خمس ركائز كان عليها السابقون: عمارة المساجد (3)
خمس ركائز كان عليها السابقون: عمارة المساجد (3)
الدكتور مولاي يوسف المختار بصير
الحمدلله الذي رسم لعباده معالم الطريق، وهيأ للعاملين بكتابه وسنة نبيه أسباب التوفيق، وجعلها محجة بيضاء لمن أشرق في قلبه نور الإيمان الحقيق، نحمده تعالى ونشكره على أن جعلنا من أمة الإيمان والتصديق، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل: “ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ماكان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم”، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله أوصى بعمارة المساجد وبنائها والإهتمام بشأنها فقال صلى الله عليه وسلم: “من بنى مسجداً لايريد به رياءً ولاسمعة بنى الله له بيتاً في الجنة” صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعينوسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، كان الإمام الأوزاعي رحمه الله يقول: خمس كان عليها أصحاب رسول اللهصلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان: لزوم الجماعة، واتباع السنة، وعمارة المسجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله.أيها الإخوة المؤمنون، لقد تناولنا في الجمعتين الماضيتين الحديث عن الصفات الأولى والثانية مما دأب عليه سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين الذين تأدبوا وتربوا في مدرسة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ويتعلق الأمر أولا بلزوم جماعة المسلمين، وثانيا باتباع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم،واليوم بإذن الله تعالى نتناول الحديث عن الصفة الثالثة التي كان عليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون وهي عمارة المساجد، أيها المؤمنون، المساجد بيوت الله تعالى في أرضه جعلها خالصة له وحده، فقال سبحانه: “وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا”، وهي أحب الأماكن إلى الله و رسوله صلى الله عليه وسلموإلى المؤمنين الصالحين، فعن أبي هريرة (ض): أنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: “أَحَبُّ الْبِلاَدِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدهَا، وأبغضُ الْبِلاَدِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقهَا”، بل إن المسجد هو بيت كل مؤمن وتقي، فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ (ض) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلميَقُولُ: “الْمَسْجِد بَيتُ كُلّ تَقِيّ”. ومكانة المسجد في الإسلام تظهر بوضوح وجلاء في كون النبي صلى الله عليه وسلملم يستقر به المقام عندما وصل إلى حي بني عمرو بن عوف في قباء، حتى بدأ ببناء مسجد قباء، وهو أول مسجد بُني في المدينة، وأول مسجد بني لعموم الناس، وكان النبيصلى الله عليه وسلمإذا نزل منزلاً في سفر أو حرب وبقي فيه مدة اتخذ فيه مسجداً يصلي فيه بأصحابه (ض)، كما فعل في خيبر. ولقد وعَى هذا الأمَر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاهتموا(ض)بذلك، واعتنى بها الخلفاء الراشدون فكتب عمر بن الخطاب (ض) إلى ولاته أن يبنوا مسجداً جامعاً في مقر الإمارة، ويأمروا القبائل والقرى ببناء مساجد جماعة في أماكنهم، فعن عثمان بن عطاء قال لما فتح عمر بن الخطاب (ض) البلد كتب إلى أبي موسى الأشعري وهو على البصرة يأمره أن يتخذ للجماعة مسجداً فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى مسجد الجماعة فشهدوا الجمعة. ولقداهتم ديننا بالمسجد أيما اهتمام،وجاءت بذلك الآيات والأحاديث المتوترة التي حثت على بناء المساجد والعناية بها،وبيان فضل الصلاة فيها، ومراعاة الآداب والأخلاق الخاصة بها، وثواب الذهاب إلى المسجد للصلاة ثواب كبير، فعن أبي هريرة (ض) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”من توضأ فأحسنَ الوُضوءَ، ثم خرج عامدا إلى الصلاة، فإنه في صلاة ما كان يَعْمِد إلى صلاة، وإنه يُكتَب له بإحدى خُطوتيه حسنة، ويُمْحَى عنه بالأخرى سيئة، فإذا سمع أحدُكم الإقامة فلا يَسْعَ، فإن أعظمَكم أجرا أبعدُكم دارا، قالوا: لِمَ يا أبا هريرة؟ قال: من أجل كثرة الخُطَا”، وعَنْ سَلْمَانَ (ض)قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:”مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، إِلا كَانَ زَائِرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَحَقٌّ عَلَى الْمَزُورِ أَنْ يُكْرِمَ زَائِرَهُ”. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ(ض)، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: “مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ نُزُلاً كُلَّمَا غَدَا وَرَاحَ”، وعَنْ بُرَيْدَةَ (ض)عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلمقَالَ: “بشِّرِ المشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِالتَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَة”، وعَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ(ض) قَالَ: “جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلمفَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، كُنْتُ ضَرِيرًا، شَاسِعَ الدَّارِ، وَلِي قَائِدٌ لاَ يُلاَئِمُنِي، فَهَلْ تَجِدُ لِي رُخْصَةً أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي؟ قَالَصلى الله عليه وسلم: أَتَسْمَعُ النِّدَاء؟ قَالَ: قُلْتُ نَعَمْ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: مَا أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً الجلوس في المسجد وانتظار الصلاة له أجر الصلاة”، وعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا(ض): هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ (ض) يَقُول: “الرَّجُلُ فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلاَةَ؟ قَالَ(ض):انْتَظَرْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلملَيْلَةً لِصَلاَةِ الْعَتَمَةِ، فَاحْتَبَسَ عَلَيْنَا، حَتَّى كَانَ قَرِيبًا مِنْ شَطْرِ اللَّيْلِ، أَوْ بَلَغَ ذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّيْنَا، ثُمَّ قَالَ: اجْلِسُوا، فَخَطَبَنَافَقَالَ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا وَرَقَدُوا، وَأَنْتُمْ لَمْ تَزَالُوا فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلاَة”.جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
يا عمار المساجد اعلموا أن المكان الذي كان يسجد فيه المسلم لربه تعالى ليبكي عليه بعد موته، فالمسجد يبكي على من تعلق قلبه به، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (ض)عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلمقَالَ: “سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله. ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه”.وذُكر عن التابعي الجليل سعيد بن المسيب (ح) أنه ما فاتته تكبيرة الإحرام نحو أربعين عاما، لأنه ما كان يصلي في المسجد النبوي إلا في الصف الأول، وقال وكيع (ح): كان الأعمش قريبا من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى واختلفنا إليه قريبا من سبعين فما رأيته يقضي ركعة. وكان الربيع بن خيثم قد سقط شقه في الفالج فكان يخرج إلى الصلاة يتوكأ على رجلين فيقال له: يا أبا محمد قد رخص لك أن تصلي في بيتك أنت معذور فيقول هو كما تقولون ولكن أسمع المؤذن يقول حي على الصلاة حي على الفلاح فمن استطاع أن يجيبه ولو زحفاً أو حبوا فليفعل، أيها الإخوة المؤمنون، ماذا يقول من يسمع النداء وهو جالس بالمقهى ينتظر أو يتابع المقابلات الرياضية أو البرامج التلفزية، أو يطلق نظره لتتبع المارين والمارات لا يفلت أحدا، والله ضمن لمن تعلق بالمسجد ولزمه أن يكون ممن هداه الله تعالى لسواء السبيل فليبشر من كان على هذا الخلق بقول الله تعالى: “إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـاجِدَاللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَوَءاتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَنيَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ” الدعاء.