كيف تعرف نفسك أأنت طالب دنيا أم آخرة؟
كيف تعرف نفسك أأنت طالب دنيا أم آخرة؟
الدكتور مولاي عبد المغيث بصير
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى، وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، كل الناس يعيشون بداية في دار الدنيا ثم ينتقلون بعد فترة من العمر قد تطول وقد تقصر إلى الدار الآخرة، فيحاسبنا الله سبحانه وتعالى على أعمالنا كلها، فإن كانت أعمالا صالحة أدخلنا الجنة، وإن كانت لا قدر الله سيئة، أدخلنا النار والعياذ بالله، هذه هي سنة الله في خلقه. روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى”.
هذا وإن وجودنا في هذه الدار يتردد بين الطاعة والمعصية، لأننا أمرنا بالطاعة تخييراً ونهيننا عن المعصية تحذيراً، وكلفنا يسيراً ولم نكلف عسيراً، فالإنسان أولا وأخيرا مخير، له أن يختار ما يشاء، له أن يختار العمل للدنيا لوحدها أو أن يختار العمل للآخرة بأن يجمع بينهما، بأن يصير الدنيا مزرعة خادمة للآخرة، فله أن يختار أن يستقيم أو أن لا يستقيم، وله أن يختار أن يصدق أو أن يكذب، وله أن يختار أن يحسن أو أن يسيء، وله أن يختار أن يخلص أو أن يخون، لذلك فاختيارنا هو الذي يثمن عملنا، واختيارنا هو الذي يصنفنا بعد ذلك أنحن من طالبي الدنيا أم من طالبي الآخرة؟.
ومع ذلك لن يستريح أحدنا ولن يشعر بالراحة الحقيقية إلا عند لقاء الله والفوز بالجنة، ولن يستريح أحدنا حتى يعلم بأنه قد ظفر بالآخرة، روى ابن حبان وابن أبي شيبة والحاكم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: ” دَخَلْتُ عَلَى عُمَرَ حِينَ طُعِنَ، فَقُلْتُ: أَبْشِرْ بِالْجَنَّةِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَسْلَمْتَ حِينَ كَفَرَ النَّاسُ وَجَاهَدْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ حِينَ خَذَلَهُ النَّاسُ، وَقُبضَ رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ فِي خِلَافَتِكَ اثْنَانِ، وَقُتِلْتَ شَهِيدًا، فَقَالَ: أَعِدْ عَلَيَّ، فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: ” وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَوْ أَنَّ لِي مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ لَافْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ هَوْلِ الْمَطْلَعِ”، فهذا سيدنا عمر رضي الله عنه يقول هذا الكلام ويحلف عليه بالله، وهو أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد أبي بكر رضي الله عنه، فماذا نقول نحن اليوم؟ وروى الإمام أحمد في “الزهد” عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:”لَا رَاحَةَ لِلْمُؤْمِنِ دُونَ لِقَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وإنما يستريح من غُفر له؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف أحد أنه قد غفر له إلا يوم القيامة، وعن مُحَمَّد بْن حسنويه قَالَ: “حضرت أبا عبد اللَّه أَحْمَد بن حنبل وجاءه رجل من أهل خراسان فقال: يا أبا عَبْد اللَّهِ قصدتك من خراسان أسألك عَنْ مسألة قَالَ: له سل قَالَ: متى يجد العبد طعم الراحة ؟ قَالَ: ” عند أول قدم يضعها فِي الجنة”.
وبذلكم فالسؤال الذي يحير لب كل مسلم مؤمن صادق في إيمانه، والذي ينبغي أن يطرحه كل واحد منا على نفسه، وهو هذه الأعمال الكثيرة التي نخوض في غمارها في اليوم والليلة، أنطلب بها الدنيا أم نطلب بها الآخرة؟، تبعا لذلك يتوجب على كل واحد منا أن ينظر في أعماله مرارا وتكرارا أهي أعمال لطلب الدنيا وطلب المنزلة فيها أم لطلب الآخرة؟. هذا أمر مهم للغاية وينبغي أن يبقى مصاحبا لنا إلى نغادر هذه الدنيا بسلام آمنين.
عباد الله، يقول الله تعالى في كتابه الكريم: “مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ”، وقال أيضا عز وجل:” من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا”.
فمن طلب بما رزقه الله حرثا لآخرته، فأدى حقوق الله وأنفق في إعزاز الدين وسبل الخير، يوفقه الله تعالى للعبادة والطاعة ويسهلها عليه ويتقبلها منه، وسيعطيه الله ثواب ذلك للواحد عشرا إلى سبعمائة فأكثر وإلى ما يشاء اللّه من أضعاف، ومن كان يريد حرث الدنيا، أي طلب بالمال الذي آتاه الله رياسة الدنيا والتوصل إلى المحظورات والمحرمات، وليس له إلى الآخرة هم بالكلية، فإن الله لن يحرمه الرزق أصلا، ولكن لاحظ له في الآخرة من ماله.
دققوا عباد الله، أهديتْ مرة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فتصدقت بها السيدة عائشة رضي الله عنها ولم تبْق منها إلا كتفها، فلما سألها رسول الله: ” ماذا صنعتِ بالشاة “؟ قالت: كلها ذهبت إلا كتفها – وكان صلى الله عليه وسلم يحب من الشاة الكتف – فقال صلى الله عليه وسلم: ” بل بقيت كلها إلا كتفها”. تأملوا في هذا المعنى العجيب.إذن فالباقي هو ما تصدَّقنا به، والذاهب ما أكلناه، وقال قتادة رحمه الله: إن الله يعطي على نية الآخرة ما شاء من أمر الدنيا، ولا يعطي على نية الدنيا إلا الدنيا، أسأل الله عز وجل أن يفتح علينا بمعرفة حقيقة الدنيا وأن يوفقنا فيها للعمل للآخرة، أمين أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد فياعباد الله، روى الإمام الترمذي في سننه من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال:” مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ، جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ”.
عباد الله، إن مراتب الآخرة لا تعني كما تعني مراتب الدنيا، مراتب الآخرة متعلقة بمكانة الإنسان عند الله، مراتب الآخرة تعني كل شيء، ومراتب الآخرة أبدية إلى أبد الآبدين، أما مراتب الدنيا فزائلة، ولاتعني شيئاً، فالتفاضل الحقيقي الذي ينبغي أن يسعى له كل عبد مؤمن هو تفاضل الآخرة وليس تفاضل الدنيا، قال تعالى:” وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا”، وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبادة بن الصامت رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: “الجَنَّةُ مِئَةُ دَرَجَةٍ مَا بَينَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مَسِيرَةُ مِئَةِ عَامٍ”، وكما أن الجنة درجات فإن النار دركات، قال تعالى: “إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا”.
ختاما تأملوا واعتبروا عباد الله لما سُئِل الإمام علي رضي الله عنه من قبل سائل: يا إمام أريد أنْ أعرف هل أنا من أهل الدنيا، أم من أهل الآخرة؟ قال: ليس عندي جواب هذا السؤال، إنما جوابه عندك أنت، قال: كيف؟ قال: إذا دخل عليك اثنان: واحد بهدية، والآخر يريد صدقة أو معونة، فانظر إلى أيِّهما تبشّ، وبأيهما ترحب وتفرح، فإنْ رحبتَ وفرحت بصاحب الهدية فأنت من أهل الدنيا، لأنك تحب مَنْ يعمر لك دنياك، وإن كانت الأخرى فأنت من أهل الآخرة، لأنك تحب مَنْ يعمر لك آخرتك”، وذكر أن الحسن البصري حينما كان يدخل عليه مسكين يطلب منه شيئًا يهش في وجهه، ويقول له: “مرحبًا.. مرحبًا بمن جاء يحمل زادي إلى الآخرة من غير أجرة”.
وقال علي رضي الله عنه:” ألا وإن الدنيا قد ارتحلت مدبرة وإن الآخرة قد أشرفت مقبلة وإن لكل واحدة منهما بنين فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا ألا وإن اليوم عمل بلا حساب وغدا حساب بلا عمل ألا وإن من أشد ما أخاف عليكم خصلتين طول الأمل واتباع الهوى أما طول الأمل فإنه ينسي الآخرة وأما اتباع الهوى فإنه يصد عن سبيل الله”، والحمد لله رب العالمين.