خطبة التطرف والغلو في الدين أسبابه وتجلياته
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك وأشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله خير نبي أرسله أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، روى الإمام البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: “بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْسِمُ قِسْمًا؛ أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: يَارَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ فَقَالَ وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ، قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَأونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ”، وأخرج الإمام أحمد وغيره، قال: قال: الرسول صلى الله عليه وسلم: “أيها الناس إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين”.
أيها الإخوة الكرام، كنت وعدتكم في إحدى الخطب الماضية ببسط الكلام حول إحدى أهم الإشكاليات المؤرقة في أيامنا هذه، ويتعلق الأمر بالتغيرات التي حصلت في تدينات المجتمعات الإسلامية ومنها مجتمعنا المغربي، مما يجعل الكثير من الناس مشوشين في تدينهم، وأصبح العديدون منهم لايدرون أتدينهم صحيحا أم باطلا؟، حيث كثر الاختلاف حول القضايا الجزئية الاجتهادية والفروع الفقهية، وظهر بيننا من ينظر، بل يطبق فهما جديدا للدين، إلى أن ابتلي أهل المجتمع بالغلو في الدين، الذي سرعان ما تطور فأصبح تطرفا، ثم تطور فصار إرهابا في شبه حكاية متشابكة متسلسلة لها أولها وآخرها، وهي مناسبة لنعرف كيف حصل هذا التغير في تدين المجتمعات الإسلامية؟ وأسباب ذلك وتجلياته؟ وكيف السبيل إلى تحصين أنفسنا ومجتمعنا من هذا الاختراق؟
أيها الإخوة الكرام، إذا تأملتم في تدين مجتمعنا قبل الثمانينيات، ستلاحظون بأن كل شيء كان على مايرام، كان أهل مجتمعنا مرتاحون وموحدون في طريقة تدينهم على المذهب المالكي الذي عرفوه وعرفه علماؤهم وأجدادهم منذ قرون، يصلون ويصومون ويعبدون ربهم بطريقة واحدة موحدة، ولايوجد من ينتقدهم أو يلاحظ عنهم أو يطلب منهم التدين على طريقة مغايرة على مذهب آخر دخيل عليهم غير معروف عندهم ..ولكن أتعلمون ماذا حصل؟ وكيف حصل هذا التغيير؟ أقول في الجواب: إنه مخطط ذكي محكم لأعداء الدين لتفرقتنا وتمزيق وحدتنا وشملنا للوصول إلى إضعافنا والسيطرة علينا، فمامن عاقل متبصر في هذا العصر إلا ويعلم أن الإسلام هو المستهدف من خلال الأحداث المختلفة التي تسمعون عنها، سواء منها ماقرب أو بعد، وأن الإسلام هو المستهدف من خلال الشعارات التي ترتفع…ومن المعلوم لكل عاقل أيضا أن السلاح الاستراتيجي الأول الذي يستعمل بادئ ذي بدء للقضاء على الإسلام إنما هو سلاح التفرقة، إنما هو سلاح تأليب المسلمين بعضهم على بعض، ولعب أعداء الدين الدور الأول في تجربة تفتيت المسلمين، وتحويلهم إلى فئات متصارعة، وسخروا لذلك ثلاثة مشاريع مخربة، الأول وهو ما يعرف بفرقة القاديانية، وتم غرسها في ناحية الهند وما حولها، والثاني، وهو ما يعرف بفرقة البابية والبهائية، وقد تم غرسها في ناحية مصر وفي جهات من جنوب شرقي آسيا، والثالث، وهو فرقة الوهابية، وتم غرسها في الجزيرة العربية، عودوا إلى ماكتبه المستشرقون الغربيون حول هذا الموضوع، لتقفوا على الاعتراف الصريح والصارخ بهذا الأمر، وأخص بالذكر ماكتبه المستشرق لورانس في أعمدة الحكمة السبعة…
أيها الإخوة الكرام، بعد أن عرفنا هذا فماهي الأسلحة التي استعملوها لتفريق المسلمين بعضهم عن بعض؟ إنها أسلحة القضايا الجزئية الاجتهادية، هذه بدعة لاتفعلها، إذن أنت كافر إن فعلتها، هذه ضلالة، إذن أنت ضال إن فعلتها، وهذه شرك، إذن أنت مشرك إن فعلتها، وهكذا ابتلي مجتمعنا بجماعات أطلقت على نفسها تسميات متعددة جديدة لم يكن يعرفها الناس من ذي قبل، كاسم أهل السنة والجماعة، أو أهل الحديث، أو الفرقة الناجية، أو الطائفة المنصورة، أو الهادية إلى الصراط المستقيم، أو السلفية أو الوهابية، وغيرها من التسميات التي تعرفونها..هؤلاء الناس أنكروا على أهل مجتمعهم الكثير من المسائل التي تدخل تحت إطار القضايا الجزئية الاجتهادية، كمسألة الصلاة بالسدل، وقراءة القنوت في صلاة الصبح، والمصافحة والدعاء بعد الصلاة، وقراءة الحزب الراتب، والدعاء الجماعي، ورفع الأيدي عند الدعاء وإحياء مناسبة المولد النبوي، وقراءة القرآن على الأموات، والأكل من طعام الميت والذكر في السبحة، وغيرها من المسائل الكثيرة، فظهر بناء على ذلك في مجتمعنا الغلاة في تكفير المسلمين، وتنافرت قلوب أهل المجتمع الواحد الذين يرتادون المسجد الواحد، وابتعد بعضنا عن عقيدة أهل السنة والجماعة، وظهر التعصب في الدين للمذاهب الشاذة، وظهر في مجتمعنا المتتبعون لرخص المذاهب، المنادون للأخذ بها، وظهر من يقول بأن مذهبه القرآن والسنة فقط دون أن يعي المغزى من ذلك، وظهر اهتمام غير مسبوق بدعاة الفضائيات على اختلاف عقائدهم ومشاربهم وأفكارهم دون التأكد من كفايتهم العلمية ومن صلاحهم ومن مذهبهم، وما لذلك من تداعيات، وأصبحنا نجد من يصر على ترك المرجعية الدينية المشهورة في بلاده في مجال الفتوى، وظهر فينا من يدعم داعش والإرهاب ويسترخص روحه في سبيل الضلال المبين، وظهر وظهر..،هذه هي الوسائل التي تم بها تفريق المسلمين.. ، أسأل الله عز وجل أن يبصرنا بعيوبنا وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله، أمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله تم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد فياعباد الله، روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:”يَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي قَوْمٌ يُسِيئُونَ الْأَعْمَالَ، يَقْرَؤونَ الْقُرْآنَ لَايُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، قَالَ يَزِيدُ: لَا أَعْلَمُ إِلَّا قَالَ: “يَحْقِرُ أَحَدَكُمْ عَمَلَهُ مِنْ عَمَلِهِمْ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ، ثُمَّ إِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ، ثُمَّ إِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ، فَطُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ، وَطُوبَى لِمَنْ قَتَلُوهُ، كُلَّمَا طَلَعَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قَطَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَرَدَّدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِشْرِينَ مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ، وَأَنَا أَسْمَعُ”.
نعم أيها الإخوة والأخوات، هكذا حصل للكثير من أبناء جلدتنا في تنفيذ مخطط الأعداء وهم لايدرون أنهم جنود من جنودهم لتنفيذ مخططهم في مجتمعهم، هكذا بدأت حكاية الغلو في الدين في مجتمعنا، وهكذا انتهت إلى تبني التطرف والإرهاب ودعمه من أجل تخريب المجتمع المسلم وإضعافه.
فعند التمعن في الذي حصل ويحصل نجد بأنها عملية سرقة للدين تمت في الخفاء دون أن يشعر بها المسلمون كما ذكر العديد من العلماء، وذلكم أن الممارسة الدينية التطبيقية العملية في العديد من المجتمعات، ونتيجة لتأثيرات أصحاب المذاهب الدخيلة على المجتمع، استبدلت وغيرت بسلوكات جديدة ومظاهر غريبة في الشكل والمظهر والصورة، كاللباس والمظهر الخارجي، وأصبح التركيز على ذلك أكثر من التركيز على تحصيل القلب السليم، وحسن المعاملة مع الغير التي يحض عليها ديننا، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال في المتفق عليه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه:”إِنَّ اللَّهَ لايَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ”، وروى الإمام الطبراني عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَنَّةَ أَنَّهُ سَمِعَه يَقُولُ:”بَدَأَ الإسْلامُ غَرِيبًا، ثُمَّ يَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى للغُرَبَاءِ”، لهذا الموضوع تتمة، أسأل الله عز وجل أن يحفظنا من الفتن ماظهر منها وما بطن أمين والحمد لله رب العالمين .