ألَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ
ألَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ
الحمد لله الذي زيَّن بذكرِه ألسنَ الذاكرين وأظهرَ من جميلِ أسمائِه وصفاتِه وأفعالِه ما سَرَّ به قلوبَ العارفين، فأثنى عليه بها المفرِّدُون الموحدون من الأولين والآخرين، أحمدُه تعالى وأشكرُه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعدُ:
فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هديُ محمد، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكل مُحدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
أحبتي في الله
إن سعادة القلب، وسكينة النفس وراحة البال، وقرة العين أعظم ما يسعى إليه كل إنسان في هذه الحياة، وهو مطلب من أهم المطالب التي يتمناها جميع الخلق، ورغبة كل إنسان عاقل ، قال تعالى موضحا أثر حياة القلب على سعادة الإنسان في الدنيا وبعد الممات ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: “ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلاَّ لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار).”..
لقد وضح الإسلام الأسس والقواعد التي تقوم عليها حياة القلب وسعادته، فمن أخذ بها وطبقها منحه المولى السعادة الحقة والحياة الطيبة المطمئنة، وإن كان فقير الحال، ومن لم يطبقها أو تغافل عن أسبابها واعرض عن مقوماتها شقي وأصابه الحزن والكمد والقلق وإن كان ثريا وغنيا وقويا، جاء في الحديث الذي رواه النعمان بن بشير (أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ. أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مضغة، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ”)، ولا شك أن صلاح الجوارح والأخلاق بل وصلاح الدين والدنيا بصلاح القلب وقوته وسعادته وسعته، وإذا سعد القلب طابت الجوارح ونشطت في عمل الخير ونفع الخلق.
أحبتي في الله :إن من أعظم مقومات سعادة القلب وحياته هي الإيمان الصادق واليقين الجازم بالله وبرسوله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره قال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحديد: 28].
ومن ثمرات الإيمان بالله واليوم الآخر أن المسلم يسير وفق هدى وبصيرة ونور وعلم وبينة، فهو يعلم من أين جاء وإلى أين المصير، وما هو الغاية من خلق الجن والإنس قال المولى ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، ولذا فهو لا تتشعب به الآراء، ولا تلتبس عليه الأمور، ولا ينتابه الشك والارتياب بل هو ثابت الجأش مطمئن القلب، قوي الإرادة، ولذا قال المولى ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82]، وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله (عن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ شق ذلك على الناس وقالوا: يا رسول الله، فأينا لا يظلم نفسه؟ قال: “إنه ليس الذي تعنون! ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: ﴿ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13] إنما هو الشرك.
أحبتي في الله
من مقومات الإيمان الصبر عند الضراء، والشكر على السراء فيقابل المسرات والنعم بالشكر للمولى فلا يبطر ويتذمر، ويقابل المصائب مهما كانت شديدة أو قوية بالصبر والتضرع والتوكل فلا ييأس أو يقنط قال تعالى ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [التغابن: 11] وقال الأعمش عن علقمة: ﴿ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ [التغابن: 11] قال: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند اللّه فيرضى ويسلّم.
المسلم إذا أنعم الله عليه بنعمة من زيادة مال ورزق وولد زاده شكرا وذكرا لله، ودعاه ذلك إلى المحافظة على ما أنعم الله عليه من خلال الطاعة والإحسان، وإذا ابتلاه الله بفقد عزيز أو وظيفة أو مال صبر وعلم أن ذلك ابتلاء من المولى ليمتحن صبره وعبوديته، وفي حديث صهيب الرومي قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ وليسَ ذلكَ لأحَدٍ إلا للمُؤْمنِ إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكانتْ خَيرًا لهُ وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فكانتْ خَيرًا لهُ )
أحبتي في الله
إن ما نراه في عالمنا من تذمر وبطر وعدم الرضى بالقليل، ويقابله السخط من قدر الله والقنوط واليأس من رحمة الله والذي نتج عنه كثرة حالات الانتحار والتخلص من الحياة عن طريق إزهاق الروح لهو من الأدلة على ضعف الإيمان، وقلة اليقين وقلة اللجوء إلى من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه.
فمن ثمرات الإيمان دوام الذكر لله والشوق إلى لقائه، ومحبة القرآن وتلاوته والإنس بذكره، ومحبة الصالحين قال تعالى ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ﴾ [الرعد: 28 -29]، فبالذكرِ يستدفعُ الذاكرون الآفاتِِ ويستكشفون الكرباتِ وتهون عليهم المصيباتُ، فإليه الملجأ إذا ادلهمت الخطوبُ، وإليه المفزعُ عند توالي الكوارِثِ والكُروبِ، به تنقشعُ الظُّلُماتُ والأكدارُ وتحلُّ الأفراحُ والمسرَّاتُ.
وقد أمرَ الله تعالى به المؤمنين، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً﴾،وقال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾،
وقد أثنى اللهُ سبحانه وتعالى في كتابِه على الذَّاكِرِين، فقال تعالى:﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ إلى أن قال: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾.
وأما الأخبارُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقد دلَّتْ الأدلَّةُ على أن أفضلَ ما شغلَ العبدُ به نفسَه في الجملةِ ذكرُ اللهِ تعالى، فمن ذلك ما رواه أحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبِّئُكم بخيرِ أعمالِكم وأزكاها عند ملِيكِكُم وأرفعِها في درجاتِكم، وخيرٌ لكم من إنفاقِ الذهبِ والوَرِقِ، وخيرٌ لكم من أن تلقوا عدوَّكم فتضربوا أعناقَهم ويضربوا أعناقَكم» قالوا: بلى، قال: «ذكرُ اللهِ تعالى».
ومن ذلك أيضاً ما رواه الإمام مسلم في “صحيحِه” عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:” كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يسيرُ في طريقِ مكةَ فمرَّ على جَبَلٍ يقال له: جُمدان فقال صلى الله عليه وسلم:(هذا جمدانُ سبقَ المفرِّدون) قالوا: وما المفرِّدون يا رسولَ الله؟ قال:«الذاكرون الله كثيراً والذاكرات».
ومما يُظهِرُ فضلَ الذِّكرِ وعلوَ مرتبتِه ما أخرجه الترمذي عن عبد اللهِ بن بسرٍ رضي الله عنه أن رجلاً قال:” يا رسولَ اللهِ إن شرائعَ الإسلامِ قد كثُرَت عليَّ فأخبرْني بشيءٍ أتشبَّثُ به قال: «لا يزال لسانُك رطباً من ذكرِ الله)
ومما يدل على ذلك أن اللهَ تعالى أمرَ المؤمنين بأن يذكروه قياماً وقعوداً وعلى جنوبِهم، فقال تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾.
وهكذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم فعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: «كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يذكُرُ اللهَ على كلِّ أحيانِه)
أحبتي في الله
اعلموا أن أعلى مراتبِ الذِّكرِ الذي أمر اللهُ به هو ما تواطَأُ فيه القلبُ واللسانُ، واعلموا أن هذا الفضلَ العظيمَ والأجرَ الكثيرَ ليس معلَّقاً على ذكرِ الشِّفَةِ واللسانِ فحسب، بل لا يثبت هذا الأجرُ الموعودُ إلا على ذكرٍ يتواطأُ فيه القلبُ واللسانُ، فذكرُ اللهِ إن لم يخفِقْ به القلبُ، وإن لم تعُشْ به النفسُ، وإن لم يكن مصحوباً بالتضرُّع والتذلُّلِ والمحبَّةِ للهِ تعالى فلن يكونَ سبباً لتحصيلِ هذه المزايا والفضائلِ.
وقد يسأل المرءُ ما سِرُّ تفضيلِ الذِّكرِ على سائرِ أنواعِ وأعمالِ البرِّ مع أنه خفيفٌ على اللسانِ، ولا يحصل به تعبٌ على الأبدانِ ؟
فالجوابُ أن سرَّ هذا التفضيلِ هو أن الذكرَ يورِثُ يقظةَ القلبِ وحياتَه وصلاحَه؛ ولذلك قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الذي يذكُرُ ربَّه والذي لا يذكُرُ ربَّه مَثَلُ الحيِّ والميتِ»فالذكرُ حياةُ القلوب وصلاحُها، فالذكر للقلبِ كالماءِ للزرعِ بل كالماءِ للسمكِ، لا حياة له إلا به، فإذا حَيَت القلوبُ وصَلُحَت صلحت الجوارحُ واستقامت، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسدِ مضغةً إذا صَلُحت صلُح الجسدُ كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسدُ كُلُّه، ألا وهي القلبُ».
فعليكم عبادَ اللهِ بالإكثارِ من ذكرِه سبحانه وعمارةِ الأوقاتِ والأزمانِ بالأذكارِ والأورادِ المطلقةِ والمقيدةِ، كقولِ: لا إلهَ إلا اللهُ فإنها من خيرِ الأقوالِ وأحبِّها إلى اللهِ، أو قول: سبحانَ اللهِ والحمدُ للهِ ولا إله إلا الله واللهُ أكبر، فإنها خيرٌ مما طلعت عليه الشمسُ، وغيرِ ذلك من الأقوالِ التي تنمَّى بها الحسناتُ وترفعُ بها الدرجاتُ وتوضعُ السيئاتُ,، فإن قصُرَت هِمتُك وضعفت قوَّتُك عن تلك المنازلِ الكبارِ، فلا أقلَّ من أن تحافظَ على الأذكارِ المؤقتةِ والمقيدةِ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وأقل ذلك –؛أي: ما ينبغي على العبدِ المحافظةُ عليه من الأذكارِ- أن يلازمَ العبدُ الأذكارَ المأثورةَ عن معلِّمِ الخيرِ وإمامِ المتقين صلى الله عليه وسلم كالأذكارِ المؤقتةِ في أول النهار وآخره،وعند أخذِ المضجع، وعند الاستيقاظِ من المنامِ ،وأدبار الصلواتِ ،والأذكارِ المقيدةِ، مثل ما يقالُ عند الأكلِ والشربِ واللباسِ والجماعِ ودخولِ المنزلِ والمسجدِ والخلاءِ والخروجِ من ذلك وعندَ المطرِ والرعدِ وغيرِ ذلك”، وقد صنفت في ذلك بعضُ الكتيِّباتِ فما عليك أيها المبارك إلا أن تقتنيَ واحداً من تلك المصنفاتِ وتواظبُ على المسابقةِ في الخيراتِ.
احبتي في الله
إن المسلم لا يفتر لسانه عن ذكر الله في السراء والضراء، ولذا كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يقول لبلال أرحنا بالصلاة لأنه يجد أنسه وحياته وراحته بالصلاة، والالتجاء لذكره، والسكينة تنزل عند تلاوة القرآن وتدبر معانيه، والتغلل في مقاصده ومراميه، والقرآن من اعظم الذكر قال تعالى ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الإسراء: 82
فذكر الله نعمة عظمى ومنحة كبرى، به تستجلب النعم، وبمثله تستدفع النقم، وهو قوت القلوب، وقرة العيون، وسرور النفوس، وروح الحياة، وحياة الأرواح ما أشد حاجة العباد إليه، وما أعظم ضرورتهم إليه، لا يستغنى عنه المسلم بحال من الأحوال لأنه جلاء القلوب ودواؤها يقول أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: “لكل شيء جلاء، وإن جلاء القلوب ذكر الله عز وجل , ولا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرهما، وجلاؤه بالذكر، فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء”.
فإذا ترك الذكر صدئ، فإذا ذكره جلاه, وصدأ القلب بأمرين: بالغفلة والذنب، وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار والذكر ، قال تعالى: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28].
فيكفيك أيها المهموم – لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين – , قالها يونس في بطن الحوت ولو لم يقلها للبث في بطنه إلى يوم يبعثون.ويكفيك أيها الخائف أن تقول: حسبي الله ونعم الوكيل, قالها إبراهيم وهو في النار فانقلب بفضل الله من حال إلى أحسن حال.
يكفيك يا من ضاق عليك رزقك أن تقول: أستغفر الله العظيم , فمن لازم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجًا، ومن كل هم فرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب. اقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم .
الخطبة الثانية :
الحمدُ لله الذي أمرَ بذِكرِه ورتَّب على ذلك عظيمَ أجرِه، والصلاةُ والسلامُ على أعظمِ الناسِ ذكراً لربِّه، نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه ومن سار على درْبه.
أما بعد.
أحبتي في الله : لقد طغت الماديات على قلوب المسلمين فقطعت صلتهم بالله، وتعلقهم به، فابتعدوا عن كل مظاهر العبودية والالتجاء الصادق إلى الله، حتى وصلوا إلى ما نراه من حيرة وقلق واضطراب. وبعد أن كنا نسمع عن حالات الانتحار والتخلص من الدنيا بالشتائم واللعنات في بلاد تنكرت لدين الله وآمنت بأنه لا إله والكون مادة بدأنا نرى ونسمع عن حالات الانتحار في بلاد القرآن والإيمان والتنعم بالصلاة والإحسان ولا سبيل للخروج من هذا المأزق إلا بالتزام العبودية لله تعالى، والتحرر من عبودية الوثنيات والشهوات على اختلاف أشكالها وأنواعها، تلك العبودية التي لو استجاب الناس لها لعاشوا في اطمئنان وسعادة وسلام، والتي هي أساس العمل الصالح الذي يثمر نهضة الأمة، وينقذ الإنسانية جمعاء من جحيم العبودية، والخضوع للبشر، ويرد عليها عزتها، ويرفع منزلتها، ويمنحها السعادة والفوز في الدارين
. لقد انتشرت في عالمنا المعاصر العيادات النفسية، والمصحات العقلية حيث يلتجأ إليه الناس يلتمسون عندهم الشفاء والدواء، والتخفيف عما يعانونه من ضغوط الحياة وحرارة الهم، وقوة الحزن وسعار الكآبة القاتلة، ويتمنون أن يجدوا عندهم ما يريح قلوبهم، ويجلب المسرات والسعادة لأرواحهم، نعم يجدون ما يسرهم أحيانا، ويبهجهم ويفرحهم من خلال مسكنات وقتية، ونصائح طبية نفسية للتعامل مع ظروف الحياة المختلفة، لكن يجب أن يكون عند المسلم الصادق من مقومات السعادة النفسية وأصول الإيمان القوية ما تجعله يسير على هدى وبصيرة، ويتنعم في جنة عاجلة وسرور وبهجة قلبية إيمانية ونفحات ربانية. تزيح عن كاهله عناء الهم، وضغط الحياة وتعبها وعنائها.ولن تتأتى تلك الطمأنينة وتلك السكينة والراحة النفسية الا بذكر الله ” الا بذكر الله تطئن القلوب ”
أحبتي في الله
وإن للذكر فوائد كثيرة ، ومنها انه هو يورثُ محبةَ الله سبحانه وتعالى، إذ فكلما ازداد العبدُ لله ذكراً ازداد له حباً ،فمن أرادَ أن يفوزَ وينال محبةَ الله تعالى فليلهجْ بذكرِه.
ومن فوائد الذكر ايضا أنه يطردُ الشيطانَ ويقمعُه ويكسرُه، ويزيلُ الهمَّ والغمَّ والحزنَ، ويجلبُ للقلبِ الفرحَ والسرورَ والبسطَ، ففي الترمذي وأبي داود والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «من قال – يعني: إذا خرج من بيته -: باسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: كُفيتَ وهُديتَ ووُقيتَ، وتنحَّى عنه الشيطان، فيقول لشيطان آخر: كيف لك برجلٍ قد هُدي وكُفي ووُقي».
الذكرَ يورثُ ذكرَ اللهِ تعالى للعبدِ، قال الله تعالى:﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾،وفي الحديث القدسي قال تعالى:«فإن ذكرني في نفسِه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خيرٍ منهم).
ومن فوائدِ الذكرِ ايضا أن اللهَ سبحانه وتعالى يباهي بالذاكِرين ملائكتَه، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لجماعةٍ اجتمعوا يذكُرون اللهَ: «أتاني جبريلُ فأخبرني أن اللهَ يباهِي بكم ملائكتَه).
ومن فوائد الذكرايضا أنه سببٌ لنزولِ الرحمةِ والسكينةِ كما قال صلى الله عليه وسلم: «وما اجتمع قوم في بيت من بيوتِ اللهِ يتلون كتابَ اللهِ ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينةُ وغشيتهم الرحمةُ وحفتهم الملائكةُ، وذكرهم اللهُ فيمن عنده)
ومن فوائده: أنه يورثُ المراقبةَ حتى يُدخل العبدَ في بابِ الإحسانِ، فيعبد اللهَ كأنه يراه. وأنه يورث الإنابةَ، وهي الرجوعُ إلى الله تعالى، فإنه متى أَكثَرَ العبدُ الرجوعَ إلى اللهِ تعالى بذِكرِه أورثَه ذلك رجوعَه إلى اللهِ تعالى بقلبِه في كلِّ الأحوالِ، فيصير اللهُ تعالى مفزعَه وملجأَه وملاذَه ومعاذَه وقبلةَ قلبِه ومهربَه عند النوازلِ والبلايا.
ومن فوائده: أنه يزيل الوحشةَ بين العبدِ وبين ربه تبارك وتعالى، فإن الغافلَ بينه وبين اللهِ حجابٌ كثيفٌ ووحشةٌ لا تزولُ إلا بالذكرِ. ومن فوائدهأيضا أنه سببُ اشتغالِ اللسانِ عن الغيبةِ والنميمةِ والكذبِ والفحشِ والباطلِ، فإن العبدَ لا بد له من أن يتكلمَ، فإن لم يتكلم بذكرِ الله تعالى تكلَّم بهذه المحرماتِ، ولا سبيلَ إلى السلامة منها ألبَتَّةَ إلا بذكرِ الله تعالى، والمشاهدةُ
والتجربةُ شاهدان بذلك، فمن عوَّد لسانَه ذكرَ الله صانَ لسانَه عن الباطلِ واللغوِ، ومن يبس لسانُه عن ذكرِ اللهِ تعالى ترطَّب بكلِّ باطلٍ ولغوٍ وفحشٍ، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونفسُك إن لم تشغلْها بالحقِّ شغلتك بالباطلِ ولابد.
ومن فوائد الذكر: أنه من أكبرِ العون على طاعتِه سبحانه ،فإنه يحببُ الطاعةَ إلى العبدِ ويسهلها عليه، يجعلها قرةَ عينه فلا يجد في الطاعةِ من الكلفةِ والمشقة والعناءِ ما يجدُه الغافلُ.
ومن فوائده: أنه يسهلُ المصاعبَ وييسر العسيرُ ويخفف المشاق ،فما ذكر الله على صعب إلا هان، ولا على عسير إلا تيسرَ،ولا على شاقٍّ إلا خفَّ ،ولا على شدةٍ إلا زالت ،ولا كربةٍ إلا انفرجت؛ وذلك لأن الذكرَ يذهِبُ عن القلبِ المخاوفَ كلَّها ،وله تأثيرٌ عجيبٌ في حصولِ الأمنِ، فليس للخائفِ الذي قد اشتدَّ خوفُه أنفعُ من ذكرِ اللهِ عزَّ وجلَّ إذ بحسبِ ذِكرِه يجدُ الأمنَ ويزولُ الخوفُ ،قال الله تعالى:﴿أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.
ولقد كان بعض علماء الدين ومصابيح الدجى يجلس بعد صلاة الفجر ذاكرا لله مسبحا، حامدا شاكرا لنعمة، مستغفرا لذنبه، أواها لربه حتى تطلع الشمس فيصلي صلاة الضحى ويجلس لطلبة العلم فيقول هذه غدوتي – أي غذائي وقوتي – لو لم أتغد لسقطت قوتي، بالرغم ما كان فيه من ضيق الحال، وتكالب الأعداء ووحشة المكان، وكان بعض الصالحين يقوم الليل ويقرأ ما تيسر من القرآن فيجد من حلاوة الإيمان ولذة اليقين وانشراح الصدر ما يجعله يرقص فرحا ويقول معبرا: (إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طربا وقال آخر (إنه لتمر بي أوقات أقول إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب)، تأملوا أيها المؤمنون قول الباري سبحانه ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الأنفال: 2 – 4].
هذا وصلوا وسلموا … الدعـاء
خطبة الجمعة ليوم 05 أكتوبر 2018 ، مسجد الحسن الثاني سيدي بنور د/عبد الهادي السبيوي