لمحة مختصرة عن تاريخ التصوف بجنوب إفريقيا

لي الشرف العظيم أن أكون اليوم مع العلماء والأشراف، في زاوية الشيخ مولاي إبراهيم البصير، وأنا جد سعيد بأن أمثل جنوب إفريقيا في المملكة المغربية، وأن أمثل المغرب في جنوب إفريقيا.

يبلغ تعداد جنوب إفريقيا 50 مليون نسمة، 1.8 بالمائة منهم مسلمون، وتاريخ التصوف فيها قديم.

في أبريل 1994م  تم إحياء الذكرى الثلاثمائة لعودة الشيخ يوسف التاج الخلوتي المَقَسَّاري (الأكثر شيوعا أن الشيخ يوسف من مَكاسار)، إلى جنوب أفريقيا في 1694م، وينظر معظم الباحثين ورجال الدولة والصوفية له كمؤسس لأول جماعة مسلمة بجنوب إفريقيا، كان في المنفى إلى “كيب” بسبب محاربته ضد التوسع الاستعماري الهولندي في الجزر الأندونيسية.
وكان الشيخ يوسف وخمسون من أفراد أسرته، زوجاته وأطفاله وأئمة المساجد الذين رافقوه هم المثال الأكثر تمثيلا للمجتمع المسلم في وقت مبكر بجنوب إفريقيا.

وحتى يومنا هذا، وتبجيلا للشيخ يوسف باعتباره شيخا صوفيا له كرامات مشهورة، فإن مقامه الذي يوجد على بعد ثلاثين ميلا من كيب تاون، ما زال يزار من قبل العديد من الآلاف من المسلمين، وعلى الرغم  كون الشيخ وأهل طريقته لم يكونوا في الواقع أول المسلمين، في كرون (CORNE) في جنوب إفريقيا، إلا أن له مكانته في المخيلة الشعبية بسبب مقاومته الشرسة للهولنديين، وكان الشيخ واحدا من المنتسبين للطريقة الصوفية الخلوتية.

وإن كتاباته وسمعته باعتباره معالجا مارس التداوي والرقية، زد على ذلك اشتهاره بالكرامة، كل ذلك جعل منه رمزا دينيا، وقصة الشيخ يوسف تمثل بشكل واضح تاريخ المجتمع المسلم مع النفي والطرد، خصوصا مع المضايقات التي مارسها عليه الهولنديون، فكانوا لا يسمحون له بالدعوة والإرشاد.

كان للشيخ قبول منقطع النظير، وهذا الأمر كان الهولنديون يعرفونه حق المعرفة، الشيء الذي جعل له أتباعا من بين العبيد والسود الأحرار في هذا المجتمع، فكان يغرس فيهم العقائد الصحيحة والأخلاق والسلوكات الصوفية، ويشرح لهم الطريقة الصوفية، وبالتالي استطاع أن يغرس فيهم  أسس الإسلام .

بالطبع العوامل الداخلية للمجتمع المسلم في جنوب إفريقيا، لا تقل أهمية عن العوامل الخارجية في نشوء وتطور المجتمع المسلم، سواء من حيث الكم أو من حيث الوعي الذاتي، الأهم من ذلك، أن الشيخ المذكور شيد المدارس وافتتح المساجد وجعل مؤسسات لاستقبال المسلمين الجدد مما شكل الأساس الأول لانفتاح الناس على الإسلام والإقبال عليه.

وكان خروج عالم الدين المسلم الماليزي “توان جورو” (Tuan Guru) من السجن في عام 1793م، وهو منفي من جزر تيرنيت، حدثا غير عادي في إعادة تشكيل المجتمع المسلم بجنوب إفريقيا، لقد كان لتوان جورو دور فعال في تأسيس أول المدارس الدينية وأول مسجد في كيب.

ولمن لا يعرف هذا الرجل أقول: تلقى توان جورو تعليما جيدا في الشريعة الإسلامية، وهو ضليع في التصوف وباع طويل في التخلق بأخلاقه، له كتاب “معرفة الإسلام والإيمان”، [Manifestations of Islam and Faith]، ألفه بينما كان في السجن في جزيرة روبن، وجمع بين المعرفة الشرعية وتأثره الفكري بمحمد يوسف بن السنوسي، وكان معجبا بالاطلاع على الإسهامات الرائدة في عالم الفكر الصوفي.

وفي وقت سابق من حياته تفرغ لجعل الممارسة الصوفية تنسجم مع الشرع الإسلامي، فهذب الطريقة وصفاها، وجعل لبها هو الإسلام، وذلك في القرنين السابع عشر والثامن عشر، مما أدى إلى أن تكون الممارسة الدينية بعد ذلك داخل المساجد صورة للتصوف الصافي النقي البعيد عن الخرافة، وتم له ذلك في القرنين التاسع عشر والعشرين.

وهكذا دخل العديد من العبيد إلى الإسلام على أيدي مشايخ الصوفية، لأنهم عوملوا سابقا كعبيد مسيحيين ولم يعاملوا أبدا كبشر من قبل أسيادهم المسيحيين، بينما في الإسلام وجدوا إنسانيتهم ​​ليس فقط في المساجد بل لدى أصحاب كل بيت مسلم.

في هذه المداخلة أحب أن أشير إلى موجة أخرى من التحولات عرفها المجتمع المسلم بجنوب إفريقيا، وقعت في أواخر القرن التاسع عشر، وذلك في المنطقة الشرقية من كوازولو ناتال (KwaZulu Natal) مع توافد “حضرة صاحب الصوفي” (Hazrat Sufi Saheb) من الهند في عام 1894م، وكان ينتمي للطريقة القادرية الشستية. وكانت مبادئ دعوته تتلخص في الحث على التقوى والتزام ذلك، فقد أسس عدة أماكن للعبادة، وبحلول العام 1905م وصلت بشكل مثير للدهشة إلى خمسة وعشرين خانقاه (Khankahs)- أي زاوية- في جميع أنحاء جنوب إفريقيا.

ولأكثر من مائة سنة كانت كل هذه الخانقوات –الزوايا- بمنأى من مختلف الصعوبات والمشاق التي فرضها المستوطنون من المستعمرين البيض، وشمل الميز العنصري الكثير من المؤسسات المسلمة، وفي السنوات الخمسين الماضية، دمروا تراث المسلمين وخربوا العديد من مبانيهم.

وعلى الرغم من كل هذه المصاعب، فإن بعض هذه الزوايا (Khankahs) أسست في مواقع استراتيجية ومهمة في مدينتي دوربان وكيب تاون، واستمرت في الازدهار والعطاء وساهمت بشكل حيوي في الحياة الدينية والثقافية للمجتمعات المسلمة.

ويتكلف أحفاد “حضرة صاحب الصوفي” بهذه الزوايا (Khankahs)، وكثير منهم الآن هم بمثابة الأئمة والعلماء والشيوخ في هذه المراكز.

فالحمد لله وبفضل هؤلاء المشايخ الصوفية ظل التيار الرئيسي هو الإسلام في كيب تاون وناتال حيا لفترة متواصلة ولأكثر من ثلاثمائة سنة.

حاليا لدينا في المنطقة الشرقية من جنوب أفريقيا من الصوفية البارزين، الشيخ فضل الله الحائري، وهو من العراق، وساهم في إنعاش التقاليد الصوفية وفقا للحياة المعاصرة في القرن الواحد والعشرين، وتتم قراءة أعماله على نطاق واسع، وجذب إليه المهنيين، وخريجي الجامعات، والعلماء من الشرق والغرب.

ترجمة الأستاذ ياسر الشاذلي

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *