خطر التبرج 2
الحمد لله، الحمد لله الذي أوجد الخليقة من العدم، وأنشأها وقام بأرزاقها وكفاها مناها، وأظهر لها طريق رشدها وهداها، نحمده تعالى على نعمه التي لا تتناهى، ونشكره شكر من عرف نعمة ربه فرعاها،
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من عرف معناها، وعمل ظاهرا وباطنا بمقتضاها، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، أرسله إلى الأمة فهداها، وبالقرآن العظيم علمها ورباها، على آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون،
في الجمعة الماضية، وقفنا وقفة صغيرة للتأمل في آية كريمة، وعي قول المولى عز وجل في كتابه المكنون: (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)، وذكرنا بتفسير الجاهلية الأولى عند المفسرين وفي عمل الصحابة والصحابيات الذين عاصروا نزول القرآن الكريم، قال ابن حيان: “كانت تُلقي الخمار على رأسها ولا تشده، فتظهر قلائدها وقرطها، ويظهر قرطُها وعنقها، هذا التبرج الذي كان في الجاهلية الأولى”، وقال ابن كثير: “ربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها، وأقرطة أذنيها”،
واليوم أقص عليكم أيها الإخوة المسلمون، أيتها الأخوات المسلمات، قصة ذكرها أحد علمائنا المعاصرين للعظة والإعتبار، يقول: كتبت امرأةٌ قصةً قصيرةً تقول فيها: “مرضت مرضاً شديداً بعد خلع ضرسٍ، قاسيت منه آلاماً مبرحة حرمتني طعم النوم والأكل شهراً كاملاً، إذ لم يكن يكفّ وقعُ الألم لحظةً ليلاً أو نهاراً، وزاد الورم حتى كاد خّدِّي ينفجر، وامتد إلى عنقي ورأسي، وأغلق جَفْنَيْ عينَيّ، فحار في أمري الجرَّاحون والأطباء، وعجز الطب وعز الدواء، وقُطع الأمل بتاتاً من الشفاء، وإذا بيد الله الكريمة تمتد وتمسح المرض والورم، وتمحو على مهلٍ الجرح وتصرف الورم، فوقف الأطباء مدهوشين من هذه المعجزة، وقالوا خاشعين: حقاً إن الله القدير الرحيم يحيي العظام وهي رميم، فعاينت تفاهةَ الخَلق، وعجْزَ من ادعى العلم، وأدركت أن الخالق سبحانه أبر وأرحم بعبده من كل إنسان”، قالت: “وفي أثناء مرضي عادتني سيدةٌ فاضلة، وقالت لي مجاملة: إنكِ لا تستحقين كل هذا العذاب، أنت السيدة المؤمنة المُصَلِّيَة الحاجة لبيت الله الحرام، فماذا اقترفتِ من آثام حتى تُعاقبي بهذه الآلام؟ قالت: فصرخت قائلةً: لا تقولي ذلك، فإن الله لا يظلم الناس شيئاً، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، إنني آثمة أستحق كل هذا العذاب، هذا الفم الذي أدَّبه الله بالمرض والألم كان يُصْبَغ، وكان لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، وهذا الوجه الوارم كان يتجمَّلُ بالمساحيق، وهذا الجسم الطريح كان يتبرَّج بالثوب الأنيق، وهذه الهامة المتألمة المتأججة بنار الحمى كانت لا تحجب بالنقاب كما أمر الله، وهي الآن تحجب قهراً باللفائف الطبية، لم اختمر بخمار الاحتشام فخمرَني الله بخمار الآلام، جَمَّلْتُ فمي ووجهي بالأصباغ والأدهان، فصفعهما الله صفعة العذاب والهوان”، قالت صاحبتها: إنكِ لم تفعلي إلا ما يفعله غيركِ، بل وأقل مما يفعله غيركِ، فكل النساء يتبرجن، ويتجملن أكثر منكِ، وهاهُن يرتعن في بحبوحة الصحة، ويرفُلْنَ في حُلَلِ السعادة، فقلت: “هذا من فضل ربي عليّ، وحبه لي، ورحمته بي، فإذا أحب الله عبداً ابتلاه، وطهَّره بعذابه وربَّاه، ثم إذا أراد ساق له العافية ونَجَّاه، ففاز بجزاء الصبر، وحظي بفضيلة الشكر، وسعد بالتوبة والطهر، فشكراً لله على هذا الدرس النافع، وهذا الألم الشافي الناجع، وهذا العقاب المؤدِّب الرادع، وهذا المرض المُهَذِّب اللاذع، إن الله سبحانه وتعالى يأمرني بعمله، بفعله بهذا المرض، بعد أن أمرني بكتابه، إن لم أستجب لكتابه استجبتُ لفعله، فكيف لا أشكره على هذه العناية؟ وكيف لا أطيع من يرعاني هذه الرعاية ؟ وهكذا شُفيت من مرضي ضعيفة الجسم قوية الإرادة، ضعيفة الهوى قوية الصبر، وفهمت ما قاله الله لي بهذا المرض، وما سكبه بقلبي بلا ألفاظ، وما صوره لعيني فرآه عقلي جلياً وضاحاً.
فهمت كيف يجب أن يُحاط رأسي ووجهي بالخمار، كما مثله الله لي، وأن يدعو فمي ولساني بالشكر خوفاً وطمعاً، فكنت بعد مرضي غير ما كنت قبله، وكانت أعظم نعمةٍ علي أن جعلتني أقهر هوى نفسي وصبرت يومي، وأصبحت أغنى وأقنى من أمسي”.
إخوتي المؤمنات، هذا درس عظيم لمن يعتبر، فهذا الوجه، وهذا الجمال الذي منحه الله للمرأة، إن لم يحجب بالنقاب ربما حُجِبَ باللفائف الطبية، ويرحم الله أختا من بلدنا هذا بهرتها المدنية الزائفة، والحضارة المخالفة لشرع الله، حتى ابتليت بالمرض وكان سببا لتوبتها، وكتبت كتابا تحت عنوان فلا تنس الله،
جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب. آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
أختي المسلمة، إن أشراراً مِن الّنّاسِ جَعَلوُكِ هَدفاً لِجُهودِهم، وغَنيمةً لِحُرُوبِهم، وصَيْداً ثَمِيناً في شِباكِهم، واختَارُوا لِهَذِه الحَربِ مَيداناً غَيرَ مكشوفٍ، وأسلحةً لا رِمَاحَ فيها ولا سُيوفَ، وقَدَّمُوا إليكِ سُمومَاً نَاقِعةً في لسانٍ عَذْبٍ مَعسُول، دفعوا بك باسم الحضارةُ وبالتفتح على العالم ليكيدوا لك، ويطعنوك في شرفك وعفتك، لَقد استعملوا فِي حَربهم ضدكِ حِيلاً ومكراً عظيماً كي يَصِلوُا ألى أن يُداس طُّهرُك وعفافُك تَحتَ أقدامِهم، وصَاروا يَعبثون بأعَراض المؤمنات التَّي صَانَها الإسلامُ، حتى إذا ما بَلغُوا غَايتهَم في ذِلك فهُتِكَ عِرضٌ وكُشِفَ سِترٌ وتَلوّث َطُهرٌ، رمَوا بكِ على حافةِ الطريق والتفُتوا يبحثُون عَنْ مخدُوعةٍ أُخرى!
أختي المؤمنة، إنَّ ربَّكِ أكرمَكِ بالحِجابِ كي تَقطعي الطريَقَ أمَام كُلِّ عابثٍ مَاكرٍ وأمَرَ الرجالَ بغضِّ الطَّرفِ عَنكِ لِتسلمَ القُلوبُ وتحيا الفضيلةُ ويَعِزَّ الطُّهُرِ، وتبقين مُكرَّمةً مُبجَّلةً كما يُريدكِ الإسلام، وإنَّ العيونَ الخادعةَ لتُخذَلُ وتنكسرُ إذا رأتكِ بجلبابِ الحياء وإنَّ أَماني العابثينَ لتتلاشى إذا ما رَأتْ عليك سياجَ الفضيلةِ الحصِين، وكمْ نَرى في حَياتِنا منْ نهاياتٍ مُحزنةٍ، وقِصِصٍ مُفجعةٍ لِمنْ أسلمتْ نفسها إلى ذئب لئيمٍ تَزيّنَ بزيّ الوفيّ الكَرِيمِ، ولِمَنْ خُدعتْ بالأسلوبِ الناعمِ الرقيق حتى إذا نِيلَ من عِرضِها وقُتِلَ عَفافُها نُودي أنْ أمِيطوا الأذى عن الطريق، وأبعدوها عنا.
أختي المتحجبة، أيتها الشابة المسلمة، هلاَّ سألتِ نَفْسك ِلِمَ يحرصُ هؤلاءِ على أنْ تُلقي جلبابَ السترِ والحَياءِ؟ إنهم يريدون الرجوع بك إلى جاهلية أشد وأكبر من الجاهلية الأولى، ذكر الألوسي في تفسيره قول الزمخشري: “يجوز أن تكون الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام فكأن المعنى ولا تحدثن بالتبرج جاهلية في الإسلام تتشبهن بها بأهل جاهلية الكفر”، قال: “والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم”.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، وأكثروا من الصلاة والتسليم على أشرف الورى وسيد لمرسلين.
الدعاء…