الترويح عن النفس والفسحة والفرح في الإسلام
الترويح عن النفس والفسحة والفرح في الإسلام
الدكتور مولاي عبد المغيث بصير
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد، فياعباد الله، يقول الرباني الكبير ابن عطاء الله رحمة الله عليه:” إن الله علم منا الملل فنوع لنا الأعمال”، نوع لنا الأعمال حتى لانمل، ولكي نروح عن أنفسنا، ونعلم أن في ديننا فسحة.
نعم عباد الله، يعتبر الترويح عن النفس والفرح والفسحة من الأمور المهمة التي يحتاجها المرء في حياته بين الحين والآخر، وذلك ليعود بنفس جديد لممارسة أموره الدينية والدنيوية بكل ماتستحقه من نشاط وقوة، وليعود مواصلاً سيره إلى الله بجد ونشاط، ولكن كثيراً من الناس يقع في هذا الموضوع إما في إفراط بحيث يغلو فيه، ويجعل همه هو الترويح عن نفسه والترفيه عنها في كل أوقاته، ومن الناس من يفرط فيه ويرى أنه لا فائدة منه ولا داعي له، بل هو مضيعة للوقت مفسدة للعمر، فيسقط في مظاهر التشديد عن نفسه وبالتالي التشدد في الدين الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فما هو معنى مفهوم الترويح والفسحة والفرح في ضوء القيم والمبادىء الإسلامية، وماهي أهميتها بالنسبة للمسلم؟ وماهي أهم ضوابطها كي نستخدمهما الاستخدام الصحيح ؟
عباد الله، الترويح عن النفسن يتضمن معاني عدة تشمل السعة، والفسحة، والانبساط، وإزالة التعب والمشقة، وإدخال السرور على النفس، والانتقال من حال إلى حال آخر أكثر تشويقاً منه ونحو ذلك، وتبرز أهمية الترويح عن النفس في جوانب كثيرة منها تحقيق التوازن بين متطلبات الإنسان الروحية والعقلية والبدنية، تماما كما هي توجيهات ديننا.
ففي الوقت الذي تكون فيه الغلبة لجانب من هذه الجوانب، يأتي الترويح ليحقق التوازن بين ذلك الجانب الغالب وبقية الجوانب الأخرى المتغلب عليها. ويساهم الترويح عن النفس والفسحة في إبعاد أفراد المجتمع عن كل مظاهر التشدد والحزن والنظرة إلى العالم بسوداوية قاتمة، وينقذ الإنسان من الملل والضجر وضيق الصدر، وما إلى ذلك من الإحساسات الأليمة، وينسي الإنسان ما لديه من آلام نفسية أو حسية، أو يخفف من وطأتها.
عباد الله، يظن البعض جهلا أن ديننا لا فسحة ولا ترويح ومظاهر للفرح فيه، وذلك متناف كل التنافي مع مظاهر الوسطية والاعتدال واليسر في ديننا الإسلامي الحنيف، دققوا في ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: “يا ذا الأذنين” ، يعني يمازحه، وما في الصحيح عن محمود بن الربيع رضي الله عنه أنه قال: إني لأعقل مجة مجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلو، وما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر قالت: فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم، سابقته فسبقني فقال: “هذه بتلك”. ورُوي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: إني لأستجم قلبي بالشيء من اللهو ليكون أقوى لي على الحق”.
دققوا عباد الله حتى عندما يعيش الواحد منا أيام حزن بسبب فقد عزيز من أحبائه وأقربائه، فإن توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم كما في المتفق عليه هي أن لا نعيش هذا الحزن إلى ما لانهاية، فقال صلى الله عليه وسلم:” لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا”. هكذا يعلمنا ديننا التوازن والاعتدال حتى في أحوال الحزن.
غير أنه لابد للمسلم من مراعاة عدة ضوابط في الفرح والفسحة والترويح، فكل ذلك يكون لله في حال إصلاح العبد لنيته وممارسته بشروط حلّه، واتخاذه وسيلة لا غاية في حد ذاته، والذي ينبغي أن نعلمه أولا أن الأصل في الترويح الإباحة، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو الدرداء رضي الله عنه “ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرّم، فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله العافية، فإن الله لم يكن نسياً، ثم قرأ هذه الآية:” وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا”، ومن قواعد الشريعة الإسلامية أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم، وديننا أيضا يرفض الإفراط في كمية العبادات الشرعية، مثال ذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم: « إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما يقول، فليضطجع”، فهذا نهي صريح عن زيادة كمية عبادة، فما بالكم بأمر مباح لم يأمرنا الشارع به، حتى نزيده على المأمورات، ومن ضوابط الفرح والفسحة في الإسلام أيضا ألاّ يكون في النشاط الترويحي مخالفة شرعية، وألا يكون فيه كذب وافتراء، وألا يكون فيه تبذير للمال واستهلاك باذخ، وألا يكون فيه اختلاط أو رقص، وألا يكون فيه ضرر على ممارسه، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد: “لا ضرر ولا ضرار”، وللقاعدة الشرعية: إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام، احتياطا لدين الله، أسأل الله عز وجل أن يبصرنا بأمور ديننا، وأن يوفقنا للعمل بها، أمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،
أما بعد فياعباد الله، يقول الله تعالى في كتابه الكريم: “قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا”،
عباد الله، قسم العلماء رحمهم الله الفرح إلى قسمين: فرح بالطاعة، وهو مأذون به في جميع الأحوال وهو فرح تتنزل به الرحمات، وتتنزل به السكينة، وتتنزل به الملائكة، ويقع به التأييد من الله سبحانه وتعالى، وفرح بالمعصية، وهو القسم الثاني، وهو الفرح المذموم، فلا يجوز لإنسان في حال رخاء أو شدة أن يعصي الله سبحانه وتعالى وأن يفرح في الأرض بغير الحق، وذلك من الأسباب الموجبة لدخول النار والعياذ بالله، ذكر الله عز وجل في كتابه الكريم أن أقواما يقال لهم عندما يؤمر بهم إلى النار:” ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون”، فالفرح بالمعصية محرم على المسلمين في الأوقات كلها .
فديننا كله جد لاهزل فيه، ولكنه يباح للمسلمين في أيام العطل والأفراح والطاعات كيوم الزواج وغيره، أن يأذنوا لأنفسهم ولأهليهم ولأولادهم في اللهو المباح الذي لامعصية فيه، لما في ذلك من راحة القلوب ومن ترويحها من آثار الشدائد التي تمر بها، وإن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المشرع لذلك، ولنستمع إلى ما أَخَرَجَهُ الإمام مُسْلِم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ:” كَانَ الْحَبَشُ يَأْتُونَ فَيَلْعَبُونَ بِحِرَابٍ لَهُمْ، فَكُنْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِ أُذِنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَاتِقِهِ،حَتَّى أَكَوُنَ أَنَا الَّذِي أَنْصَرِفُ عَنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْعَبُ بَنُو أَرْفِدَةَ، أَوْ كَمَا قَالَ: لِيَعْلَمَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَنْ فِي دِينِنَا فُسْحَةً”، وفي رواية الإمام أحمد:” وأنكر عمر على الحبشة لعبهم بالحراب في مسجده صلى الله عليه وسلم فقال له:” دعهم يا عمر، ليعلم يهود أن في ديننا فسحة”.
عباد الله، لقد أباح لنا ديننا الحنيف أن نروح عن أنفسنا وأن نعبر عن فرحنا بكل متاح مباح، لايتنافى مع مبادئنا الدينية وقيمنا الإسلامية والحمد لله رب العالمين.
