الكبر والتكبر

الكبر والتكبر

الحمد لله العلي الكبير , العزيز الجبار المتكبر , وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له , واشهد أن محمدا عبده ورسوله , صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا  ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وانتم مسلمون )

يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله وهو الغني الحميد, إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد, وما ذلك على الله بعزيز

أما بعد

أحبتي في  الله فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله العلي العظيم القائل في محكم كتابه {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ والْفُؤَادَ كَلُّ أُوْلَــــئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسئُولاَّ وَلاَ تَمْشِ في الأرْضِ مَرَحًا إنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الجِبَالَ طُولًا كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا }سورة الإسراء /38

ففي هذه الآيات يبين الله  سبحانه وتعالى أنّ الإنسان يُحاسَبُ على سمعه وبصَرِهِ وقَلبِه كما يحاسبُ على سائر جوارحه وبما أنَّ القلب أميرُ الجوارح فأعمال الجوارحِ ترجَمَةٌ لما وَقَرَ في القلب فإنَّهُ إنْ صَلَحَ القَلْبُ صلَحَتِ الجوارحُ وإنْ فسَدَ القلبُ فسدَتِ الجوارِح ولا يصلُحُ القلبُ إلا بالتخَلُّصِ من أمراضِ القلبِ وعلاجِهِ منها.ومن أمراض القلوب المنهي عنها في هذه الآيات : التكبُّرُ وهو  من الأخلاق الذميمة التي تحمل الإنسان على ما لا يرضاه الله عز وجل من الأقوال والأفعال. الكبر, الكبر هذا الخلق الذميم الذي أخرج بسببه إبليس من الجنة فاهبط من المقام الذي كان فيه. وصفة الكبر هذه لا ينبغي أن تكون في الأصل  إلا لله تبارك وتعالى, فصفة الكبر هذه صفة كمال في ربنا عز وجل, وصفة نقص في المخلوق, قال صلى الله عليه وسلم   : ((قال الله تبارك وتعالى: العز إزاري والكبرياء ردائي)), وفي رواية: ((والعظمة ردائي, فمن نازعني في واحد منهما عذبته)), وذلك لأن هاتين الصفتين من صفات الله تبارك وتعالى خاصة, ولا يجوز للمخلوق أن يتصف بهما. فالله تعالى إذا اتصف بهما كان ذلك فيه كمال, والمخلوق إذا تجرأ ولبس شيئًا من هاتين الصفتين كان فيه نقصًا وعيبًا, قال الله تبارك وتعالى: سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق,

فالمتكبر لا ينتفع بآيات الله؛ ذلك أن الله عز وجل يصرفها عنه ، فالمتكبر لا يرى الحق أبدًا, بل يرى الحق باطلاً, ويرى الباطل حقًا, قال الله عز وجل عن فرعون: كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار, فالمتكبر متوعد  أن يطبع الله على قلبه, فلا يرى الحقد على حقيقته, وقال عز وجل مبينًا أنه المتكبر إنه لا يحب المستكبرين, إنه لا يحب المتعالين المتغطرسين المتجبرين, والمتكبر عن عبادة الله تبارك وتعالى والخضوع له متوعد بدخول جهنم كما قال الله عز وجل: إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين, بل إن المتكبرين من أكثر أهل النار عددًا كما صح ذلك عن نبينا صلى الله عليه وسلم  إذ قال: ((قالت النار أوثرت بالمتكبرين)), ولذلك يقول سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى: ” من كانت معصيته في شهوة نرجو له توبة؛ فإن آدم عليه السلام عصى مشتهيًا فغفر له”, أي ما حمله على المعصية الكبر, وإنما حمله على ذلك الملك الذي لا يبلى حمله على ذلك أنه يحب أن لا يعرى, فلذلك أقدم على الأكل من الشجرة فإذا كانت معصيته من كبر فأخشى عليه اللعنة فإن إبليس عصى مستكبرًا فلعنه الله, وقال صلى الله عليه وسلم   ـ والحديث في الصحيحين ـ: ((لا ينظر الله إلى من جر الإزار من الخيلة)).

فالكبر خلق باطن تصدر أعمال هي ثمرته, فتظهر هذه الأعمال على الجوارح؛ لأن كل إناء بما فيه ينضح, وآفة الكبر عظيمة, وفيه يهلك الخواص, وقلما ينفك عنه العباد والزهاد والعلماء, قال صلى الله عليه وسلم  : ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)), وإنما صار الكبر حجاب دون الخير؛ لأنه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين؛ لأن صاحبه لا يقدر أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه, فلا يقدر على التواضع, ولا يقدر على ترك الحقد والحسد والغضب, ولا على كظم الغيظ, وقبول النصح, ولا يسلم من الازدراء بالناس واغتيابهم, فما من خلق ذميم إلا وهو مضطر إليه, وما من خلق يكرهه الله عز وجل إلا ويرتكبه؛ ذلك أن الكبر قد دخل في قلبه, ومن شر أنواع الكبر ما يمنع من استفادة العلم وقبول الحق والانقياد له, وقد تحصل المعرفة للمتكبر فيقف على الدليل ـ على ما قيل ـ, ويعرف أن الحق هو كذا, يقف على معرفة هذا الشيء, ولكن لا تطاوعه نفسه على الانقياد للحق أبدًا كما قال تعالى عن آل فرعون: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًا,لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورًا, فآل فرعون كانوا يعلمون أن الحق ما جاء به موسى عليه السلام, ولكنهم جحدوا الحق استكبارًا وعلوا, وكذلك ما قاله الله عز وجل عنهم أيضًا: أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون, وكذلك ما قاله الله عز وجل عن الأقوام الكافرة برسولها: إن أنتم إلا بشر مثلنا, أي أنخضع لكم وأنتم بشر مثلنا, تأكلون كما يأكل الناس, وتمشون في الأسواق؟ وذلك كبرًا من عند أنفسهم وعلو.

وآيات كثيرة ذكرها الله عز وجل فيها بيان خصلة الكبر, وأنها كانت السبب في رفض كثير من الناس الحق, وقد شرح النبي صلى الله عليه وسلم   لنا الكبر شرحًا موجزًا مختصرًا جامعًا مانعًا, فكفى به  صلى الله عليه وسلم    مفسرًا, وكفى به صلى الله عليه وسلم    مبينًا لمعناه, وذلك في صحيح مسلم أنه قال صلى الله عليه وسلم    : ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)) فقال رجل: يا رسول, إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسن, ونعله حسن! فقال صلى الله عليه وسلم   : ((ليس ذلك, إن الله جميل يحب الجمال, الكبر بطر الحق وغمط الناس)),  إذًا الكبر هو هذا, إما بطر للحق أو غمط للناس, ومعنى بطر الحق: الاستنكاف عنه, وعدم قبوله والنظر إليه بعين الاستصغار, فإذا عرف الحق بطره أي رفضه, ولا يرضى أن يقبله, ويركب رأسه رغم البيان والحجة عليه فما أهلَكَ فِرعَونَ إلا تكَبُّرُه فبالرغم مما  رأى من معجِزات نبيّ اللهِ موسى عليه السلام لم يؤمِن به حيث قال له وزيرُهُ هامان إن أمنت بـموسى تعودُ تعْبُدُ بعد أن كنتَ تُعْبَدُ، وما أهلك بني إسرائيل ممن أرسل إليهم سيدنا عيسى بعدما رأَوا معجزاته عليه السلام إلا تكبُّرُهُم فقالوا يذهبُ جاهُنا، وما أهلك أبا لهَبٍ وصناديدَ قريشٍ بعدما رأوا من معجزة القرءان واعترافهم أنه ليس ممّا عرفوا من الشعر والنثر إلا تكَبُّرُهُم, أما غمط الناس: فهو  استصغارهم, وازدراؤهم والنظر إليهم من أعلى,   اي ان الشخص  يرى لنفسه مَزِيّةً على غَيرِهِ مِن الناس فَيُلاحِظُ نَفْسَهُ بِعَيْنِ الكمال والاستحسان مع نسيان مِنَّةِ الله تعالى عليه ويترفَّعُ على عباد الله فيستحقرُهم لكونهم أقلَّ منه جاهًا أو مالًا أو قُوّةً أو عشيرةً. واستحقارُ الناس إخوة الإيمان ليس مقصورًا على الغنيّ وذي الجاه بل هو موجود في غيرهما فالزوج قد ينظر إلى زوجته بأنها لا تفهم كما يفهم هو فيحتقرها بقلبه ويترَفَّعُ عليها وهو غير متنبّه لذلك، والوالد قد ينظر إلى ولده بأنه دونَه في المعرفة والخبرَةِ والرأي فيحتقره بقلبه وهو لا يدري، والمدرّسُ ينظر إلى من يدرُسُ عنده بأنه دونه في العلم والفهم فيحتقره بقلبه وهو لا يدري وقس على هذا.فهذا هو الكبر.

. والناس في هذه الآفة على ثلاث درجات.:

الأولى: أن يكون الكبر مستقرًا في قلبه, فهو يرى نفسه خيرًا من غيره إلا أنه يجتهد ويتواضع, فهذا في قلبه شجرة الكبر مغروسة إلا أنه قد قطع أغصانها, فهو يرى في نفسه أنه خير من غيره, يرى نفسه أعلى من الناس, يجد هذا الشيء في قلبه, ولكنه لا يتلفظ بموجب هذه الخصلة الذميمة, لا يتحول هذا الشيء الذي في قلبه إلى فعل, إلى قول, وإنما يكتم هذا ويظهر عكس هذا الموجب, يظهر التواضع وخفض الجناح للمؤمنين, فهذا إن كانت شجرة الكبر في قلبه إلا أن أغصان هذه الشجرة لا تنمو فقد قطعها.

الدرجة الثانية: أن يظهر ذلك بأفعاله من الترفع في المجالس والتقدم على أقرانه, والإنكار إذا قصر أحد في حقه, فترى بعضهم يصعر خده للناس كأنه معرض عنهم, وكذلك العابد يعيش دوجه كأنه مستقذر لهم, وهذا قد جهل  ما أدب الله عز وجل به نبيه صلى الله عليه وسلم   , إذ كان هو على رأس العلماء والعباد والزهاد ماذا قال الله تعالى له؟ قال الله عز وجل له: واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين

الدرجة الثالثة: أن يظهر الكبر بلسانه كالدعاوى والمفاخر وتزكية النفس, وحكايات الأفعال في معرض المفاخرة بغيره, وكذلك التكبر بالحسب والنسب, فالذي له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك, وإن كان أرفع منه عملاً, وقد قال صلى الله عليه وسلم   : ((ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)) قال ابن عباس رض الله عنهما: يقول الرجل للرجل: أنا أكرم منك, أي أنا أكرم منك حسبًا, أو أكرم منك أبًا, وليس أحد أكرم من أحد إلا بالتقوى, قال تعالى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم.

ومن أسباب الكبر أن يتكبر الإنسان بوجاهته وحسبه ونسبه, أو أن يتكبر بالمال أو أن يتكبر بالجمال, أو أن يتكبر بالقوة وكثرة الأتباع, ونحو ذلك, و التكبر يظهر في شمائل الإنسان, يظهر في حركاته وسكناته  فمن ذلك أنه يحب قيام الناس له, إذا جاء مجلس من المجالس وهو ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم    في الحديث الصحيح: ((من أحب أن يتمثل له الناس قيامًا فليتبوأ مقعده من النار)) وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: “ما كان أحد أحب إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم   , وإذا رأيناه لا نقوم له لما نعلم من كراهيته لذلك, كان صلى الله عليه وسلم    يكره أن يتمثل له الناس قيامًا, فمن الشمائل التي تظهر على الإنسان من جراء الكبر أن يحب أن يتمثل له الناس قيامًا, والسنة أن الإنسان إذا دخل مجلسًا أن لا يتمثل له الناس قيامًا, وإنما القيام عند الاحتفاء به والمعانقة واستقبال صاحب الدار لضيوفه واستقبال الرجل لأبنائه ونحو ذلك.

ومن صفات المتكبر أيضًا أنه لا يزور أحدا  تكبرًا واستعلاءً أو استنكافًا, ومن ذلك أيضًا أن يستنكف من جلوس أحد إلى جانبه من الفقراء, وممن هم دونه, أو أن يمشي معه أحد من الضعفاء أو المساكين, فهذه خصال تظهر على الجوارح من جراء ما في القلب. فأسأل الله عز وجل لي ولكم السلامة من هذه الخصلة الذميمة, إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم .

خطبة الجمعة ليوم 26/10/2018 مسجد الحسن الثاني سيدي بنور الأستاذ عبد الهادي السبيوي

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *