عودة الحجيج

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الأولى والآخرة، له الخلق والأمر، وإليه المصير يوم الحشر، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، قضى حياته في الجهاد والعمل فما زال يعبد ربه حتى حضره الأجل، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كان كل دهرهم عبادة، وتقرب لله بأعمال البر والطاعة، وسلم تسليما كثيرا، أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون، لقد من الله علينا في هذه الأيام المباركات من هذا الشهر العظيم بمنن لا تعد ولا تحصى، فمنا من استقبل شهر ذي الحجة هذا بالتطوع بأنواع القربات والطاعات من إنفاق وصلاة وصيام وصلة للرحم ومواساة للفقراء واليتامى والمساكين، وختمنا العشر الأول منه بذبح النسك والأضاحي تقربا لله العلي العظيم الذي قال وقوله الحق: “لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم”، ومنا من وفقه الله تعالى لحج بيته بمكة المكرمة والتلذذ بزيارة قبر نبينا محمد والصلاة والسلام عليه، وها نحن في هذه الأيام نستقبل ونستعد لإستقبال ضيوف الرحمن العائدين من أكبر عبادة وهي أداؤهم لفريضة الحج، ونحن نعلم أن حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: “من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه”، وقال أيضا: “الحج المبرور ليس له ثواب إلا الجنة”، أيها الحاج ما أحسنَ فعلَ الطاعة بعد الطاعة، وما أقبَحَ فِعلَ المعصية بعد الطاعة، فالعمل الصالح بعد العملِ الصالح يستوجب زيادة ثوابِ الله عليه، والعمل السيّئ بعد الطاعة قد يبطل العملَ أو ينقص ثوابَه، فكما أنَّ الحسنات يذهِبن السيئات كذلك السيئاتُ قد يبطِلنَ الحسنات أو ينقِصنَ أجورَها، قال الله تعالى: “وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ”، وعن سيدنا معاذٍ (ض) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اتَّقِ اللهَ حيثما كنتَ، وأتبِعِ السيئةَ الحسنَةَ تمحُها، وخالِقِ الناس بخلُق حسن”، وقال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ”، أخي الحاج، يا من زكَّيت نفسك بأدائك لمناسك الحج طوافا وسعيا ووقوفا بعرفة وذكرا وتلاوةِ للقرآن وإنفاقا ودعاءا، ويا من بكيت بين يدي الله تعالى ندما على ما أسلفت، داوِم على  الطاعةِ وهَجر المعصية تفز بالرضوانِ منَ الله وتنجُوا من الخسرانِ، فإن طاعتك لله تعالى ليس لها وقت محدود، ولا تنتهي بانتهاء الأيام المعدودات، بل هي ملازمة لك حتى تخرج من هذه الدنيا على الشهادة وعلى حسن الخاتمة، قال الله تعالى: “وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ”، قال الحسن البصريّ (ح): “ليس لعبادةِ المؤمنِ أجلٌ دونَ الموت”. أيها المؤمنون، هديتنا التي نستقبل بها حجاجنا بعد أدائهم لمناسك الحج والعمرة ليست فرقا للغناء والرقص، وليست موائد للأكل والإسراف يحضرها الأغنياء ويحرم منها الفقراء، وإنما هَي نصيحتنا لهم ولأنفسنا معهم بالإكثار من حمَد اللهَ على ما منَّ به علَيهم وعلينا معهم من ترادُفِ مَواسمِ الطاعات، فمن شكَره زادَه، قال تَعَالى: “لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ”، ومن الطاعات الإلتزامُ بالعباداتِ والدَّوام على الصلوات، وإسداء الخير للعباد، وأداء الأمانات التي يتحملها الإنسان تجاه بلده وولده وإخوانه. واعلم أخي أن خير الناس من أمضى عمره في طاعة الله، سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناس خَير؟ قَال: “من طالَ عُمره وحسُن عمَله”، قال: فأيُّ الناس شرّ؟ قال: “من طَالَ عمره وساءَ عَمَلُه”، فطاعةُ الله أجرُها جزيل وأثرُها عظيم، فهي سبَب رَحمة الله، وإذَا شملَتِ العبدَ رحمةُ الله سعِد في الدنيا والآخِرة، وكلّما ازدَادَ المسلِم طاعةً ازدَاد عِلمًا وعملاً وهدًى، قال تعالى: “وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا”، وقال عز وجل: “وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ”، أخي المؤمن، بِطاعةِ الله يكثُر الرّزقُ ونُسقَى من بَرَكات السماء وينبِت لنا المولى عز وجل من برَكاتِ الأرض ويدرُّ لنا الضّرع، قال تعالى: “وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا”، في ظلِّ طاعةِ الله يُخبِت العبدُ إلى ربِّه ويَشرَح صَدرَه ويرضَى بقضائِه وقدره ويحلّ بقلبِه الأنسُ والاطمِئنان، قال تعالى: “مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً”، والمجتَمَع الذي يُقبِل أفرادُه على الطَّاعةِ تضعُفُ فيه نوازِع الشرّ ويحَصَّن من الفسَاد، ذلك أنَّ طاعةَ الله تهذّب الأخلاقَ وتزكِّي النّفوسَ وتقوِّم السّلوكَ وتروِّض الجَوَارِحَ، فيصلحُ الأفراد وتسمُو المجتمعاتُ وتسودُ الأمّة، قال تعالى: “إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ”، وقال سبحانه: “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا”، واعلم أخي أن أهل الطاعةِ يُؤتِهم الله أجرَهم غَيرَ مَنقوص، قال تَعَالى: “وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا”، وأن أهل الطاعة تُضاعَف لهم الحسنات وتكفَّر السَّيِّئات، قالَ تَعَالى: “إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا” كما أن ثواب الطَّاعة يُرَى أثرُه عِندَ السّكَرات ويَومَ العَرَصات وعندَ سُؤال مُنكرٍ ونكير، قالَ تَعَالى: “يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ”، وأهلُ الطاعة يؤمِّنُهم الله يومَ الفزَع ويظِلّهم والناسُ في شدّةٍ وخَوفٍ وهلَع، قَالَ صلى الله عليه وسلم: “سَبعَةٌ يظلّهم الله في ظلِّه يومَ لا ظِلَّ إلاّ ظلّه” وذكر صُنوفًا من أهلِ الطاعة. وفي الجنّةِ يُرافِق أهلُ الطاعَة النّبيّين والصّدّيقين والشهداء والصالحين، وما أجلَّ هذه المرتبةَ العلِيَّة، وما أعظمَ مرافقةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قالَ تعالى: “وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا”، عَن ربيعةَ بنِ كَعب الأسلميِّ (ض) قال: “كنتُ أبيتُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فأتيتُه بوَضوئه وحاجتِه، فقال لي: “سَل”، فقلتُ: أسألك مرافَقتَك في الجنَّة، قال: “أوَغيرَ ذلك؟” قلتُ: هو ذاك، قال: “فأعنِّي على نَفسِك بكثرةِ السّجود”، وهكذا أخي الحاج، فإن حجك لن يوتي ثماره إلا إذا كان موصولا بأنواع الطاعات والقربات، بعيدا عن المعاصي والمنكرات،  فاللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا و زدنا علماً، وأرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، وأخرجنا يا رب من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب.

الخطبة الثانية

فيا أيها الإخوة المؤمنون، يا من حججتم هذا العام وقبله، تذكروا أيام المناسك وتذكروا حالكم وأنتم تطوفون بالبيت، وأنتم تسعون بين الصفا والمروة، وأنتم تقفون بين يدي الله العلي العظيم يوم عرفة وأنتم ترمون الجمار وتحلقون رؤوسكم وتنحرون هديكم، ألم تكونوا في كل هذه الأحوال تعلنون التوبة والرجوع والإنابة لله رب العلمين؟، ألم تذرفوا الدموع، وتعلنوا الندم عما أسرفتم فيه على أنفسكم وأنتم موقنون أن الله تعالى يقبل توبتكم، لقد نلتم المراد، وانتهت تلكم الأيام بعودتكم إلى أوطانكم، تحملون هدية ربكم بالتوبة والمغفرة الشاملة عما سلف فانتهت تلك الأيام، وقطعتم بها مرحلة من حياتكم، لن تعود إليكم، وإنما يبقى لكم ما أودعتموه فيها من خير أو شر، ستجدونه عند من لا يضيع أجر من أحسن عملا، فلتكن توبتك أيها الحاج إلى الله توبة نصوحا، فإن الله يتوب على من تاب وآمن وعمل صالحا، وأحسن الختام فإن الأعمال بالخواتم. أخي الحاج، يا من بنيت حياتك على الإستقامة في حجك، دم على استقامتك بقية عمرك، ولا تهدم ما بنيت لنفسك بالعودة إلى المعاصي وارتكاب الآثام، فتهلك وتكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، واعلم أن من علامة قبول الحسنة إتباعها بالحسنة، وإن الرجوع إلى المعاصي بعد التوبة منها أعظم جرما وأشد إثما، وإن أمامكم ميزانا توزن فيه الحسنات والسيئات، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون. يا من أعتقه مولاه في يوم عرفة، وطهر قلبه من الأمراض والأوزار إياك أن تعود إلى الموبقات المحرمات فتسقط في المهالك وتبوء بالخسران وسوء الدار. أيها الحجاج، إن للحج المبرور أمارة، ولقبوله منارة، سئل الحسن البصري (ح): ما الحج المبرور؟ فقال: “أن تعود زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة”، فليكن حجكم حاجزًا لكم عن مواقع الهلكة، ومانعًا لكم من المزالق المتلفة، وباعثًا لكم إلى المزيد من الخيرات وفعل الصالحات، واعلموا أن المؤمن ليس له منتهى من صالح العمل إلا حلول الأجل. أيها المسلمون، ما أجمل أن يعود الحاج بعد حجه إلى أهله ووطنه بالخلق الأكمل، والعقل الأرزن، والشيم المرضية، والسجايا الكريمة، ما أجمل أن يعود الحاج حسن المعاملة لإخوانه، كريم المعاشرة لأولاده، طاهر الفؤاد، ناهجًا منهج الحق والعدل والسداد، المضمر منه خير من المظهر، والخافي أجمل من البادي، وإن من يعود بعد الحج بتلك الصفات الجميلة هو حقًا من استفاد من الحج وأسراره ودروسه وآثاره، وهنا أريد أن أنبه إخوتي الحجاج عما يتم تداوله من أخبار تتعلق سواء بالتنظيم أو بمشاكل رحلة الحج، فإن ذلك من المحبطات التي يزين الشيطان للحجاج الخوض فيها، ليفسد عليهم حجهم، وليبث الشكوك والضغينة بين الناس، وليزين لهم الغيبة والنميمة والتحدث بأعراض الناس، وكلها أمراض سلوكية واجتماعية ينبغي أن لا يخوض فيها الحجاج وكذا من يستقبل ويبارك للحجاج، “فمن عرف ما قصد هان عليه ما وجد” . ولا تنسوا إخوتي أن تسألوا الحجاج الدعاء لكم، فإن دعاءهم مستجاب، وتلقوهم بما كان سلفكم من المغاربة يتلقون به حجاجهم، وهو قولهم: “الحمد لله، والشكر لله، ما خاب عبد قصد مولاه”.  الدعاء.

خطبة الجمعة من مسجد الحسنى  عين الشق الدارالبيضاء ، بعنوان:  “عودة الحجيج”،الجمعة 19 ذو الحجة 1439 موافق 31 عشت 2018؛ الأستاذ مولاي يوسف المختار بصير

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *