الوفاء من أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله القائل في محكم الذكر الحكيم: “لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عندتم  حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم”، نحمده تعالى ونشكره على ما أولانا من نعم وهو العلي العظيم، ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو رب العرش الكريم، “أرسل رسوله محمداصلى الله عليه وسلم داعيا لكل خلق كريم، وأمرنا بالتأسي به  والسير على منهاجه القويم، وقال وهو أصدق القائلين: “لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة” ، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الممدوح بقوله تعالى: “وإنك لعلى خلق عظيم”، كان يفتخر بتأديب الله له وتربيته على مكارم الأخلاق فقال: “أدبني ربي فأحسن تأديبي” صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، الذين نهلوا من مدرسته الشريفة، وتخلقوا بأخلاقه العظيمة، وسلم تسليما كثيرا، أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون والمومنات، خطبة اليوم نغوص من خلالها في أحد أخلاق حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو خلق الوفاء، والوفاء كما عبر عنه بعض العلماء هو الإخلاص ،الذي لا غدر فيه ولا خيانة، وهو البذل والعطاء بلاحدود، وتذكّر للــــود، ومحافظة على العــــــــهد، وهو صفة جميلة وخلق كريم ينبغي على كل انسان أن يتحلى به، ولن يترقى المسلم في مراتب الإيمان إلا إذا كان وفيًّا، وهو من أعظم الصفات الإنسانية، فمن فُقِد فيه الوفاء فقد انسلخ من إنسانيته، والوفاء الحقيقي لا يأتي إلا من قلبٍ طاهر، تدفعه النيه الطيبة الخالصة، والوفيّ الصادق يحفظ الجميل ولا ينساه ولو بعد عشرات السنين، وهو مِن شِيَم الفضلاء، وأمارةٌ على سموِّ النّفس وحُسنِ الخُلق، وقد كان خلقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وسار عليه إلى أن توفاه ربه، فعن عبد الله بن أبي الحمساء، قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ببيع قبل أن يبعث، وبقيت له بقية، فوعدته أن آتيه بها في مكانه، فنسيت، ثم ذكرت بهد ثلاث فجئت، فإذا هو في مكانه، فقال: يا فتى، لقد ضيقت علي، أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك”، وعن أنس(ض): “كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بهدية قال: “اذهبوا بها إلى بيت فلانة، فإنها كانت صديقة لخديجة، إنها كانت تحب خديجة”. إن الرسول صلى الله عليه وسلم، لم ينسَ العهد لزوجه خديجة بنت خويلد (ض) بعد موتها،  حفظ عهدها، ولم ينسَ تلك الأيام التي عاشت معه تقول أمنا عائشة (ض): ما غرتُ على أحد من نساء النبي ما غرتُ على خديجة، هلكت قبل أن يتزوجني وما رأيتها، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاءً ،ثم يبعثها في صدائق خديجة، فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن، تقول عائشة (ض) فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأةٌ إلا خديجة؟ فيقول لها صلى الله عليه وسلم: “إنها كانت وكانت، وكان لي منها الولد”، وتقول عائشة (ض): كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة لم يكن يسأم من ثنائه عليها واستغفاره لها، فذكرها يوماً، تقول (ض): فحملتني الغيرة، فقلت: لقد عوضك الله من كبيرة السن، قالت: فرأيته غضب غضبا، أُسقطتُ في خلدي، وقلت في نفسي: اللهم إن أَذهَبْتَ غضب رسولك عني لم أعد أذكرها بسوء، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما لقيت، قال: “كيف قلت؟ والله لقد آمنت بي إذ كذبني الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، ورزقت منها الولد، وحُرمتموه مني، قالت عائشة (ض): فغدا وراح عليّ بها شهرا”، لقد مر شهر كامل يروح ويغدو على عائشة (ض) في شأن خديجة ،مع أنها قد ماتت وفارقته لكنه لا يرضى أبداً أن يكلمه أحدٌ في تذكره لها، وحفظه ورعايته لعهدها وعشرتها التي كانت بينهما في سالف الأزمان، قال النووي (ح):في هذا الحديث دلالة بحسن العهد، وحفظ الود، ورعاية حرمة الصاحب والمعاشرة حياً وميتاً، بل وإكرام معارف ذلك الصاحب. ولهذا كان عليه السلام يكرم حتى معارف وصواحب خديجة حباً لها، ورعاية لعهدها، فيرسل إليهن ما يكفيهن من الطعام. ومرة استأذنت هالة بنت خويلد (ض) وأصل القصة في الصحيحين -أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرف استئذان هالة لشبه الصوت بينهن، فتذكر خديجة قالت عائشة: فارتاع لذلك، أي فزع، وفي رواية: فارتاح لذلك أي سروراً بسماع صوت يشبه صوت خديجة، فقال: “اللهم هالة، أي اللهم اجعلها هالة، وعائشة تنظر لهذا التغير في النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: فغرت، وقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش، حمراء الشدقين قد سقطت أسنانها، وقد أبدلك الله خيراً منها. فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، فعرفت عائشة وقالت: والذي بعثك بالحق لا أذكرها بعد هذا إلا بخير”، ومرة جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأحسن استقبالها، فقال لها: “كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فلما خرجت، قلت يا رسول الله تُقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة إنها كانت من صواحب خديجة، وإنها كانت تأتينا زمان خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان”. أيها الإخوة المؤمنون، إن وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن منحصرا في أهله وذويه، بل امتد إلى أقوام لم تكن بينه وبينهم علاقة مباشرة، بل معاملتهم كانت لصحابته صلى الله عليه وسلم، فعن أبي قتادة (ض) قال: وفد وفد للنجاشي فقام النبي صلى الله عليه وسلم يخدمهم فقال له أصحابه نكفيك، فقال صلى الله عليه وسلم: “إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين وإني أحب أن أكافئهم”.  عن أبي الطفيل (ض) -وهو عامر بن واثلة، أدرك النبي صغيرا وهو آخر من مات من الصحابة (ض)- قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا غلام إذ أقبلت امرأة حتى دنت منه فبسط لها رداءه فجلست عليه فقلت من هذه قالوا أمه التي أرضعته. والأمثلة على وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لا تعد ولا تحصى، نكتفي بهذا القدر منها، جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب. آمين وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية

يا أيها الأخوة المسلمون: على هذا الخُلقِ العظيم من الوفاء تربى الصحابة (ض)، فالنبيّ صلى الله عليه وسلم لما قُبِض قال أبو بكر للصحابة: من كان له عِدَةٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أو دَينٌ فليأتِني، قال جابرٌ  (ض): فأتيتُه فقلتُ: إنّ رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال لي: “لو قد جاء مالُ البحرَين أعطيتُك هكذا وهكذا وهكذا”، فلم يجِئ مالُ البحرَيْن حتى قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فحثَا لي أبو بكر من مال البحرَيْن لما جاءه حثيةً فعدَدتُها، فإذا هي خمسمائة، فقال لي: خُذ مثلَيْها. متفق عليه. وأنفذَ أبو بكر (ض) جيشَ أسامة بنِ زيد (ض) على شدّة حاجة أبي بكر للجيش بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: لا أترك أمرًا رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يصنعه إلا صنعتُه. وهكذا كان دأب الصحابة والتابعين ومن ساروا على نهجهم، تيقنوا أن الوفاء عربون للمحبة الصادقة، فجعلوه عملة يتبادلونها بينهم، فأيننا نحن اليوم أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات من هذا الخلق العظيم، وهل تأسينا فيه بنبينا صلى الله عليه وسلم وصحابته؟ لابد أن نراجع أنفسنا، وننظر كم ضيعنا من الحقوق، بسبب عدم وفائنا لأن بهذا الخلق، توصل الأرحام، وينال بر من مات من الوالدين، وتحفظ الحقوق، ويستمر الود، وتدوم المحبة بين أفراد المجتمع، وليس هذا غريبا عن المغاربة الذين دأبوا وتربوا على هذا الخلق، واللذين أحيوا بالأمس ذكرى 11 يناير 1944 وفاء لمن كان لهم الفضل في المطالبة باستقلال بلادنا، واعترافا لهم بهذا العمل الوطني الجبار. ألا فلنبادر جميعا لإحياء هذا الخلق، خلق الوفاء، مع آبائنا وأمهاتنا، وأزواجنا، وأصحابنا، وأحبتنا، ووطننا، ولنختم هذه السلسلة من احتفالنا بمولد الرسول كما بدأناها بالصلاة والسلام عليه. الدعاء

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *