ذكرى مولد رسول الله
الحمد لله، الحمد لله الذي الحمد لله الذي أضاء الكون بنور الرسالة، وهدى الإنسانية إلى الحق وسواء السبيل بعد التيه والضلالة،
وبعث في الناس رسولا من أنفسهم يحرص على خيرهم ويطهرهم مما تخلقوا به من جاهلية وسفاهة، نحمده تعالى ونشكره شكرا جزيلا يوافي نعمه، ويدفع عنا نقمه،
ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ختم به النبوة والرسالة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون والمومنات،
إنه كلما هل علينا هلال ربيع الأول من كل عام تحل معه ذكرى مولد رسول الهداية والنور والسلام، وأعظم شخصية بعث لتبليغ رسالة رب الأنام، سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، أرسله الله رحمة للعالمين، ورسولا إلى الناس أجمعين، شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فتح الله به عيونا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، ورفع الله ذكره فقرب بينه وبين اسمه في كلمة التوحيد التي يكون بها الإنسان مسلما، تلك الكلمة التي هي الحد الفاصل بين الإيمان والكفر، إنها كلمة التوحيد، لا إله إلا الله محمد رسول الله، والتي قال عنها صلى الله عليه وسلم: “أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله”،
هذا الرسول الذي جعل الله المناداة باسمه جزءا من الأذان الذي يكرر في كل يوم خمس مرات بصوت مسموع تتجاوب به الصوامع (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله، والله يرزق من يشاء بغير حساب)، رجال يتعارفون لله، ويتحابون في الله، ويتعاونون على البر والتقوى الذين أمر بهما الله، ولا يتعاونون على الإثم والعدوان ومعصية رسول الله،.
ذلكم الرسول الذي خلد الله ذكره في كتابه المكنون فذكره باسمه الصريح: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم)، وذكره بوصف العبودية لله فقال: (سبحان الذي أسرى بعبده)، وذكره بعظمة خلقه، (وإنك لعلى خلق عظيم)، وذكره برحمته للعالمين، وذكره بأنه المزكي للنفوس المعلم للكتاب والحكمة، فقال عز وجل: (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا، ويزكيكم، ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون)،
كما ذكره بالتبشير والإنذار وبأنه شهيد على أمته يوم يبرز الناس لله الواحد القهار، وبأنه صاحب المقام المحمود والحوض المورود، كما جعل محبته من محبته، وطاعته من طاعته، وعصيانه من عصيانه، فقال: (من يطع الرسول فقد أطاع الله، ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا)، وهكذا تلمع هذه الذكرى المجيدة المحببة في كل موطن من مواطن الإسلام وفي كل بيت يشرق فيه نور الإيمان، عقيدة وعبادة وقدوة واهتداء، تلهج بها ملايين الألسنة والشفاه في مشارق الأرض ومغاربها كلما أذن مؤذن أو أجاب مجيب أو صلى مصل أو آمن مؤمن أو تلا قارئ أو حدث محدث، أو خطب خطيب.
هذه هي الذكري ، وهذا هو الخلود الذي أراد الله تعالى أن يبقى في الوجود. أيها المسلمون، إن إيمان السلف الصالح بهذه الذكرى وبصاحبها محمد صلى الله عليه وسلم كان إيمانا عمليا بالأفعال قبل الأقوال، وبالقلوب والأرواح قبل الصور والأشباح، وكان تضحية بالدماء وبالأموال وبالأهل والأولاد وبالمتاع والنعيم وبكل لون من ألوان التضحية والإيثار، والجهاد في سبيل إعلاء كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله،.
آمنوا بنبيهم، وأحيوا ذكرى رسولهم لا بما نعرفه اليوم ونشاهده، وإنما عن طريق إتباعه واقتفاء أثره، وإحياء سنته، والتحلي بأخلاقه، وإقامة شرعه والتمسك بما جاء به، والتواصي على ذلك في كل حين، لأن (الذكرى تنفع المؤمنين)، واعلموا إخواني أن الإيمان الحق يثمر المحبة، والمحبة الصادقة لها حقوق وعليها تبعات، فمن حقوقها المتابعة للمحبوب، والرضا بما يرضيه، والغضب لما يغضبه، ومن تبعاتها تحمل المشاق من أجلها، والتضحية بكل غال ونفيس في سبيل الوصول إليها، قال تعالى: (قلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ).
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: “هذه الآية حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه تلك حتى يتبع الشرع المحمدي في جميع أقواله وأفعاله”، هذا ما عبر عنه القرآن في قوله عز وجل: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).
هكذا كان شأن المؤمنين الأولين يوم كان الإيمان قويا في النفوس، ومتمكنا من القلوب، كانت الذكرى متجلية في كل شيء، في الأقوال والأفعال، وفي الحركات والسكنات، وفي جميع شؤون الحياة، الفردية منها والجماعية، السرية والعلانية، الدنيوية والأخروية، أساسها القرآن الكريم الذي كان دستور الحياة، وينبوع العز والقوة والتقدم والسعادة في جميع المجالات، قال الله تعالى: (إنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً).
هكذا كان شأن السلف الصالح، أولئك الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، كانت جميع أيامهم وجميع أوقاتهم وجميع أعمالهم ذكريات خالدات متجردة متتابعة لهذا الرسول الأمين، وكانت حالتهم مثالا صادقا ومرآة صافية ترى منها سيرته وشريعته وأخلاقه صلى الله عليه وسلم للناظرين الذين عرفوا حقيقة قوله صلى الله عليه وسلم: “لا يومن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به”، وظل المسلمون على ذلك إلى أن ضعفوا واستكانوا وانطفأ هذا النور الإلهي العظيم من قلوبهم، وفرغت بصائرهم من أسراره التي كانت تقودهم نحو ما يرضي خالقهم، حتى لم يبق لهم اليوم من هذا النور إلا صور مرسومة يرجعون إليها كلما عاودتهم الذكرى ، وكلما حل شهر ربيع الأول من كل عام، (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
جعلني الله وإياكم من الذين يرعون حقوقهم ويؤدون واجباتهم، ويمتثلون أمر ربهم ونبيهم، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه أمين، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا ينبغي الحمد إلا له، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبوة والرسالة، وعلى آله وصحبه وكل من انتمى له، عباد الله ، من اتقى الله فاز برضى مولاه ومن جاءته موعظة من ربه فانتهى فأجره على الله، أما بعد فيا أيها الإخوة المسلمون والمسلمات، إن العاقل منا والباحث في الكتاب والسنة عن طريق السعادة والنجاح في الدنيا والآخرة لا يجد آية أو حديثا كيفما كانت درجته أن القول المجرد عن العمل موصلا لهما، وإنما الطريق الصحيح السليم منوط بالقول والعمل معا، لذلكم نجد القرآن الكريم يعيب على القوالين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فقال الله عز وجل: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ؟ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ).
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فعالا قبل أن يكون قوالا، كان فعله أكثر من قوله، كان معلما للخير بفعل الخير، وكان داعيا للفضيلة بالفضيلة، وكان قدوة في أعماله وأسوة بأفعاله، كان يتوضأ ويقول لأصحابه: “توضؤوا كما توضأت”، ويصلي ويقول لهم: “صلوا كما رأيتموني أصلي”، وكان يحج ويقول لأصحابه: “خذوا عني مناسككم”، وكان يقول: “لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به”.
كان صلى الله عليه وسلم شجاعا في الحق كأتم ما تكون الشجاعة، لا تأخذه في الله لومة لائم، ولم يكن صلى الله عليه وسلم شجاعا بالقول فقط، وإنما كان شجاعا بالفعل ، وعن شجاعته صلى الله عليه وسلم يقول علي كرم الله وجهه: “لقد كنا إذا حمي الناس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن تلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم وعو أقربنا إلى العدو، وكان الشجاع منا هو الذي يقرب منه”.
ولقد كان صلى الله عليه وسلم يشترك مع أصحابه في كل ما يفعلون من شؤون الدنيا والدين، وكان يضرب لهم الأمثال بما بفعل، ويثير في قلوبهم حماسة الإيمان وحب العمل الصالح الذي يعود على صاحبه بالأجر الكثير والثواب الجزيل (يوم تاتي كل نفس تجادل عن نفسها، وتوفى كل تفس ما عملت وهم لا يظلمون).
هذه لمحة موجزة عن السيرة العملية والقولية لرسول الأمة المحمدية، نذكر بها أنفسنا وأجيالنا الذين لهم الحق علينا، بهذه الذكرى العطرة لعلنا نعود إلى ما كان عليه سلفنا الصالح من السير على المحجة البيضاء التي تركنا عليها صاحب الذكرى محمد بن عبد الله عليه سلام الله.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، وأكثروا إخواني أخواتي من الصلاة والتسليم على أشرف الورى وسيد المرسلين.
الدعاء…