أهل التصوف وضرورة الحضور الإيجابي في المجتمع الإسلامي: السودان نموذجا

الشيخ حامد عبد الرحمن الحمدابي من السودان، عضو المجلس القومي للذكر والذاكرينبسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد الفاتح الخاتم رسول الملاحم ونبي المراحم، وعلى أصحابه الذين آووه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه.
صاحب الجلالة الملك المفدى أمير المؤمنين حامى الملة والدين محمد السادس حفظه الله ورعاه

وأقر عينه بولي عهده مولاي الحسن وسائر أفراد الأسرة الملكية الكريمة سلالة الدوحة النبوية الشريفة،

 

صاحب السماحة السيد مولاي إسماعيل بصير شيخ الطريقة الشاذلية الدرقاوية الإبراهيمية البصيرية،
حضرات السادة الكرام المؤتمرين والمؤتمرات المشاركين في هذه الندوة العلمية الصوفية العظيمة التي تشارك فيها العديد من الدول العربية والإسلامية، والمنظمة من قبل الطريقة البصيرية.
أيها الحضور الكريم، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، لقد بلغ بنا السرور أقصاه ونحن نتلقى دعوة حضور هذا المؤتمر العظيم والمشاركة في فعالياته مع هذه النخبة الكريمة المباركة من فطاحله أهل العلم والمعرفة القادمين من جميع أقطار العالم الإسلامي لنقدم مداخلتنا بعنوان أهل التصوف وضرورة الحضور الإيجابي في المجتمع الإسلامي (السودان كأنموذج).
تمهيد:التصوف الاسم والمصطلح والنزوع الفردي والحركة الجماعية في التصوف:

إن التصوف علم من علوم الملة، وليس هناك شيء حاول الأعداء أن يخوضوا فيه كثيرا كاصطلاح كلمة التصوف، ولا مشاحة في الاصطلاح، وقد برزت العلوم بأسماء لم يعرفها السلف، ولا يغير ذلك من أصليتها مثل علوم النحو والصرف وعلم أصول الفقه وعلم أصول العقيدة وعلوم الحديث وعلوم التفسير وما إلى ذلك.
التصوف منطلقه من عقيدة أهل السنة والجماعة من الأشاعرة والماتردية ومذاهب الأئمة الأربعة، والتصوف بمعانيه وأخلاقه كان موجودا في عصر النبوة، غير أنه لم يكن يسمى بذلك الاسم، فالحدث في الاسم فقط لا في المعاني.
مفهوم الإسلام الجامع لمقوماته:
إذا نظرنا في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ورجعنا إلى كتاب الأربعين النووية الحديث رقم:2، في رواية الإمام مسلم، فإننا نجد فيه ما ذهبنا إليه، بأن التصوف لا ينفك عن العقيدة الإسلامية، ويظهر ذلك جليا في حديث أمير المومنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه ويديه على فخذيه” إلى آخر الحديث، والذي سأل فيه جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان وعن الساعة، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأركان الثلاثة باعتبارها أركان الدين، لقوله صلى الله عليه وسلم هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم، ولقد عرفنا الإسلام والإيمان ولكن نقف عند ركن الإحسان.
والإحسان لغة هو ضد الإساءة، وهو مصدر من أحسن إذا أتي بما هو حسن، وفي الاصطلاح هو الإتيان بالعبادة بين مقامي الشهود والمراقبة، فعلى المسلم في جميع شؤونه الإسلامية أن يكون إما مراقبا وإما شاهدا، فالإحسان هو تزكية النفس بالتخلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل إلى أن تصل النفس إلى مقام الاستقامة: “فاستقم كما أمرت ومن تاب معك إنه بما تعملون بصير”.
وعلى حسب المبادئ العشرة في كل فن، يمكن القول إن التصوف هو علم واضعه هو الله تعالى الذي أوحاه إلى رسله وأنبيائه وألهمه إلى خواص أوليائه، وإن جبريل عليه السلام نزل بالشريعة والحقيقة معا، إذا هو علم مستمد من القرآن الكريم والسنة النبوية الطاهرة، وهو مطلوب في اصطلاح العلاقة بين العبد والخالق، والدليل على ذلك أن الكثير من الناس يؤدون العبادات من صلاة وزكاة وتلاوة، ولكن الصلة بينهم وبين خالقهم في حركاتهم فقط، وليس في أفكارهم وبواطنهم، فالتقوى هي المطلوب وهي معاملة الناس بالخلق الحسن، والتصوف هو الشعور بالله من خلال العبادات والطاعات، بأن تؤديها في اتصال تام ذاكرا لاطلاع الله عليك ورعاية أعمالك، وهو التخلي عن كل خلق دني والتحلي بكل خلق سني حتى يرتبط الإنسان بمولاه في كل فكر وقول وفعل ونية.
إن حقيقة التصوف أنه مأخوذ من أفعال النبي وأقواله، ومسلك أهل الصفة الذين قال الله فيهم: “واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا”
ويؤصل أهل التصوف لمذهبهم بأقدم سلسلة تنسب إلى الإمام علي كرم الله وجهه، فيما روي عن الإمام الطبراني في إسناد حسن أن سيدنا عليا كرم الله وجهه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، دلني على أقرب الطرق إلى الله وأسهلها عبادة وأفضلها عنده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عليك بمداومة الذكر سرا وجهرا فقال علي كرم الله وجهه، كل الناس ذاكرون فخصني بشيء، فقال صلى الله عليه وسلم: أفضل ما قلته أنا والنبيين من قبلي لا إله إلا الله، ولو أن السموات والأرضيين في كفة ولا إله إلا الله في كفة لرجحت بهم، ولا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول لا إله إلا الله، فقال علي كرم الله وجهه: كيف أذكر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أغمض عينيك واسمع مني لا إله إلا الله ثلاث مرات ثم قلها ثلاثا وأنا أسمع منك ثم افعل ذلك برفع الصوت”، وهذا أقدم السلاسل الصوفية المعروفة، ثم تتابع الناس على البيعة بين المريد والشيخ على هذا النمط.
تاريخ نشأة الطرق الصوفية:
إن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يجدوا وساما أعظم من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل لمن صحبه: الصحابة، ولما جاء أهل العصر الثاني سموا بالتابعين لما رأوا من شرف صحبة الصحابة، وجاء الذين من بعدهم فسموا بتابع التابعين، واختلف الناس بعد ذلك وتباينت المراتب، فقيل لخواص الناس الذين لهم شرف عناية بأمر الدين بالعباد والزهاد، ثم ظهرت البدع وحصل التداعي بين الفرق، كل فريق ادعى الزهد والعبادة، فانفرد خواص أهل السنة والجماعة المراعون لأنفسهم مع الله والحافظون قلوبهم من طوارق الغفلة باسم أهل التصوف، واختلفوا في أصل هذا الاسم، أوصلها البعض إلى ألف، أنسبها للبسهم الصوف.
وبدأ هذا الأمر نزوعا فرديا في أفراد الأمة أولا، وفي منتصف القرن الثالث الهجري ظهر النزوع الجماعي للتصوف،وشرع الصوفية في تنظيم أنفسهم طوائف وطرقا حتى ظهر الإمام الجنيد فجمع شتات المذهب، وقعد له القواعد فاكتسبت الطرق الصوفية مع مرور الزمن مكانة في الإصلاح والعلم حتى صارت ضمير الجماهير الحي، وأدرك الصوفيون ذلك فنظموا أنفسهم كحركة إصلاحية للمحافظة على الوطن الإسلامي، وهؤلاء الذين تخرجوا من هذه المدارس الصوفية يوصفون في أي مركز من مراكز الدولة الإسلامية، يحلون فيه يفيضون بالخير والبركة والنور على من اتبعهم واهتدى بهديهم، هذا هو التصوف الذي كان مبعثه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواده وتلاميذه كانوا أهل الصفة الذين ضربوا المثل في التحابب والتآخي فيما بينهم.
إن لأهل التصوف اجتهاداتهم ووسائلهم الخاصة التي توصل إلى المطلوب والتي استخدموها قديما ولا تزال، منها الكرم والسخاء والذكر الجماعي وتعليم القرآن لأبناء المسلمين وجمع الأوزاع والشتات من البشر وصهرهم في بوتقة الدين بلا تعصب لجهوية أو قبيلة، وكان ولازال التصوف رحما جامعا بين أهله، فسافرت الطرق الصوفية عبر القارات بلا جوازات، ونشر أهل التصوف مذاهبهم بالانكسار والكسرة (إطعام الطعام) والتسامح ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
التحديات الماثلة التي تواجه المسلمين وأهل التصوف في الألفية الثالثة على وجه الخصوص:
– العولمة:
ونعني بها البث المباشر وحركة الاتصالات العالمية من فضائيات وغيرها، ولها أثرها في استلاب المسلم مما يجعله يعيش في عالم غير العالم الذي ألفه ويدخل عليه التغيير من غير استعداد واستئذان، فتتبدل أخلاق المسلم بما يدخل عيه من لهو وغواية دنيا تحارب ما هو عليه من عدم الاكتراث لمباهج الدنيا وشهواتها فتصرفه عن ذكر الله.
– الاختراق الغربي للمجتمعات المسلمة:
وصل الغزو الغربي للإنسان المسلم في عقر داره فعمل في عمق المجتمعات وسعى إلى تغييرها من البداوة إلى الحضارة، ومن حضارة إلى انسلاخ، من منظور غربي، كما اخترق الحركات والجماعات الإسلامية ووظفها في تعميق الفرقة والشتات بين المسلمين، كما هو الحال عندنا في دارفور في السودان والصومال كنموذج لتحلل الدولة المركزية واستمرار الحرب بين المسلمين والجماعات.
– نشر الفوضى:
نظرية ما يسمى بالفوضى الخلاقة، التي تأتي بثورات غير مدروسة، تصنعها الضغوط الداخلية من فقر وعوَز، وإفقاد الثقة في الحكام والثورة عليهم، فتأتي بأنظمة ضعيفة تقع لقمة سائغة في يد أعداء الإسلام كما هي الحالة على الساحة العربية اليوم.
التحدي الذي يواجهه الوجود الصوفي، السودان نموذجا:
إن الوجود الصوفي في السودان عمره تسعمائة سنة، وأهل السودان لم يعرفوا الإسلام عبر الفتوحات بالجهاد والسيف، ولكن عرفوه بهجرات المتصوفة، والمثال الحي للمسلم المتفاني في عقيدة دينه، فكسب أهل التصوف ود أهل الإسلام والوطنيين.
وابتلي المسلمون بتيار سلفي جارف يسعى لتكفير الأمة ومحاربة القباب وهدمها، وجعل الأولوية في حرب شرك الصوفية لا لأعداء الإسلام، وهذا خطر يتهدد الطرق السودانية، التي هي أفضل من ينقل الإسلام إلى إفريقيا الآن.
وذلك أن الأفارقة يألفون الداعية المسلم الصوفي البسيط، الذي يعيش بينهم فيتأسون به سلوكا وخلقا، فيكون وسيلة لهم للدخول في الإسلام.
ومن هنا نلخص خلاصة هذه المداخلة، ذلك أن يعمل أهل الصوفية على نشر ربانية التصوف، والعمل على رعاية حقوق المسلمين الدنيوية، وأن لا يكونوا بعيدين عن المجتمع وعن النخبة الحاكمة على الخصوص، ليكونوا صلة وصل لحمل صوت المستضعفين إلى الحكام، وذلك لتجنيب الأمة الإسلامية الوصاية عليها من غير المسلمين، فحقوق الإنسان يتكلم عليها أهل الغرب ولا يتحدث عنها أهل الإسلام.
ونريد أن يكون لأهل التصوف تغييرا من أنفسهم، “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”، لا بد من استحداث الوسائل ولابد من تغيير النمط، ولابد من رعاية العصر، الزمان والمكان، فلابد من الأخذ بوسائل التحديث في التنظيمات الحديثة، كمنظمات المجتمع المدني وغيرها، وأجمل ما رأينا في ذلك تعامل الطريقة البصيرية في التعامل مع منظمات حقوق الإنسان، والمجتمع المدني، والمطلوب الآن والذي ندفع به كاقتراح أن تقوم هيئة صوفية عالمية تجمع أهل التصوف، وأن يكون هنالك روابط إقليمية وقطرية تستوعب الطرق الصوفية وتتواصل فيما بينها على مستوى القطر الواحد.
وفي خاتمة هذه المداخلة نشكر الطريقة الشاذلية الدرقاوية الإبراهيمية البصيرية على هذا الجمع المبارك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *