خلق الرحمة عند صلى الله عليه وسلم

 

الحمد لله الذي أضاء الكون بنور الرسالة، وهدى برسول الله  الإنسانية إلى الحق وسواء السبيل بعد التيه والضلالة، وبعث في الناس رسولا من أنفسهم يحرص على خيرهم ويطهرهم مما تخلقوا به من جاهلية وسفاهة، نحمده تعالى ونشكره شكرا جزيلا يوافي نعمه، ويدفع عنا نقمه، ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو الرحيم الرحمن، وسعت رحمته كل شيئ، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، ختم به النبوة والرسالة، وجعل اتباعه واقتفاء أثره من صميم محبة العبد لربه، وأكسبه من صفة الرحمة ما تعجز الأقلام عن استقصائه، فقال في حقه: “لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ” صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه وتأسوا به وتخلقوا بأخلاقه، حتى مدحهم الله بها في كتابه حين قال: “مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِوَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ”، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، ونحن نتفيأ ظلال المحبة في حبيبنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بمناسبة ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم، يجدر بنا أن نتعلم من أخلاقه ما يصلح به أمرنا في معاشنا ومعاملاتنا، ولعل من أهم الأخلاق التي نحن اليوم في أمس الحاجة لإشاعتها بيننا، خلق الرحمة، الذي أصبح من الأخلاق الناذرة بيننا إلا من رحم الله، في حين أن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانت كلها رحمة ليس للمؤمنين والمسلمين فقط، بل هي لعموم خلق الله إذ بينها الله تعالى في قوله: “وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ”، أيها الإخوة المؤمنون، الرّحمة صفةٌ من صِفات المولى عز وجل، وجعلها صفة لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولأمته معه، فتعالوا بنا نكتشف بعضا من هذا الخلق النبيل في الحياة العملية لرسولنا صلى الله عليه وسلم، فعن رحمته صلى الله عليه وسلم بالصبيان، أخرج النسائي عن عبد الله بن شدّاد عن أبيه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتَي العشاء وهو يحمِل حسنًا أو حسينًا، فتقدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه، ثمّ كبّر للصلاة فصلّى، فسجد بين ظهرانَي صلاته سجدةً أطالها، قال أبي: فرفعتُ رأسِي وإذا الصبيّ على ظهرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجِد، فرجعتُ إلى سُجودي، فلمّا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاةَ قال النّاس: يا رسول الله، إنّك سجدتَ بين ظهرانَي صلاتك سجدة أطلتها حتّى ظننّا أنّه قد حدث أمرٌ أو أنّه يوحى إليك، قال: “كلّ ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني، فكرهتُ أن أعجله حتّى يقضيَ حاجتَه”، ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بالأمهات أنه كان يدخُل في الصّلاة يريد إطالتَها فيسمع بكاءَ الصبيّ، فيتجوّز في صلاتِه ممّا يعلم من شدّة وجدِ أمّه من بكائه، روى الشيخان، عن أسامة بن زيد (ض) قال: كنّا عند النبي  صلى الله عليه وسلمفأرسلت إليه إحدى بناتِه تدعوه وتخبِره أن صبيًّا لها أو ابنًا لها في الموت، فقال للرّسول: “ارجِع إليها فأخبِرها أنّ لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكلُّ شيء عنده بأجلٍ مسمّى، فمُرها فلتصبِر ولتحتسِب”، فعاد الرسول فقال: إنّها قد أقسمَت لتأتينَّها، قال: فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقام معه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل، وانطلقتُ معهم، فرُفِع إليه الصبيّ ونفسه تقعقَع كأنّها في شنّة، ففاضت عيناه، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ فقال: “هذه رحمة جعلها الله في قلوبِ عباده، وإنّما يرحم الله من عباده الرُّحماء”. أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، إن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم، لم تكن محصورة في أتباعه المؤمنين فقط، بل امتدت حتى شملت الذين ناصبوه العداء، فقد أخرج الشيخان،  عن عائشة (ض) أنّها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ من يوم أحد؟ فقال: “لقد لقيت من قومِك، وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضتُ نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلال، فلم يُجبني إلى ما أردت، فانطلقتُ وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفقْ إلا بقرن الثعالب، فرفعتُ رأسي فإذا بسحابةٍ قد أظلَّتني، فنظرتُ فإذا فيها جبريلُ فناداني فقال: إنّ الله عزّ وجلّ قد سمع قولَ قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث إليك ملكَ الجبال لتأمرَه بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال وسلّم علي، ثم قال: يا محمّد، إن الله قد سمع قولّ قومك لك وأنا ملكُ الجبال، وقد بعثني ربّك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئتَ أن أطبق عليهم الأخشبين”، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بل أرجو أن يُخرجَ الله من أصلابِهم من يعبُد الله وحدَه لا يشرك به شيئًا”. وقد تواترت الأخبار عن رحمته صلى الله عليه وسلم لمن عادوه في قوله صلى الله عليه وسلم “اللهم اهدِ دوسًا، اللهم اهدِ ثقيفًا”، وقد بلغت هذه الرحمة قمتها  يوم فتح مكة، وقد فعل أهلُها به وبأصحابِه ما فعلوا،  قال عمر: لما كان يوم الفتح ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة أرسل إلى صفوان بن أمية، وإلى أبي سفيان بن حرب، وإلى الحارث بن هشام، قال، عمر: فقلت لقد أمكن الله منهم، لأعرفنهم بما صنعوا، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مثلي ومثلكم كما قال يوسف لإخوته: لا تثريبَ عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين،قال عمر:فافتضحت حياءً من رسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهية أن يكون بدَرَ مني،وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال. أيها الإخوة المؤمنون، روى الحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أرسل عبد الرحمن بن عوفقائدت على الجيش إلى قبيلة كلب النصرانية بدومة الجندل، أوصاه قائلا: “اغْزُوا جمِيعًا فِي سبِيلِ اللهِ، فقاتِلُوا منْ كفر بِاللهِ، لا تغُلُّوا، ولا تغْدِرُوا، ‏ولا‏ ‏تُمثِّلُوا، ‏ولا تقْتُلُوا ولِيدًا، فهذا عهْدُ اللهِ وسِيرةُ نبِيِّهِ فِيكُمْ”، وأخرج الإمام مسلم مثله في وصيته صلى الله عليه وسلم لجيش معركة مؤتة حيث قال: “اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سبِيلِ اللّهِ، قاتِلُوا منْ كفر بِاللهِ، اغْزُوا ولا ‏تغُلُّوا، ‏ولا ‏تغْدِرُوا، ‏‏ولا ‏تمْثُلُوا، ‏ولا تقْتُلُوا ولِيدًا، أوِ امْرأةً، ولا كبِيرًا فانِيًا، ولا مُنْعزِلاً بِصوْمعةٍ”، وروى البخاري عن ابن عمر (ض):”أن امرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتولة . فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان”.روى أبو داود بإسناد صحيحعن ابن مسعود (ض) قال: كنّا مع رسول صلى الله عليه وسلم الله في سفر، فانطلق لحاجتِه، فرأينا حُمَّرَةً معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمَّرة فجعلت تفرِّش (تُعَرِّسُ)، فجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: “من فجع هذه بولدِها؟ ردُّوا ولدَها إليها”، وعن عبد الله بن جعفر قال: دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم حائطًا لرجلٍ من الأنصار، فإذا جملٌ فلمّا رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلمحنَّ وذرفت عيناه، فأتاه النبيّ صلى الله عليه وسلمفمسح ذِفراه فسكت، فقال: “من ربُّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟” فجاء فتًى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال: “ألا تتَّقي الله في هذه البهيمة التي ملَّكك الله إياها؟! فإنّه شكا إليّ أنّك تجيعه وتُدئبه”أي: تتعبه بكثرة العمل. وعلى العموم، فإن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم تجلت في يسر تكاليف الشرع حتى إنه كان يشقّ عليه ويعزُّ عليه ما يشقّ على أمّته، فما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرَهما ما لم يكن إثمًا، وكم من موقفٍ قال فيه: لولا أن أشقَّ على أمّتي لأمرتهم بكذا أو لفعلت كذا.فاللهم اجعلنا من المحبين لرسول الله، المتمسكين بسنته المقتفين أثره، المهتدين بهديه، من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب، آمين.

الخطبة الثانية

أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، ما أحوجنا اليوم للتأسي بنبينا صلى الله عليه وسلم  في خلق الرحمة، فكل مشاكلنا، وهمومنا تأتي لأن الرحمة لا تعرف طريقها لقلوبنا، تعاملنا من أبنائنا وأزواجنا تنقصه الرحمة، تعاملنا مع جيراننا وأقاربنا تنقصه الرحمة، سيرنا في طرقاتنا يفتقر إلى خلق الرحمة، تعامل أساتذتنا ومعلمينا مع الأبناء ينقصه الرحمة، الرحمة خلق ينبغي أن نراه متجليا في مؤسساتنا وإداراتنا التي نلج إليها للحصول على خدماتنا، الرحمة خلق ينبغي أن ينتشر بين الأزواج والأسر، فلو تراحمنا لإنتفت المشاكل بيننا، ولعالجنا كثيرا من قضايانا، ولأرحنا المحاكم والقضاة من قضايانا المختلفة والمتشعبة، والمفتقرة إلى خلق الرحمة، ولاستوجبنا جزاء الله تعالى للرحماء الذي قال فيه النبي  صلى الله عليه وسلم  “الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”، روى مسلم: “أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطانٍ مقسِط متصدِّق موفَّق، ورجل رحيم رقيقُ القلب لكلّ ذي قربى ومسلم، وضعيف متعفِّف ذو عيال” الدعاء.

خطبة الجمعة من مسجد الحسنى عين الشق، خلق الرحمة عند صلى الله عليه وسلم، الجمعة 6 ربيع الثاني 1440 موافق 14 دجنبر 2018 ، الأستاذ مولاي يوسف المختار بصير

 

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *