تعبدوا الشيطان..
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى، وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله،
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: (ألم أعهد إليكم يابني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم)، قال العلماء: المراد بعبادة الشيطان طاعته فيما يزينه، عبر عنها بالعبادة لزيادة التحذير والتنفير عنها ولوقوعها في مقابلة عبادة الله تعالى، وقال عز وجل في آية أخرى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ).
أيها الإخوة الكرام، إن المطلع على أحوال الكثير من الناس وهم يسرحون ويمرحون في هذه الدنيا، يجدهم بدل أن يجتهدوا في عبادة ربهم الواحد الأحد سبحانه وتعالى ويطيعوه ويسبحوه ويمجدوه ويقدسوه ويعظموه، تجدهم يختارون عبادة الشيطان الرجيم والإكثار من سواده والمشي في طريقه و الاستجابة لأهوائه ويختارون عن طواعية أن يكونوا ضمن حزبه، والأكثر من ذلك تجدهم مرتاحين مطمئنين في هذا السبيل، وهذا هو الخذلان الكبير والعياذ بالله، فالغرض إذا من هذه الخطبة هو تبيان تلبيسات الشيطان وطرقه في إغواء عباد الله ليكونوا صحبته في السعير، وقصدنا الأول هو التنبيه على كيفية مجاهدته، ليصبح الواحد منا بحول الله تعالى من المخلصين المحسنين المقربين.
أيها الإخوة الكرام، إن من يتأمل آيات الله والسنة يجد اعتنائهما بذكر الشيطان وكيده ومحاربته أكثر من ذكر النفس، فإن شر النفس وفسادها ينشآن من وسوسته، فهي مركبه وموضع شره،
وقد ورد ذكر الشيطان في القرآن الكريم خمسة وسبعون مرة، والشيطان اسم لكل خبيث متمرد من الجن، من شاط احترق أو شطن بعد لبعده عن الخير، فالمراد به هنا الجنس إبليس وأعوانه، وإذا زاد في الخبث والتمرد يسمى عفريتا، وعن ابن عباس أن إبليس إذا مرت عليه الدهور وهرم عاد ابن ثلاثين سنة، وذلك في قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)، وهو بذلك واحد من مخلوقات الله تعالى شأنه الوعد بالشر والأمر بالفحشاء والتخويف عند الهم بالخير بالفقر، لقوله تعالى: (الشيطان يعدكم الفقر ويامركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا)،
وجنوده عشرة: الظلم، والخيانة، والكفر، وترك حفظ الأمانة، والنميمة، والنفاق، والخديعة، والشك في الواحد الخلاق، والمخالفة لما أمر به ذو الجلال والإكرام، والتغافل عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم،
وذكر الديلمي عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى قال: أمر الله تعالى إبليس أن يأتي محمدا صلى الله عليه وسلم ويجيبه عن كل ما يسأله، فجاءه على صورة شيخ وبيده عكاز، فقال له من أنت؟ قال: أنا إبليس، فقال لماذا جئت؟ قال: إن الله أمرني أن آتيك وأجيبك عن كل ما تسألني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا ملعون، كم أعداؤك من أمتي؟، قال: خمسة عشر، أولهم أنت، والثاني إمام عادل، والثالث غني متواضع، والرابع تاجر صادق، والخامس عالم متخشع، والسادس مؤمن ناصح، والسابع مؤمن رحيم القلب، والثامن تائب ثابت على التوبة، والتاسع متورع عن الحرام، والعاشر مؤمن يديم على الطهارة، والحادي عشر مؤمن كثير الصدقة، والثاني عشر مؤمن حسن الخلق مع الناس، والثالث عشر مؤمن ينفع الناس، والرابع عشر حامل القرآن يديم على تلاوته، والخامس عشر قائم بالليل والناس نيام، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ومن رفقاؤك من أمتي؟ قال عشرة: أولهم سلطان جائر، والثاني غني متكبر، والثالث تاجر خائن، والرابع شارب الخمر، والخامس القتات، والسادس صاحب الزنا، والسابع آكل مال اليتيم، والثامن المتهاون بالصلاة، والتاسع مانع الزكاة، والعاشر الذي يطيل الأمل، فهؤلاء أصحابي وإخواني،
وروى البيهقي والدارقطني عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “بعثت داعيا ومبلغا وليس إلي من الهداية شيء وخلق إبليس مزينا وليس إليه من الضلالة شيء”، يعني أنه يوسوس ويزين المعصية وليس بيده أكثر من ذلك، فمن خلال ما سبق بيانه يظهر بأن الشيطان عدو لبني آدم ويريد ضلالتهم ليجرهم مع نفسه إلى النار، فالواجب على العاقل أن يجتهد في مجاهدته لكي يخلص نفسه منه، فإنه عدو ظاهر للمؤمن فهو أعدى الأعداء فليتخذه الإنسان عدوا في جميع أحواله ويحذره جهده، فقد قيل إنه يفتح للإنسان تسعة وتسعين بابا من الخير ليوقعه في باب من الشر.
أيها الإخوة الكرام، وأما عداوة الشيطان اللعين ودعوته إلى الشر والضلال والغفلة والانهماك في المعاصي والبطالة فيكفيك في اجتناب عداوته وغيرها ما قال الله تعالى لنبيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: (وقل رب أعوذ بك) أي أمتنع وأعتصم بك (من همزات الشياطين) أي وساوسهم ونخاستهم والهمز النخس، والهمزات جمع الهمزة ومنه مهماز الرائض، والمعنى أن الشياطين يحثون الناس على المعاصي كما تهمز الراضة الدواب حثا لها على المشي، (وأعوذ بك رب أن يحضرون)، ويحوموا حولي في شيء من الأحوال وخصوصا حال الصلاة وقراءة القرآن وحلول الموت، لأنها أحرى الأحوال بأن يخاف عليه فيها،
وإنما ذكر الحضور، لأن الشيطان إذا حضره يوسوس له، وفي هذا المقام ذكر في الخبر إن إبليس لعنه الله جاء إلى موسى عليه السلام وهو يناجي ربه، فقال له ملك من الملائكة: ويحك ما ترجو منه على هذه الحالة؟، فقال أرجو منه ما رجوت من أبيه آدم وهو في الجنة”،
ويقال إذا حضر وقت الصلاة أمر إبليس جنوده بأن يتفرقوا ويأتوا الناس ويشغلوهم عن صلاتهم، فيجيء الشيطان إلى من أراد الصلاة فيشغله ليؤخرها عن وقتها، فإن لم يقدر فإنه يأمره بأن لا يتم ركوعها وسجودها وقراءتها وتسبيحها ودعواتها، فإن لم يستطع فإنه يشغل قلبه بأشغال الدنيا، فإن لم يقدر على شيء من ذلك أمر إبليس بأن يوثق هذا الشيطان ويقذف به في البحر، فإن كان يقدر على شيء من ذلك فإنه يكرمه ويبجله،
ويذكر في هذا الصدد عن بعض العلماء أنه طلب من ابنة له أن تقف عند باب المسجد بعد صلاة العشاء، وتدعو كل من صلى مع الإمام لتناول وجبة العشاء معه، فوقفت عند الباب وظلت تسأل كل خارج ماذا قرأ الإمام في الركعة الأولى والثانية؟ فلم يجب عن سؤالها إلا فردين أو ثلاثة، فأخذتهم إلى والدها فتعجب كيف أنه طلب منها أن تدعو كل الحاضرين للصلاة، ولم يأت معها إلا هؤلاء الثلاثة، فأجابته بأن هؤلاء فقط من كان حاضرا بقلبه وقالبه في الصلاة مع الإمام،
أخرج أبو داود عن جبير بن مطعم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة، قال عمر: ولا أدري أي صلاة هي، قال الله أكبر كبيرا ثلاثا، والحمد لله كثيرا ثلاثا، وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاثا، أعوذ بالله من الشيطان من نفخه ونفثه وهمزه، قال نفثه الشعر ونفخه الكبر وهمزه الموتة”،
تأملوا أيها الإخوة الكرام، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم خير العالمين وأعلمهم وأعقلهم وأفضلهم عند الله تعالى، يحتاج مع ذلك أن يستعيذ بالله من شر الشيطان فكيف بنا نحن مع جهلنا ونقصنا وكثرة غفلتنا عن عاقبة أمرنا؟.
قال أحد الربانيين: “اعلم أن لك أربعة من الأعداء، فتحتاج أن تجاهد مع كل واحد منهم، أحدها الدنيا وهي غرارة مكارة، قال الله تعالى: (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور)، وقال أيضا: (فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور)، والثاني نفسك وهي شر الأعداء، والثالث الشيطان، والرابع شيطان الإنس فاحذره فإنه أشد عليك من شيطان الجن، لأن شيطان الجن يكون أذاه بالوسوسة، وشيطان الإنس هو رفيق السوء، ويكون أذاه بالمواجهة والمعاينة، لا يزال يطلب عليك وجها يردك عما أنت فيه، وكان أحد العلماء عند ابتداء دروسه يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم مرة، وأعوذ بالله من شيطان الإنس ألف مرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،
أما بعد فيا عباد الله، يقول الله تعالى: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)،
وروي في المتفق عليه عن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً، فأتيته أزوره ليلاً فحدّثته، ثم قمتُ فانقلبت، فقام معي ليقلبني كان مسكنها في دار أسامة بن زيد رضي الله عنهما، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم على رسلكما، إنها صفية بنت حيي، فقالا: سبحان الله يا رسول الله!، فقال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يَقذف في قلوبكما سوءا أو قال شيئا”،
وعن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس) يقول: يدخل في صدور الجن كما يدخل في صدور الإنس فيوسوس في صدورهم، فإذا ذكر الله خنس وخرج من صدورهم، وذكر عن وهب بن منبه رحمه الله أنه قال: “إن إبليس لقي يحيى بن زكريا عليهما السلام، فقال له يحيى بن زكريا: أخبرني عن طبائع ابن آدم عندكم؟ فقال إبليس: أما صنف منهم: فهو مثلك معصومون لا نقدر منهم على شيء، والصنف الثاني: فهم في أيدينا كالكرة في أيدي صبيانكم وقد كفونا أنفسهم، والصنف الثالث: فهم أشد الأصناف علينا، فنقبل على أحدهم حتى ندرك منه حاجتنا ثم يفزع إلى الاستغفار فيفسد به علينا ما أدركنا منه، فلا نحن نيأس منه ولا نحن ندرك حاجتنا منه.
ختاما عباد الله، يقول الله عز وجل حكاية عن إبليس: (قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم) يعني أن عمل الشيطان الأول والدائم هو أن يتعرض لكل واحد منا على طريق الهداية ويمنعه من الأنس بالله، أي كأنه يقول: لأقعدن لهم صراطك المستقيم ولأرصدنهم ولأصدنهم ثم لآتينهم من بين أيديهم، يعني من أمر الآخرة، حتى أجعلهم في الشك، ومن خلفهم لأزينن لهم الدنيا حتى يطمئنوا إليها، وعن أيمانهم، يعني آتيهم من جهة الدين، وعن شمائلهم يعني من جهة المعاصي، ولا تجد أكثرهم شاكرين، يعني على نعمك.
فعليكم عباد الله بالانتباه لمكائد الشيطان، وتعملوا على مجاهدته ومحاربته وقهره، وذلك لخصلتين، إحداهما أنه عدو مضل مبين ولا مطمع فيه لمصالحة، والثانية أنه لا يقنعه إلا هلاكنا أصلا، فلا وجه إذا للأمن من مثل هذا العدو والغفلة عنه، ولهذه الخطبة تتمة سنأتي عليها في خطب لاحقة والحمد لله رب العالمين.