نماذج لسلوكات محرمة في التعامل مع المال العام
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد، فياعباد الله، روى الإمام البخاري والإمام مسلم وغيرهما عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: “استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من أبي أسد يقال له ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا لي أهدي لي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه ثم قال: اللهم هل بلغت؟ “، قال العلماء في شرح الحديث:” وفي هذا الحديث بيان أن هدايا العمال حرام وغلول، لأنه خان في ولايته وأمانته.
أيها الإخوة الكرام، في بعض الخطب الماضية تكلمت عن ظاهرة الرشوة والتلاعب بالمال العام، وأنه أخطر داء يهدد المرافق العمومية، ونبهت حينها إلى وجوب الانتهاء عن التعامل بالرشوة، واختلاس المال العام أو الاستهانة به أو إتلافه، وبقي أن أتوقف عند نماذج لسلوكات محرمة في التعامل مع المال العام، وذلكم لأن من أكبر معوقات عملية التنمية في أي مجتمع فشو الفساد الإداري.
بداية قد يتساءل البعض عن ما يتلقاه كثير من منسوبي المؤسسات العامة أو الخاصة من عمال وموظفين على اختلاف طبقاتهم الوظيفية من الأموال والفوائد سواء كانت بمسمى الهدايا أو التمليكات العينية أو النقدية، وما يمنحه من التسهيلات أو الخدمات لأجل عمله من غير رب العمل؟، أقول في الجواب: تواطأت الأدلة على أن الأصل في كل ما يستفيده العامل أو الموظف عدم الجواز، وفي ذلك تفصيل، روى الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “هدايا العمال غلول”، ولعظم شرها وصفها بعض أهل العلم بأنها أصل فساد المجتمعات، وفي هذا إبطال كل طريق يوصل إلى تضييع الأمانة بمحاباة المهدي لأجل هديته، وكل هدية لموظف ليس للوظيفة أثر في حصولها فهي جائزة، وفي هذا المقام يجدر بنا التفريق بين الرشوة وبين الهدية، ويتجلى ذلك في أمرين: الأول في القصد، فمقصود الرشوة التوصل إلى إبطال الحق وإحقاق الباطل، أما الهدية فمقصودها المودة والإحسان والمكافأة، والفرق الثاني هو الشرط، فالرشوة لا تكون إلا بشرط وطلب من الآخذ، أما الهدية فلا شرط معها.
ومن السلوكات المحرمة في التعامل مع المال العام أيضا، الذين يجيزون لأنفسهم أخذ أشياء لأنفسهم أو لبيوتهم من مكان عملهم الغير التابع لهم، سواء كانت قليلة أم كثيرة، ذات أهمية أم تافهة، فهذا أيضا يدخل تحت المال المحرم الذي لايحل لك إلا بإذن من مالكه، ولا أظنني في حاجة إلى التطويل بذكر أمثلة للسلف الصالح في التورع عن الاستفادة من المال العام دون وجه حق.
أيها الإخوة الكرام، ومن متفرعات هذا الموضوع، أنه عندما استفحلت ظاهرة الرشوة في المجتمع واستحكمت وأصبحنا نعدها أمرا طبيعيا في التعامل بيننا، وأصبح الكثير من الأفراد لايستوفون حقوقهم إلا بأدائها، وإذا لم يؤدوها تعطلت حقوقهم، ففي هذه الحالة ينبغي أخذ العلم بأن مايدفعه الناس لايعده الكثير من العلماء رشوة، وإنما يعدونه ابتزازا عند الحاجة، هذا الابتزاز الذي يحسن بنا جميعا أن لانرضخ له إلى أن تختفي ظاهرة الرشوة من حياتنا بشكل نهائي، نعم أيها الإخوة والأخوات يحصل هذا إذا ابتليت المرافق العمومية ببعض أصحاب النفوس والقلوب المريضة الذين تعودوا على تعطيل مصالح الناس لأتفه الأسباب، رغبة منهم أن يفهموهم أنه بدون رشوة لايمكن أن يحصلوا مقصودهم.
ويظن مبتزو الناس خطأ أنهم يحققون مصالحهم وسعادتهم بجمع تلك الأموال المحرمة بتلك الطريقة التي تعرفونها، وهم إنما يجرون في حتف أنفسهم وهلاكهم وتعاستهم اليوم في الدنيا وغدا في الآخرة.
أيها الإخوة الكرام، وقريب من هذه السلوكات المحرمة شرعا، أن يوكلك المرفق الذي تعمل معه لحضور اجتماع مهم أو إجراء صفقات مربحة أو قرعة مصيرية أو اختبارات شفافة وغير ذلك مما هو قريب من ذلك، وترضى لنفسك بأخذ رشوة أو هدية كي لاتكون نزيها وموضوعيا، وتحابي وتجامل وتداري لمصلحة زيد أو عمرو لأنه تقرب منك بشيء، لقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث سيدنا عبد الله بن رواحة رضي الله عنه إلى خيبر فيخرص بينه وبين اليهود، والخرص يعني تقدير ماعلى النخل من التمر، فجمع له اليهود حليا من حلي نسائهم، وقالوا: هذا لك وخفف عنا وتجاوز في القسم، فقال عبد الله بن رواحة: يا معشر اليهود: والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلي، وما ذلك بحاملي على أن أخفف عليكم، فأما ما عرضتم علي من الرشوة فإنها سحت، وإنا لا نأكلها، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض”.
وتجدر الإشارة هنا بأن كلمة السحت أيها الإخوة الصالحون تعني كل حرام قبيح الذكر وكل ما خبث من المكاسب، وهو سبب ذهاب البركة، وآكل السحت يتعرض لمختلف الآفات والأمراض والعلل، وبصفة عامة للفقر المادي والمعنوي، نسأل الله السلامة والعافية، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،
أما بعد فياعباد الله، رَوى الإمام ابنُ حِبَّانَ والإمام الترمذيُّ في جامِعِه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ :”لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ، عَن عُمُرِه فيما أفناهُ وعن جسدِهِ فيما أبلاهُ وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيما أنفقَهُ”.
أيها الإخوة الكرام، يعدّ المال من زينة الحياة الدّنيا، وهو وسيلةٌ هامّة لتحقيق حاجات الإنسان وتلبيتها، فبدون المال لا يستطيع الإنسان شراء طعامه وشرابه واحتياجاته اليوميّة المختلفة، والإنسان عموما يمتلك في نفسه نوازع حبّ المال، فتراه يسعى لكسبه بوسائل شتى، قد تكون حلالا وقد تكون حراما، وقد تكلّم الله سبحانه وتعالى عن حبّ الإنسان للمال، فقال سبحانه وتعالى: ” وتحبّون المال حباً جمّاً”، إلا أنّ ديننا وضع ضوابط لكسب المال الحلال وجمعه وحثّ الله عباده بالسّعي في الأرض من أجل ذلك، فالرّزق الحلال يبارك الله تعالى لعباده فيه ويمحق المال الحرام، وينبغي أن نعلم بأن المال يعد وسيلةٌ وليس غاية في حد ذاته، فمن جعله غايةً له أصبح عبداً له، والله تعالى أمرنا بالتّزود بزاد التّقوى فهو خير زادٍ للآخرة.
بقي أن أقول في الختام بأنّه ينبغي أن نستحضر على الدوام قول الله عز وجل:” بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره”، وذلك من أجل تقوية المراقبة الذاتية لدينا في التعامل مع المال العام، واستحضار غضب الله تعالى بالابتعاد عن كل ما من شأنه أن يعرضنا لعقابه وسخطه ولعنته ومحاسبته، فنعمل في حدود الضوابط الشرعية في صرف المال دون تبذير أو إسراف، وفي تحصيله دون ظلم أو ابتزاز أو سلوك سلوك محرم، نفعني الله وإياكم بكتابه الكريم، وبحديث سيد الأولين والآخرين وأجارني وإياكم من عذابه المهين، آمين والحمد لله رب العالمين.