حماية الدين الإسلامي للطفولة واهتمامه بالنهوض بحقوقها

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.

أما بعد فيا عباد الله، يقول الله تعالى في كتابه الكريم:”الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا”. وروى أبو داود عن أنس رضي الله عنه قال: “خدمتُ النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين بالمدينة وأنا غلامٌ ليس كل أمري كما يشتهي صاحبي أن أكون عليه، ما قال لي فيها أُفٍّ قط، وما قال لي: لمَ فعلتَ هذا، أو ألا فعلتَ هذا”.

أيها الإخوة الكرام، إن من المواضيع الهامة التي تستحق التوقف عندها والتذكير بأهميتها، مايتعلق بحماية الدين الإسلامي للطفولة واهتمامه بالنهوض بحقوقها، هذه الشريحة من المجتمع التي تعتبر من نعم الله تعالى بين أيدينا، ومِنَنه الغاديةٌ والرائِحة علينا، فقد جاءت شريعة الله راعيةً للطفولة حقَّها، مُحيطةً بحقوق الطفل المعنوية والحِسِّيَّة، من حين كونه جنينًا إلى أن يبلغ مبلغ الرجال.

لقد اخترت الكلام في هذا الموضوع أيها الإخوة والأخوات رغم أن الطفولة والأطفال ليسوا في حاجةٍ للتذكير بحقهم واستثارة المشاعر نحوهم ولفت الانتباه إليهم؛ لأن الفطرة داعية لذلك، والطبع مُنساقٌ وميَّالٌ كذلك، لكن وبكل أسى؛ فرغم كثرة ما أنتَجَتْه الحياة المعاصرة من خيرٍ، إلا أن ثمَّةَ سلوكيات وظواهر سلبية يعاني منها الأطفال لم تعُد خفيَّة على أحد، أصبَحنا نشهدها ونراها في مجتمعنا في كل يوم وليلة وفي كل صباح ومساء، ووجب إذن الإقلاع عنها.

أيها الإخوة الكرام، إنه تحت ضغوط وإكراهات الحياة اليومية، وكثرة الأمراض النفسية، والجرأة على تعاطي المُؤثِّرات العقلية؛ وُجِد فئةٌ من الآباء والأمهات نقص الحب في قلوبهم، وظهرت القسوة في تصرفاتهم اتجاه الأطفال، فاستُلِبَت إنسانيتهم، وكان أول ضحايا ذلك هم الأطفال، فكم بين جُدران البيوت وأسوار المدارس من طفولةٍ مُنتَهَكة، وبراءةٍ مُغتالة، يتعرَّضُ الأطفال في صورها للضغط النفسي، والعنف البدني، والتعذيب الجسدي، ترى ذا الخمسة والستة والسبعة أعوام يعنف ويعامل بهمجية ووحشية، مع غياب العطف والحنان والرحمة، وسلاحُ الطفل الوحيد هو البكاء والصراخ والأنَّاتٌ المتقطِّعة، والزَفَراتٌ المُتحشرِجة.

وكم يحدث في المجتمع من أمثال هذه الانتهاكات، وكم تُمارَسُ هذه الوحشية داخل البيوتات، ولا يشعر بها جيرانٌ ولا أهل؛ فقد أساء آباء لأطفالهم، ولم يسلَموا حتى من أذيَّة الخادمات والمساعدات في المنازل، وعاش من عاش منهم مُشوَّه الإنسانية، مُتَّشِحًا بالعدوانية، له مستقبلٌ قاتِم، وربما احترف الجريمة والانحراف فخسِر نفسه ثم خسِرَه المجتمع.

أيها الإخوة الكرام، يجب التفطُّن للصغارِ، وخاصة لأبناء من ابتُلُوا بمرضٍ نفسيّ، أو تورَّطوا بمُؤثِّر عقليّ؛ لأن الطفل المعنَّف والمعذَّب والمعتدى عليه حين تجتمع به، لا تسمع منه تعبيرًا يكشِف ما أصابه، وفي هذا المقام يؤكد علماء النفس أن الطفل المعذَّب وإن عجِز لسانُ مقاله عن الشكوى فإن لسان حاله سينطِقُ بالكثير، والصغير لا يَنسى، وجراحُ الطفولة لا تندمِل.
ومن تجليات مآسي الطفل في مجتمعنا، مايعرف بالخلافات الزوجية؛ فعندما تحدث هذه النزاعات، ويتعمدُ كلٌّ من الأب والأم الإساءة إلى الآخر، تحت مرأى ومسمع من أطفالهم، فتجد الأطفال يسمعون ويشهدون الإساءة اللفظية من الأب لأمهم، أو الإهانة المعنوية من الأم لأبيهم، أو الاعتداء الجسدي من أحدهما على الآخر؛ فإذا حدث هذا فاعلموا بأن حقوق الطفل انتهكت بالمرة، والطفولة في هذه الحالات أصبحت في هباء، وساعتها عُقدٌ نفسية تنمو في خفاء، ويخبُو وهَجُ الحياة لدى الطفل، وبالتالي تظهر عدم مُبالاته بالتعليم، ويُعتِم المستقبل في ناظرَيْه، ألم يكن في الإمكان أن نُشيحَ بأبصار الصغار ونصرِف علمهم عن العلاقة السلبية بين والديهم، فيعيشوا في بيئةٍ نقية، ونفسيةٍ رضيَّة؟.

وفي حال حدوث الطلاق والانفصال بين الأب والأم تظهر مسألة نفقة الأطفال، وزيارتهم لأحد الوالدين، وكم وكم في هذه الحالات من صورٍ مِدادُها الأسى، وألوانها العناء؛ مع أن الله تعالى يقول:” لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ”، وكم وكم من طفلٍ غُيِّب عن أمه ولا ذنب له إلا خلافٌ لم يكن طرفًا فيه، ولكنه عُوقِب به، والنبي  صلى الله عليه وسلم يقول فيما أخرجه الإمام أحمد:” من فرَّق بين والدةٍ وولدها فرَّق الله بينه وبين أحبَّته يوم القيامة”، فبأيِّ ذنبٍ يُحرَم الطفل حنان أمه أو لقاء أبيه وهو بَضعةٌ منهما؟، ولا غِنى له بأحدهما عن الآخر، مهما فعل الأول، يجب أن يُمكَّن الطفل من رؤية والدَيْه، ومن الاتصال بهما متى أراد دون مُحاسبةٍ أو مُضايقة، ولا يجوز بحالٍ أن يكون الانفصالُ بين الوالدين داعيًا لأن يُربَّى الطفل على عقوق أحدهما أو عدم الإحسان إلى الآخر، وكم وكم من أبٍ يتحايلُ في تقليل نفقة أولاده، أو الهروب منها، لا لشيء إلا ليغيظ أمهم؛ فكيف يرجو برَّ أولاده بعد ذلك، ويتأمَّل دعاءهم وصدقتهم عنه حين يكبرون؟
أيها الإخوة الكرام، ومن صور الإساءة المنتشرة في غالبية البيوت، الصياحُ والصراخُ في وجه الطفل، وتهديده وتخويفه، وكثرةُ مُعاتبته وتعنيفُه، وهذا مما يتساهلُ فيه الآباء والأمهات، والمُربُّون والمُربِّيات، ويتصرَّفون بمشاعرهم الغاضبة دون إدراكٍ للعواقب المُدمِّرة لنفسية الطفل، والتعنيفُ والتخويفُ يُورِث شخصيةً مهزوزة، ونفسيةً مُضطربة، ألا فاتقوا الله في وصيته يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ، وليتق الله كلٌّ في رعيَّته؛ فكلٌّ مسؤولٌ ومُحاسَب، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد فيا عباد الله، ورد في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه كان  يُصلِّي وهو حاملٌ أُمامة ابنة بنته زينب رضي الله عنهما، ويُصلِّي وهو حاملٌ الحسن ابن ابنته فاطمة  رضي الله عنهما، وحين سجد عليه الصلاة والسلام  فركِبَ الحسن على ظهره أطال لأجله السجود، وحين سُئِل عن ذلك قال:” إن ابني هذا ارتحَلَني، فكرهتُ أن أُعجِلَه حتى يقضي حاجتَه”، تأملوا في هذا المشهد الرائع، لم تمنعه صلى الله عليه وسلم، خشيتُه لربه ولا وقوفه بين يديه من ملاطفة الصغار ومراعاة مشاعرهم.

أيها الإخوة الكرام، لقد برزت العناية بالجانب النفسي والمعنوي بالطفل في سيرة نبينا سيدنا محمد  صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته؛ فقد كان يُمازِح الصبيان، ويُآكِل الأطفال الأيتام، ويمسح على رؤوسهم، وقال:” ليس منَّا من لم يرحَم صغيرنا”، وأمر بكفِّ الصبيان عن اللعب بعد المغرب حين انتشار الشياطين، واستعجَل في صلاته حين سمِع بكاء طفل، ونهى أن يُفرَّق بين الأَمَة وولدها في البيع، بل وسِعَت شريعته صلى الله عليه وسلم حتى أولاد البهائم؛ فأمَر من أخذ فراخَ طائرٍ أن يرُدَّها، وقال:”من فجِعَ هذه بولدها؟”، كما ورد النهي عن التفريق بين الشاة وولدها، حتى إنه صلى الله عليه وسلم حفِظ حق الجنين، وإن كان نطفةً حرامًا، فأمر المرأة التي زَنَت أن تذهب حتى تضعَ طفلَها،

أيها الإخوة الكرام، اعلموا أن خطأ الأطفال مغفور، وذنبهم معفوٌّ عنه، الله قد رفع عنهم قلم التكليف، فارفعوا أنتم عنهم أساليب التعنيف، قِفُوا بين العنف والضعف في موقف الحزم، واقدُرُوا لحداثة السن ومحبة اللهو قدرَها، وإذا كان الطفل لا يُضرَبُ على الصلاة وهي عمود الدين إلا وهو في العاشرة من عمره وبعد أن يُؤمَر بها مئات المرات؛ فكيف يُضربُ ابنُ سنتين وثلاث، وابنُ خمسٍ وسبع على شقاوةٍ فطرية، أو لهوٍ بريء؟، لهذه الخطبة تتمة لاحقة بحول الله تعالى، والحمد لله رب العالمين.

 

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *