كيف تكون ربانيا؟ (1)

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره،

أما بعد، فياعباد الله، يقول الله جلَّ جلاله في كتابه العزيز : (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ)، يقول الله تعالى في هذه الآية: (كونوا ربَّانيين)، وكل أمرٍ في القرآن الكريم يقتضي الوجوب ما لم تكن قرينةٌ على خلاف ذلك، يجب أن نكون ربَّانيين إذن، ولكن كيف ذلك؟.
أيها الإخوة الكرام،

إنه لجدير بنا ونحن نستقبل شهر رمضان الأبرك، شهر العبادة والتوبة والأوبة إلى الله، وشهر الاصطلاح مع الله، أن يفكر كل واحد منا كيف ينبغي الاستفادة من سيد الشهور، وإنه لاتحصل الاستفادة كما ينبغي من هذا الشهر العظيم، إلا إذا ودعناه بحول الله تعالى وقد تعلمنا من مدرسته وأخذنا منهج الربانيين من الناس، فمن هم الربانيون؟ كثيرا ما نسمع أو نقرأ أن فلانا من الناس عالم رباني، أو أن زيدا أو عمروا له أوصاف وخصائص الربانيين، وهذا ما تؤكده المصادر التي حملت إلينا أسماء الكثيرين من حملة الأمانة في تاريخنا الإسلامي على أنهم ربانيون، فمن هو الرباني حقيقة؟ وماهي أوصافه وخصائصه علنا نتصف بها ونجاهد أنفسنا من أجل ذلك خلال هذا الشهر، وبقية عمرنا ما أحيانا الله سبحانه وتعالى؟.

أيها الإخوة الكرام
إن من أدق تعريفات الإنسان الربَّاني أنه كل من كان حسن العلاقة بالله، وذكر من تعريفاته: أن الرباني هو المنسوب للرب تبارك وتعالى، والألف والنون للمبالغة، ويمكن القول بأن الرباني هو الذي يقوم في نفسه على العلم والعمل والإخلاص، وفي علاقته بالآخرين على طاعة الله بمخاطبة القلوب والعقول بكلمة الإسلام، ولا يأل جهدا في إيصال الخير للآخرين، وتربية الناس على ما يخاطبهم به من هدي الكتاب والسنة، وهي تربية بالكلمة والقدوة، قال عبد الله بن عمران: “صحبت ابن عمر رضي الله عنهما، وأنا أريد أن أخدمه، فكان هو الذي يخدمني”، وقال محمد بن الحنفية حين توفي حبر هذه الأمة سيدنا عبد الله بن عباس: ( مات اليوم رباني هذه الأمة)، وقال ابن القيم:(إن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانيا حتى يعرف الحق ويعمل به ويعلمه، فمن علم وعمل وعلم لله تعالى فذاك يدعى عظيما في ملكوت السماوات)، والحق الذي لا مرية فيه هو أن هؤلاء الربانيين يمثلون الوجود العملي في حياة المسلمين لما يهدف إليه المنهج القرآني من تربية المسلم على العلم والعمل والإخلاص في عبادة الله وطاعته وملاحظة التقوى في النية والعمل والسلوك، وهذه الصفات أيها الإخوة الكرام هي التي نفتقدها اليوم في علاقتنا بالله.

والذي ينبغي أن نعلمه أن هناك إنسان ربَّاني وهناك إنسان شهواني، فالذي يستجيب لغرائزه شهواني، والذي يستجيب لربِّه ربَّاني، يقول تعالى:”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ”،فالربانيَّة إذن حياةُ النفس، والربانية سعادةٌ أبديَّة، والربانية سلامة وسعادة في الدنيا والآخرة، وبشكلٍ أو بآخر الناس عموما رجلان؛ رجل رباني وذكر شهواني، ورجل مؤمنٌ وكافر، وخيرٌ وشرير، ومُنصفٌ وجاحد، ومخلصٌ وخائن، ومستقيمٌ ومنحرف، هذه الاثنينيَّة حقيقة واقعية، فإذا لم تكن على أحد الخطين فأنت على الآخر حتماً، يقول تعالى:”فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ”، وليس هناك حلٌ وسط، إنسانٌ عرف الله، فاتبع منهجه، وأحسن إلى خلقه، واتصل به، فسعد في الدنيا والآخرة، وإنسانٌ غفل عن ربه، وتفلَّت من منهجه، وأساء إلى خلقه، فشقي في الدنيا والآخرة، ولن تجد رجلاً ثالثاً، هذا هو التقسيم القُرآني، هذا هو التقسيم الواقعي.  
أيها الإخوة الكرام

إن من أهم خصائص الرجل الرباني توحيد الله في جميع أحايينه وأحواله، فالرباني أولاً موحِّد، والحياة الربانية أحد خصائصها الكبرى هي التوحيد، والتوحيد إفراد الله بالعبادة والاستعانة به، يقول عز وجل:” إياك نعبد وإياك نستعين”، وهي الخضوع والاستسلام لله والحب له، واجتناب الشِرك، اجتناب أن يُعبد غير الله؛ بشراً، أو جناً، أو حيواناً، أو حجراً، أو شيطاناً، أو وَلياً، أية جهة تُعبد من دون الله شركٌ، وهو مما حُرِّم على الإنسان، يقول تعالى:” أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ”، ويقول عليه الصلاة والسلام: (شر إلهٍ عُبِدَ في الأرض الهوى)، المشرِّع هو الله، والهدف والقصد هو الله، والرباني الحقيقي لايبتغي غير الله رباً، “قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ”، وأنه أيضا لا يبتغي غير رضا ربه غايةً،”قُل إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ”.

وهناك خصيصةٌ ثانية وصفة ثانية لهذا الإنسان الرباني الذي أثنى الله عليه، بل أمرنا أن نكون مِثاله، وتتجلى في الاتباع لا الابتداع، ويكاد الإسلام عند التائهين والشاردين والغافلين، والمنتفعين والمتاجرين يتقولب مع كل شيء، ويقبل كل شيء، ويهبط إلى أية مستوى، ويلبِّي أية رغبة ولو كانت خسيسة.
أيها الإخوة الكرام، الحياة الربانية حياةٌ منضبطةٌ بأحكام الشرع الإلهي، جوهر هذه الحياة الربانية حُسن الصلة بالله، صلة وثيقة بذكر الله، صلة وثيقة بحسن عبادته، يقول الله تعالى:”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً”، هذه الصلة أيها الإخوة مضبوطةٌ بأصلين اثنين: العبادة لله وحده، وأن يُعبد الله بما شرَّع لاوفق أمزجتنا وعقولنا الساذجة، سُئل الإمام الفضيل رحمه الله تعالى عن العمل الصالح ؟ فقال: ماكان خالصاً وصواباً “، قيل: ” ما خالصٌ، وما صواب ؟ “قال الخالص ما ابتغي به وجه الله، والصواب ما وافق السنة”، وشرعيَّة العبادة أيها الإخوة لا تُستمد من تحسين العقل، ولا من تزيين الهوى، بل من الوحي، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه

أما بعد،فياعباد الله، خصيصةٌ ثالثة من خصائص الرجل الرباني وهي الاستمرار في الطاعة والعبادة، والعبادة عنده ليست وَمَضات، وليست نَوْبَات، وليست مواسم، أرأيت إلى بعض المسلمين يعبدون الله في رمضان، فإذا انتهى رمضان عادوا إلى ما كانوا عليه، العبادة مستمرَّة إلى الموت، يقول تعالى:”واعبد ربك حتى ياتيك اليقين”، هناك عبادة الحج، وعبادة الصوم، هذه الشِحْنَةٌ تكفيك سنة، وهناك عبادةٌ في كل أسبوع وهي خطبة الجمعة، وهناك عبادةٌ يوميَّةٌ هي الصلوات الخمس، كل صلاةٍ تُشحن بها إلى الصلاة التي بعدها، ولكن هناك عبادةً مستمرَّة وهي أن تذكر الله ذكراً كثيرا، يقول عز وجل: “اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً  وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً”، أي بالذكر والدعاء، فالخاصَّية الثالثة من خصائص الرباني أنه مستمرٌ في عباداته، هناك عبادة العمر، وهناك عبادة العام، وهناك عبادة الشهر، والأسبوع، واليوم، لكنه بالذِكر والدعاء يعبُد الله دائماً.
أيها الإخوة المؤمنون، ومن صفات الرباني، أي إحدى خصائصه الكبرى أن منهجه يتَّسم باليُسر والسَعَة، حياة الرباني الروحيَّة على الرغم من امتدادها، وشمولها، واستمرارها حياةٌ سهلةٌ ميسَّرة، لاتكلِّف الإنسان شططاً، ولا تُرهقه عُسراً، وهو غير مكلفٍ إلا بما في وسعه، ولا مطالبٍ إلا بما يستطيع، ولكن هذا الوسع وتلك الاستطاعة حدَّدها ربنا جلَّ جلاله في قرآنه الكريم، وحدَّدها النبي عليه الصلاة والسلام في سنته المطهَّرة، قال تعالى:”وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ”، وإن منهج الإسلام منهجٌ يتَّسع للنماذج البشريَّة كلها، يتسع للظالمٌ لنفسه، وللناجي، وللمتفوِّق، يقول تعالى:” ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ، ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ”، قال بعض العلماء: هناك من الناس من يكتفي بأداء الفرائض وقد يقصِّر فيها، وهناك من يَدَعُ المحرَّمات وقد يقع فيها، هذا هو الظالم لنفسه، وهناك من يلتزم أداء الفرائض ولا يقصِّر، ويمتنع عن المحرَّمات ولا يقع فهو المقتصد، وهناك من لا يكتفي بترك المحرَّمات، بل يدع الشُبهات استبراءً لدينه وعرضه، ثم يدع المكروهات، ثم يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس، قد يدع الحلال الذي قد يجرُّه إلى الحرام، هذه مرتبة عالية جداً، والجميل جدا أنك تجد صاحب هذه المرتبة يكثر التقرب إلى الله بالنوافل، لذلك الفرائض تقرِّب إلى الله، والنوافل تدخلك في مرتبة الحُب مع الله، هذا الدين دين يُسر لا دين عسر، دينٌ واقعي، دينٌ يتفق مع الفطرة، حتَّى إن الحياة الروحيَّة تتسع للعُصاة المذنبين، يقول تعالى:”قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ”، هل انتبهتم إلى كلمة:”قُلْ يَا عِبَادِيَ”؟، هؤلاء الذين عصوا ربَّهم، وأسرفوا على أنفسهم في المعصية، خاطبهم الله عزَّ وجل ونسبهم إلى ذاته العَليَّة نسبة تشريفٍ وتعظيم، أنه أنت عبدي لمَ تعصيني؟

أيها الإخوة الكرام، الرباني لاييأس، والرباني لايقنط، والرباني واثقٌ بالله، هو قد يذنب لكنه سريع التوبة، سريع الأوبة، يكفِّر عن سيئاته بحسنات أخريات شعاره دائما وأبدا قول الله تعالى:”إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ”، لهذه الخطبة تتمة حول باقي خصائص الربانيين من الناس، وبعض أحوالهم المرضية في علاقتهم بالله والحمد لله رب العالمين.
الدعاء…

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *