بر الوالدين (1)
الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا واختارنا واجتبانا، ومن خلقه اصطفانا تفضلا منه وامتنانا، وأنزل القرآن هدى للناس وبيانا، وحكما بالغة وفرقانا، فقال جل وعلا: “وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه، وبالوالدين إحسانا”، نحمده تعالى ونشكره على ما أولانا سرا وإعلانا، ونشهد أن لا إلاه إلا الله، أوجب طاعة الوالدين وحرم عصيانهما وقال: ” إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما، وقل لهما قولا كريما”، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، سيد العظماء وأشرف الكرماء، وأفضل من تحت السماء، القائل: “الجنة تحت أقدام الأمهات”، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد: فيا أيها الإخوة الكرام البررة، بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفوا عن نساء الناس تعف نساؤكم، واعلموا أن بر الوالدين فريضة لازمة وواجب محتم على البنين، وعقوقهما حرام وذنب عظيم في الدارين، وقد جعل الله بر الوالدين قرين توحيده وعبادته، وبين ما يجب لهما وما لا يحل فعله معهما في كتابه المبين فقال: “وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه، وبالوالدين إحسانا، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما، وقل لهما قولا كريما، واخفظ لهما جناح الذل من الرحمة، وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا”، فشكر الله واجب شرعا وعقلا، ولله سبحانه وتعالى نعمة الخلق والإيجاد، وللوالدين نعمة الإيلاد والتربية الصالحة والعناية بالأولاد، وأعظم الناس منة وأكبرهم نعمة على المرء والداه الذان تسببا في وجوده واعتنيا به منذ أن كان حملا إلى أن صار رجلا، فأمه تحمله تسعة أشهر في بطنها تعاني به ألم الوحم وثقل الحمل، ثم تضعه كرها، تشاهد الموت وتقاسي من الأسقام والآلام ما الله به عليم، ترضعه حولين كاملين فتقوم به مثقلة، وتقعد به متقللة، تضيق في أول الحمل بالطعام والشراب أحشاؤها، وتضعف عند الوضع أعضاؤها، فحمله كره، ووضعه كره، ثم هي بعد ذلك تجوع ليشبع، وتسهر لينام، وتتعب ليستريح، وتترك كثيرا مما تشتهيه خشية أن يتغير لبنها فيمرض ولدها، وكم تعاني من الأتعاب عند فصاله ووقت فطامه، فهي به رحيمة، وعليه شفيقة، تفضل موتها على حياته، وتود لو يقبل الموت فداء فتفتدي بنفسها ولدها الذي يجهل حقها ولا يؤدي شيئا مما عليه نحوها، ناسيا أو متناسيا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:”الجنة تحت أقدام الأمهات”، وهي أحق الناس ببر ابنها وحسن صحابتها، فعن أبي هريرة (ض) قال: جاء رجل إلى النبي ص فقال: “يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال ثم من؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أبوك”، وقال رجل لعمر بن الخطاب (ض): إن لي أما بلغ منها الكبر أنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري لها مطية، فهل أديت حقها؟ قال لا، لأنها كانت تصنع بك ذلك وهي تتمنى بقاءك، وأنت تصنعه بها وتتمنى ساعة فراقها، وشتان بين القولين، أيها الأبناء البررة، أيها الإخوان تقول أسماء بنت ابي بكر الصديق (ض): قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: قدمت علي أمي وهي راغبة (أي محتاجة) أفأصل أمي؟ قال صلى الله عليه وسلم نعم صلي أمك، ويذكر في عقوق الأم بصفة خاصة من الوعيد الشديد ما لا يقدر قدره إلا إنسان رشيد، فعن عبد الله بن أبي أوفى (ض) قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه آت فقال: شاب يجود بنفسه (أي يموت) فقيل له: قل لا إله إلا الله فلم يستطع، فقال صلى الله عليه وسلم: أكان يصلي؟ فقال نعم فنهض صلى الله عليه وسلم ونهضنا معه فدخل على الشاب فقال له: قل لا إله إلا الله، فقال لا أستطيع قال لم؟ قال كان يعق والدته، فقال صلى الله عليه وسلم: “أحية والدته؟ قالوا نعم قال ادعوها فدعوها فجاءت فقال لها صلى الله عليه وسلم أهذا ابنك؟ قالت نعم، فقال لها أرأيت لو أججت نار ضخمة فقيل لك إن شفعت له خلينا عنه وإلا حرقناه بهذه النار أكنت تشفعين؟ قالت يا رسول الله إذن أشفع قال: فاشهدي الله واشهديني أنك قد رضيت عنه، قالت: اللهم إني أشهدك وأشهد رسولك أني قد رضيت عن ابني، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فقالها فقال صلى الله عليه وسلم: “الحمد لله الذي أنقذه من النار”. هذه منزلة الأم، أيها الإبن البار الذي يرجو البر ودار القرار، أما الأب فيجد ويسعى ويكد ويتعب في طلب العيش وتحصيل النفقة للأولاد، يظل نهاره في مشقة، ويبيت ليله في يقظة، يساعد الأم على التربية، فيهز بطفله المهد إذا بكى، ويحاول دفع الأذى عنه بكل ما أوتي من قوة، ولا يبخل عنه بشيء من طاقته، ولذلك أمر الله بطاعة الوالدين وبرهما جزاءا لهما على ما صنعاه و مكافأة لهما على جميل ما فعلاه، ومن أجل ذلك جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد فقال له صلى الله عليه وسلم: “أحي والداك؟ قال نعم، قال صلى الله عليه وسلم ففيهما فجاهد”، وهاجر إليه رجل من أهل اليمن فقال له صلى الله عليه وسلم هل لك أحد باليمن؟ قال: أبواي فقال صلى الله عليه وسلم أأذنا لك؟ قال لا قال صلى الله عليه وسلم: ارجع إليهما فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما”، جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب. آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
روي أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أبي أخذ مالي ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم اذهب فاتني بأبيك، فلما جاء الأب قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال ابنك يشكوك؟ أتريد أن تأخذ ماله؟، فقال الأب: سله يا رسول الله، وهل أنفقته إلا على عماته وخالاته أو على نفسي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم دعنا من هذا، أخبرني عن أي شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك، فقال الأب، والله يا رسول الله ما يزال الله يزيدنا بك يقينا، لقد قلت في نفسي، شيئا ما سمعته أذناي، فقال صلى الله عليه وسلم قل فأنا أسمع، فقال الأب: غَذَوتُـك مولـودًا وعلتُك يـافعًا ** تُعلّ بِمـا أَجْنِي عليك وتنَهلُ *** إذا ليلـةٌ نابتـك بالشَّجْو لَم أبت ** لشكواك إلا ساهـرا أتَململُ *** كأنِّي أنـا المطروق دُونَك بالـذي ** طُرِقْتَ بـه دُونِي فعينِي تَهْملُ *** تَخـاف الردى نفسي عليك وإنّنِي ** لأعلمُ أن الموت حتمٌ مؤجـلُ *** فلمـا بلغت السّنَّ والغـايةَ التِي ** إليها مدى ما كنتُ فيك أُؤمّل *** جعلـت جزائـي غِلظةً وفظـاظةً ** كأنك أنت الْمنعـمُ المتفضـلُ *** فليتَـك إذ لَم ترْعَ حـق أبـوّتِي ** فعلتَ كما الجارُ الْمجاور يفعلُ. أيها الإخوة المؤمنون، من كان له أبوان فليهنأ بهما، وليحرص عليهما، وليسعَ جهده في إرضائهما، لأنه أوتي سعادة الدنيا والآخرة، والوالدان تاج لا يراه إلا الأيتام، ومن فقد أحدهما فقد خسر نصف السعادة، فليحرص على نصفها الآخر قبل أن يزول، ومن فجعه الدهر بهما فلا ينساهما من دعواته، وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم. فإن الحياة دين ووفاء، وكما تدين تدان. ولنا عودة إلى هذا الموضوع في الجمعة المقبلة إن شاء الله. الدعاء.