ذكر الله في أيام التشريق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، الحمد لله على توالي إنعامه وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، نحمده ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشعائره، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الدال على الأعمال التي تستوجب رضوانه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر إلى يوم اللقاء به، أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون، هنيئا لنا ولكم عيد الأضحى، وتقربنا فيه للمولى عز وجل بالأضاحي وأعمال البر التي نرجو بها ذنوبنا تمحى، وأجورا تضاف في سجل أعمالنا الخالصة لوجه الله الكريم، وإننا أيها الإخوة المؤمنون نعيش هذه الأيام التي تسمى أيام التشريق، وهي الأيام الثلاث الموالية ليوم العيد الأكبر، وهي أيام غالية من أعمارنا، أمرنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نكثر فيها من ذكر الله عز وجل، فقد أخرج الإمام مسلم عن نبيشة الهذلي (ض) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل”. وسميت بذلك لأن الناس يشرقون فيها لحوم الأضاحي والهدي أي: يقددونها وينشرونها للشمس، أيها المؤمنون، في هذا الحديث سر عجيب يتلخص في أن الإنسان مرتبط بعبوديته لربه في كل حال من أحواله، وفي كل زمان من الأزمنة، فليس هناك وقت ينفك فيه المسلم عن عبوديته لربه، فكما أنه يتعبد الله تعالى في شهر رمضان بالامتناع عن الأكل والشرب حال الصيام، فإنه في هذه الأيام المباركات من شهر ذي الحجة يتعبد الله تعالى بالأكل والشرب لأمر الشارع له بذلك، فلو صام هذه الأيام لكان مأزورا غير مأجور، ما عدا من كان متمتعًا ولم يجد الهدي ففي صيامه هذه الأيام خلاف مشهور بين العلماء، كما أن في الحديث إشارة أخرى إلى أن الأكل والشرب في أيام الأعياد يستعان به على طاعة الله تعالى، لا على معصيته، لأن المأكول والمشروب من نعم الله، ونعم الله تحتاج إلى شكر المنعم، وشكر الله يتنافى مع معصيته، بل يلزم في الشكر طاعة المنعم، قال ابن رجب (ح): “وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: “إنها أيام أكلٍ وشربٍ وذكرٍ لله عز وجل” إشارةٌ إلى أن الأكل في أيام الأعياد والشرب إنما يستعان به على الطاعات، وقد أمر الله تعالى في كتابه بالأكل من الطيبات والشكر له، فمن استعان بنعم الله على معاصيه فقد كفر نعمة الله، وبدلها كفرا وهو جدير أن يُسلبها، ومن أسرار هذا الحديث أيضا أن هذه البهيمة التي ذبحت يوم العيد، قد سخرها الله للإنسان يأكلها، وهي مطيعة لله تعالى لا تعصيه، وهي مسبحةٌ له قانتةٌ، “وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ”، وإنها أيضًا تسجد لله كما قال تعالى: “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ”، بل ربما كانت أكثر ذكرا ممن تقرب بها إلى الله تعالى، فعن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “رب بهيمة خيرٌ من راكبها وأكثر منه ذكرًا”. أيها الإخوة المؤمنون، هذه الأيام أيام ذكرٍ لله تعالى، وذكر الله تعالى المأمور به في هذه الأيام أنواعٌ متعددةٌ منها: ذكر الله عز وجل عقب الصلوات المكتوبة بالتكبير في دُبرها، وهو مشروع إلى آخر أيام التشريق عند جمهور العلماء، ومن العلماء من يرى أن التكبير أيام التشريق ليس مقيدًا بأدبار الصلوات، بل هو مطلق في سائر الأحوال؛ لأن الله عز وجل خص هذه الأيام بالذكر فقال: “وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ”، فعن إمامنا مَالِكٍ أنه قَالَ: الأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ التَّكْبِيرَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ دُبُرَ الصَّلَوَاتِ، وَأَوَّلُ ذَلِكَ تَكْبِيرُ الإِمَامِ وَالنَّاسُ مَعَهُ. دُبُرَ صَلاَةِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ وَآخِرُ ذَلِكَ تَكْبِيرُ الإِمَامِ وَالنَّاسُ مَعَهُ. دُبُرَ صَلاَةِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. ثُمَّ يَقْطَعُ التَّكْبِيرَ، وقَالَ أيضا: وَالتَّكْبِيرُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. مَنْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ أَوْ وَحْدَهُ، بِمِنًى أَوْ بِالآفَاقِ، كُلُّهَا وَاجِبٌ، وَإِنَّمَا يَأْتَمُّ النَّاسُ فِي ذَلِكَ بِإِمَامِ الْحَاجِّ، وَبِالنَّاسِ بِمِنًى. لأَنَّهُمْ إِذَا رَجَعُوا وَانْقَضَى الإِحْرَامُ ائْتَمُّوا بِهِمْ. حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَهُمْ فِي الْحِلِّ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ حَاجا، فَإِنَّهُ لاَ يَأْتَمُّ بِهِمْ إِلاَّ فِي تَكْبِيرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. أيها المؤمنون، من أنواع صيغ التكبير الوارد في أيام التشريق، “الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ،الله أكبر، ولله الحمد”، في ذكر الله تعالى أيام التشريق يتحد الكون، فالملائكة، والإنسان، وجميع المخلوقات تتوحد في استغراقها للوقت بذكر الله، والمسلم الحريص على طاعة ربه، ينبغي عليه أن يعلم أن أفضل العبادات بعد ذبح النسك في هذه الأيام هي الإكثار من ذكر الله تعالى بعد أداء ما فرض عليه من الفرائض، لذا أوصيكم أيها الناس ونفسي بالإكثار من ذكر الله وتكبيره في هذه الأيام خاصة وطيلة العمر، ويكفينا أن نعلم أن الذكر هو العبادة التي لم يجعل الله لها حدا محدودا، ولا وقتا معدودا، قال الله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا”، وقال سبحانه :”والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيماً”، وقال جل شأنه: “واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون”، وقال أيضا: “فاذكروني أذكركم”. وقال سبحانه: “ولذكر الله أكبر”، وقال صلى الله عليه وسلم: “كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم”، فاللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً، و أرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه و أرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، وأخرجنا يا رب من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، و اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب، آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
أيها المؤمنون، اعلموا أن الذنوب كبائرها وصغائرها لا يمكن أن يرتكبها الإنسان، إلا في حال الغفلة والنسيان لذكر الله عز وجل، لأن ذكر الله تعالى، سبب للحياة الكاملة التي يتعذر معها أن يرمي صاحبها بنفسه في الرذائل، الموجبة لغضب وسخط الرب العظيم، وعلى الضد من ذلك، التارك للذكر، والناسي له، فهو ميت، لا يبالي الشيطان أن يلقيه في براثينه، قال تعالى:”ومن يعْشُ عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين” وقال تعالى: “ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى”، قال ابن عباس (ض): “الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله خنس”، وكان رجل رديف النبي صلى الله عليه وسلم على دابة، فعثرت الدابة بهما، فقال الرجل: تعس الشيطان فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تقل: تعس الشيطان، فإنه عند ذلك يتعاظم حتى يكون مثل البيت، ولكن قل: بسم الله. فإنه يصغر عند ذلك حتى يكون مثل الذباب”، وحكى ابن القيم (ح) عن بعض السلف، أنهم قالوا: إذا تمكن الذكر من القلب، فإن دنا منه الشيطان صرعه الإنسي، كما يصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان، فيجتمع عليه الشياطين، فيقولون: ما لهذا؟ فيقال: قد مسه الإنسي”، واعلموا أيها المؤمنون، أن الإكثار من ذكر الله، براءة من النفاق، وفكاك من أسر الهوى، وجسر يصل به العبد إلى مرضاة ربه، وما أعده له من النعيم المقيم، بل هو سلاح مقدم، من أسلحة الحروب الحسية التي لا تثلم، أيها الناس: ذكر الله تعالى أشرف ما يخطر بالبال، وأطهر ما يمر بالفم، وتنطق به الشفتان، وأسمى ما يتألق به العقل المسلم الواعي، والناس عامة قد يقلقون في حياتهم أو يشعرون بالعجز أمام ضوائق أحاطت بهم من كل جانب، وهم أضعف من أن يرفعوها إذا نزلت، أو يدفعوها إذا أوشكت، ومع ذلك فإن ذكر الله عز وجل، يحيي في نفوسهم استشعار عظمة الله، وأنه على كل شيء قدير، وأن شيئا لن يفلت من قهره وقوته، وأنه يكشف ما بالمرء إذا ألم به العناء، حينها يشعر الذاكر بالسعادة وبالطمأنينة يغمران قلبه وجوارحه قال تعالى: “الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب”، أيها المسلم: لا تخش غما، ولا تشك هما، ولا يصبك قلق، مادام قرينك هو ذكر الله. يقول جل وعلا في الحديث القدسي: “أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم”، فأكثروا إخواني من ذكر الله واجهروا به بين الملأ لتذكروهم بالذكر، وبالرجوع والإنابة إلى الله العلي القدير كاشف الهم والغم، والسابق بالنعم، في سائر الأيام والأوقات، وخاصة في هذه الأيام المباركات، أيام التشريق، لنكون جميعا من الشاكرين الذاكرين. الدعاء.
خطبة الجمعة من مسجد الحسنى، بعنوان: “ذكر الله في أيام التشريق”؛ الجمعة 12 ذو الحجة 1439 موافق 24 غشت 2018؛ الأستاذ مولاي يوسف المختار بصير