خمس ركائز كان عليها السابقون: لزوم الجماعة (1)
خمس ركائز كان عليها السابقون: لزوم الجماعة (1)
الأستاذ مولاي يوسف المختار بصير
الحمدلله،الحمد للهالذي رسم لعباده معالم الطريق، وهيأ للعاملين بكتابه وسنة نبيه أسباب التوفيق، وجعلها محجة بيضاء لمن أشرق في قلبه نور الإيمان الحقيق، نحمده تعالى ونشكره على أن جعلنا من أمة الإيمان والتصديق، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يهدي من يشاء إلى أقوم طريق وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، كان أحسن الناس خلقا، وأصدقهم معاملة للعدو والصديق، صلى الله عليه وعلىآله وأصحابه والتابعين، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، قال الله تعالى في كتابه المكنون: “وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون”، وكان الإمام الأوزاعي رحمه الله يقول: خمس كان عليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان: لزوم الجماعة، واتباع السنة، وعمارة المسجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله. هذه الركائز الخمس التي كان يجالس بها الإمام الأوزاعي تلاميذه وأتباعه ويحثهم على التشبث بها والإهتمام بشأنها، لأن إصلاح حالهم ومآلهم يتوقف عليها، وينبغي علينا نحن أيضا أن نعيها ونعمل على نشرها فيما بيننا والتخلق بها اقتداء بسنة سلفنا الصالح من الأصحاب والتابعين وعلماء هذه الأمة المتشبثين بالدين، لأنهم القدوة الصالحة للمؤمنين، وإلى نهج طريقهم أشار الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: “من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة،ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة”، والصحابة والتابعون لهم بإحسان هم الرعيل الأول والطليعة المباركة في تاريخ الإسلام، وهم النخبة التي اختارها الله عز وجل لتحمل أعباء هذه الرسالة الخالدة وتبليغها إلى الناس كافة في جميع الأقطار ومختلف الأمصار وفيهم وفي أمثالهم يقول العزيز الجبار: “وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ”، ويقول صلى الله عليه وسلم عن المخلصين من أصحابه والأوفياء من أتباعه: “عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجد”، أيها المسلمون، إن أول صفة من صفات هذه الطليعة المباركة هي لزوم الجماعة، لأن الجماعة رحمة، والفرقة عذاب، وإن الإجتماع على الإيمان والعمل الصالح لهو أصل الفلاح وسر النجاح، لأن الإسلام يكره للمسلم أن ينحصر في نطاق نفسه وأن يستوحش في تفكيره وإحساسه، وأن ينأى بمصلحته عن مصلحة الجماعة وحياتها، قال الله تعالى: “واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا”، وقال أيضا: “ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم”، وعن سيدنا أبي سعيد الخدري قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثَلاثُ خِصَالٍ لاَ يُغَلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ أَبَدًا، إِخْلاَصُ العَمَلِ للهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلاَةِ الأَمْرِ، وَلُزُومُ الجَمَاعَةِ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ بِهِم مِنْ وَرَائِهِمْ”،ولكي يمتزج المسلم بالمجتمع الذي يحيا فيه، شرع الله الجماعة للصلوات اليومية والجمعة الأسبوعية والعيدين ثم أذن الله إلى حشد أضخم وأهم يضم الشتات الأعظم منالمشرق والمغرب، ففرض الحج،وجعل له مكانا معلوما وزمانا معلوما حتى يكون اللقاء بين جماعات المسلمين أمرا محتوما، لذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد التحذير من عواقب الفرقة والإعتزال وكان في حله وترحاله يوصي بالإجتماعوالإتحادوالإلتحام، فعن سعيد بن المسيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الشيطان يهم بالواحد والإثنين فإذا كانوا ثلاثة لم يهم بهم”، وقدرأىصلى الله عليه وسلم في سفره أن القافلة عندما تستريح يتفرق أهلها هنا وهناك كأنما ليس بينهم رباط أو أخوة فكره صلى الله عليه وسلم هذا المنظر وقال: “إن تفرقكمهذا من الشيطان” وصاروا لا ينزلون منزلا بعد ذلك إلا انضمبعضهم إلى بعض حتى قيل: لو بسط عليهم ثوب واحد لعمهم، وذلك أثر امتزاج المشاعر بينهم، وتبادل الحب وانسجام الصفوف التي تجمعهم وهو شيء يجب أن يكون عليه المسلمون اليوم وإلا أكلتهم الذئاب المفترسة التي تتربص بفرقتهم واختلافهم، ووهنهم، قال صلى الله عليه وسلم: “عليكم بالجماعة فإن الذئب لا يأكل من الشاة إلا القاصية”.أيها المؤمنون، فكما أن ربنا تبارك وتعالى أمر بلزوم الجماعة، كذلك نهى كل مؤمن بالله واليوم الآخر عن مفارقتها، وشق عصاها، ومخالفة كلمتها. وما هذا الاهتمام من الرب الحكيم العليم الخبير بأمر الجماعة إلا لبالغ أهميتها، وكبير قدرها، وعظيم نفعها إذ هي رابطة المسلمين، قوتهم من قوتها، وضعفهم من ضعفها، فيها يعبد المسلم ربه آمنا، ويدعو إليه تعالى مؤيَّداً. المستضعف في كنفها قوي، والمظلوم في ظلها منصور، والعاجز في محيطها معان. قال الله تعالى: “واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا”، وقد فُسِّر حبل الله بعدةتفسيرات: ففسر بكتاب الله، وفسر بالإسلام، وبالإخلاص، وبأمره، وبعهده، وبطاعته. وفسره عبد الله بن مسعود بالجماعة فقال: (عليكم جميعاً بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أمر به). وجاء عن ابن عباس قريباً من ذلك، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن سماك بن الوليد الحنفي أنه لقي ابن عباس بالمدينة فقال: ما يقول في سلطان علينا يظلموننا ويشتموننا، ويعتدون علينا في صدقاتنا، ألا نمنعهم ؟ قال ابن عبـاس: «لا، أعطهم يا حنفي ! » ثمّ قال: يا حنفي: الجماعة الجماعة، إنّما هلكت الأمم الخالية بتفرّقـها، أمـا سمعت اللهَ عزّ وجلّيقول: “واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا”. جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، لقد نبهالناصحون من أئمة السنة وأعلام الأمة إلى عواقب الخروج الوخيمة على جماعة المسلمين، حتى قال شيخ الإسلام منبها على لزوم الجماعة: “ولعله لا يعرف طائفةخرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته“.وقال العلامة ابن القيم: “فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغإنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم فإنه أساس كل شروفتنة إلى آخر الدهر” إلى أن قال: “ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعةهذا الأصل وعدم الصبر على منكر فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه” ،أيها المؤمنون، لقد أمر الله في هذه الآية بالألفة والجماعة ونهى عن الفرقة، فالفرقة هلكة والجماعة نجاة. ورحم الله ابن المبارك حيث قال: إن الجماعة حبل الله فاعتصموا *** منه بعروته الوثقى لمن دانا *** كم يرفع الله بالسلطان مظلمة *** في ديننا رحمةً منه ودنيانا *** لولا الخلافة لم تؤمن لنا سُبلُ *** وكانا أضعفنا نهباً لأقوانا. فالفرقة والاختلاف والتنازع يُضْعِف المسلمين وتَذْهَبَ معه دولتهم على أهل الأديان، قال الله جل جلاله: “ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم” أي: لا تختلفوا فتضعفوا وتجبنوا ويزول انتصاركم وقوتكم ودولتكم وعلوكم وهيبتكم.الدعاء