أصناف الناس في التعاون وأهم النماذج الخالدة في ذلك
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى، وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، تتميما لما بدأناه في خطبة الأسبوع الماضي بطرقنا لموضوع أهمية التعاون والتضامن في الإسلام، بقي أن أتوقف وإياكم عند بعض النقاط المهمة المتمثلة في أصناف الناس ودرجاتهم في التعاون، وعند عرض لأهم نماذج التعاون والتضامن من حياة الأنبياء والمرسلين والصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين، وذلكم لعلنا نغير سلوكياتنا نحو الأحسن وننخرط في كل عمل كبير جاد يروم إحياء صور التضامن والتعاون التي عرفها ويعرفها مجتمعنا باستمرار.
أيها الإخوة الكرام، إن الناس ليسوا على درجة واحدة في مد يد العون للغير، وذلكم يرجع لعدة أسباب، أذكر منها تفاوت الناس في درجة قوة الإيمان بين إنسان وآخر، ومنها تفاوتهم في محبة تصدير الخير للغير، ومنها التفاوت الحاصل في تزكية النفس بين الناس، فمن غلب نفسه وشيطانه وهواه ليس كمن هزم من قبل نفسه وشيطانه وهواه، قال العلامة الماورديُّ رحمه الله: “تنقسم أحوال مَن دخل في عداد الإخوان أربعة أقسام: منهم مَن يعين ويستعين وهو مشكورٌ في معونته، ومعذورٌ في استعانته، فهذا أعدل الإخوان، ومنهم مَن لا يعين ولا يستعين، وهذا متروك قد منع خيره وقمع شرَّه، فهو لا صديق يُرْجَى، ولا عدوٌّ يُخْشَى، ومنهم مَن يستعين ولا يعين، وهذا لئيم ومهين فلا خيره يُرْجَى ولا شرُّه يُؤْمَن، ومنهم مَن يعين ولا يستعين، وهذا كريم الطَّبع، مشكور الصُّنع، وقد حاز فضيلتي الابتداء والاكتفاء، فلا يُرى ثقيلًا في نائبة، ولا يقعد عن نهضة في معونة، فهذا أشرف الإخوان نفسًا وأكرمهم طبعًا”.
نعم أيها الإخوة الكرام هكذا حالنا وأحوالنا وهذه درجاتنا وأصنافنا عندما ندعى لتقديم يد العون في عمل خيري تضامني اجتماعي يعم نفعه، ولكي تدركوا هذه الأصناف وتفاوتها في فعل الخير يكفي أن أضرب المثال التالي: قد يدعى أحدنا للمشاركة في نشاط للتبرع بالدم مثلا، وقد حباه الله صحة وعافية وسلامة جسدية لاتضاهى، ولديه مايكفي من الوقت ليشارك في مثل هذا العمل المثالي، فيمنع نفسه ويمنع غيره من التبرع، وتحدثه نفسه وشيطانه ليقول للناس مثلا: إني لن أتبرع بالدم لأنهم يبيعونه للمحتاجين له، وهو بهذا الكلام يمنع نفسه ويثبط غيره عن فعل الخير، يقول هذا الكلام وهو لايعلم التكلفة المالية الحقيقية للأشواط التي يقطعها الدم عندما يأخذ من شخص سليم، حيث يخضع للتحليلات والمعالجات المختلفة قبل أن يعطى لآخر؟
أيها الإخوة الكرام، تأملوا في هذا النموذج العظيم للتعاون الذي سأذكره لكم، أمر الله سبحانه وتعالى إبراهيم عليه السَّلام ببناء الكعبة، فقام إبراهيم عليه السَّلام استجابة لأمر الله، وطلب مِن ابنه إسماعيل أن يساعده على تنفيذ هذا الأمر الإلهي، ويعينه في بناء الكعبة، فقال له يا إسماعيل، إنَّ الله أمرني بأمرٍ، قال: فاصنع ما أمرك ربُّك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإنَّ الله أمرني أن أبني هاهنا بيتًا، وأشار إلى أكمةٍ مرتفعةٍ على ما حولها، قال فعند ذلك رفعا القواعد مِن البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان:” رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ”، فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان: “رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ”، تأملوا أيها الإخوة والأخوات إبراهيم عليه السلام أمر ببناء بيت في مكان خال فلم يسأل لماذا أبني؟ ولم يسأل وما الفائدة من ذلك؟ طلب من ابنه سيدنا إسماعيل أن يعينه في البناء، فلم يسأل لماذا وما الفائدة؟ همة شخصين كانت كافية في بناء حضارة دامت آلاف السنين، وهاأنتم ترون اليوم قمة الحضارة والعمران والملايين التي أصبحت تحج لهذا البيت وما حوله.
وتأملوا في الصَّحابة رضوان الله عليهم، فهم أحسن مثال يُحْتَذى بهم في التَّعاون، كانوا كخليَّة النَّحل في تكاتفها وتعاونها، وكالجسد الواحد إذا اشتكى منهم عضو تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمَّى، وفي الوقت الذي كان فيه أبو عبيدة بن الجرَّاح وسعد بن أبي وقَّاص، وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص رضي الله عنهم يفتحون مصر والشَّام والعراق، كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم يسوسون النَّاس، ويرعون شؤونهم، وكان معاذ بن جبل وابن عبَّاس وابن عمر رضي الله عنهم يعلِّمون النَّاس، ويفتونهم ويربُّونهم، وكان أبو هريرة وأنس وعائشة رضي الله عنهم يحفظون الحديث ويروونه، وكان أبو ذرٍّ وأبو الدَّرداء يعظون النَّاس والحكَّام وينصحونهم، فتعاونوا ولم يتعايبوا.. وتناصروا ولم يتدابروا رحمة الله عليهم، واستطاعوا بذلك المساهمة في بناء دولة دامت مئات السنين، ألا وهي دولة الإسلام، هكذا ينبغي أن نكون نتعاون على الخير ونعمل بإخلاص ونراقب الله تعالى، كل في الموقع الذي أقامه الله فيه، فإذا اتحد إخلاصنا نستطيع حينئذ بناء مجتمع متماسك قوي الأركان.
ومِن تعاون الصَّحابة أيضًا موقفهم العظيم في قصَّة سلمان رضي الله عنه عندما كاتب سيِّده، وكان فقيرًا لايملك ما كاتب عليه، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم للصَّحابة:” أعينوا أخاكم”، فأعانوه، حتى تحرَّر مِن رقِّه، وأصبح حرًّا في قصة شيقة معبرة مليئة بالمواعظ جديرة بالاطلاع، أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم من أهل التعاون والتضامن على الخير أمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.