داء الطمع والجشع
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا،
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله،
أخرج الإمام الطبراني عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إياكم والطمع فإنه الفقر الحاضر وإياكم وما يعتذر منه”، وعن ابن عباس قال: قيل يا نبي اللَّه، ما الغنى؟ قال: اليأس مما في أيدي الناس، وإياكم والطمع، فإنه الفقر الحاضر”، وروى الطبراني عن عوف بن مالك أنه خرج إلى الناس فقال: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أمركم أن تتعوذوا من ثلاث من طمع حيث لا مطمع، ومن طمع يرد إلى طبَع، ومن طمع إلى غير مطمع”.
أيها الإخوة الكرام، إن من أعظم العيوب القادحة في عبودية الإنسان لربه داء الطمع في المخلوقين، وهو أصل لكثير من الآفات والمشاكل في مجتمعنا، لأنه محض تعلق بالناس والتجاء إليهم وعبودية لهم، وفي ذلك من المذلة والمهانة ما لا مزيد عليه، والطمع في الشيء دليل على الحب له وفرط الاحتياج إلى نيله.
وإن المتمعن في أحوال الكثير من الناس في المجتمع يجد سلبيات ومساوئ الطمع متجلية عليهم بشكل واضح، فلولا الطمع والحرص ما وجد في المجتمع داء الحقد والحسد وأنواع الإساءات بين الناس بعضهم لبعض، ولولا الطمع ما قامت الكثير من الخلافات والخصومات والصراعات، ولولا الطمع ما كانت السرقات والاختلاسات والاحتيالات، ولولا الطمع ما استهتر بعض أصحاب الحرف والمهن بالناس وعملوا على ابتزازهم واستغلالهم من أجل تحقيق الغنى السريع.
والطمع أيها الإخوة الكرام سبب لدخول الكثير من الناس اليوم إلى السجون، وقبوعهم داخلها، …كان مرة أحد العلماء يعطي درسا لتلامذته عن داء الطمع، وكانت إلى جنبه قطة تلاعب أولادها الأربعة، وكل واحد منهم يداعب الآخر في منظر أخوي رائع، فإذا به يلفت انتباههم إليها، وقال لهم: أنظروا إلى هؤلاء الإخوة وهم يلعبون ويمرحون وليس بهم من شيء، ولكن انظروا ماذا سيحل بهم وأنا ألقي لهم القطعة من اللحم؟ فرماها بينهم فإذا بهم ينفخ بعضهم على بعض وكل واحد منهم يحاول أن تكون القطعة من نصيبه لا من نصيب أخيه، فقال لهم كذلكم يفعل الطمع في صاحبه في علاقته مع إخوانه ومع الناس جميعا، فاتعظوا.
والطمع نوعان محمود ومذموم، فالمحمود هو الذي يأتي في معنى الرجاء من الله، قال تعالى حكاية عن سيدنا إبراهيم عليه السلام: (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين)، وقال أيضا: (إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا)، فكل ما تتمنى أن يكون من نصيبك وكل ما تتمنى أن تحصله، فاقصد من أجله باب مولاك وخالقك فهو الكفيل أن تناله بعزة نفس.
والطمع المذموم انبعاث هوى النفس إلى ما في أيدي الناس، والطمع أيها الإخوة الكرام فيما في أيدي الناس انقطاع عن الله، ومن انقطع حبل وصاله مع الله فهو المخذول الخائب، فهذا وأمثاله لا يعدون أن يكونوا عبيدا لبطونهم وفروجهم وشهواتهم، وإن ما من شيء أفسد لدين المرء من الطمع في شهوات الدنيا من مال أو منصب أو جاه، ذلك أن العبد إذا استرسل مع الأمنيات استعبدته كما قال الحكيم: والحر عبدٌ إن طمع، والعبد حرٌ إن قنع، وقال آخر :أطعت مطامعي فاستعبدتني ولو أني قنعت لكنت حرًا، والطمع سبب للذل والخنوع والتواضع لأصحاب المال والتملق لهم وطلب صحبتهم والجري في مصالحهم سواء كانوا على حق أو باطل، أي أنه يصبح عبدا لهم، وقديما قيل: أذل الطمع والحرص أعناق الرجال.
ويكفي من مذامه أنه يقتل حلاوة العبادة، سأل الصحابي الجليل سيدنا علي كرم الله وجهه الإمام الحسن البصري رحمه الله: ما فساد الدين وملاكه؟ فقال الحسن: هلاك الدين وفساده الطمع، وملاكه الورع، قال علي: اجلس فمثلك من يتكلم على الناس، وقال ابن عطاء الله: السلامة في الدين بترك الطمع في المخلوقين، وقال أيضا: صاحب الطمع لا يشبع أبدا، ألا ترى أن حروفه كلها مجوفة الطاء والميم والعين.
وكثيرا ما يتطور الطمع ليصبح جشعا حقيقيا، والجشع هو شدة الطمع في شيء أو الإفراط في الرغبة والشهوة، والجشع لشيء ما هو أسوأ الحرص عليه، والنفس الجشعة هي المحبة للكسب الساعية بلهفة إلى المال والطامعة فيه فوق الحد والاعتدال، والإنسان الجشع هو الذي يأخذ نصيبه و يطمع في نصيب غيره، وهو طمع في غير حق، ورغبة في الحصول على أكثر مما قدر له، ويعتقد الكثير من الناس خاطئين أن السعادة في الحياة لها علاقة بزيادة الثراء المادي، والحقيقة أن زيادة الثراء لا تجلب السعادة كما برهنت على ذلك عدة دراسات في علم الاقتصاد وأكدت جميعها أن تراكم المادة بشكل يزيد عن المعدل الطبيعي لا يزيد من السعادة.
والباعث على الطمع والجشع كما يقول الماوردى شيئان: الشَّره، وقلة الأنفة، فلا يقنع المصاب بهذا الداء بما أوتى وإن كان كثيرا لأجل شرهه، ولا يمتنع مما منع وإن كان حقيرا لقلة أنفته، وهذه حال من لا يرضى لنفسه قدراً، ويرى المال أعظم خطراً، فيرى بذل أهون الأمرين لأجلهما مغنما، وذهب بعض الربانيين إلى أن الباعث عليه هو الشك في المقدور من الأرزاق، وقال: لو قيل للطمع من أبوك لقال: الشك في المقدور من الأرزاق، ولو قيل له: ما حرفتك؟ لقال: اكتساب الذل، ولو قيل ما غايتك: قال الحرمان.
نعم أيها الإخوة الكرام، إن الطمع في باب المال يجر صاحبه إلى الحرمان من فضائل هامة، ومَن أحب المال حتى استعبده المال لم يؤهل لهذه الرتبة، رتبة تحصيل الفضائل، فإن حرصه على جمع المال يصده عن استعمال الرأفة وامتطاء الحق وبذل ما يجب، ويضطره إلى الخيانة والاختلاق والزور ومنع الواجب والتحايل.
أيها الإخوة الكرام، أخلص ختاما إلى أن دواء الطمع وعلاجه في النزاهة، وفي الترفع عن المطامع الدنية أي رفع الهمة عن الخلق وعدم الذل لهم، قال أحد الربانيين: أيها الرجل ما قدر لماضغيك أن يمضغاه فلا بد أن يمضغاه، فكله ويحك بعز ولا تأكله بذل، فعلاج الطمع في القناعة والزهد، ففي القناعة رضى تسكن به النفس وتستريح، ودواؤه في الاستعلاء على كل ما يُذِلّ، وأن يعلم كل واحد منا متيقنا ومعتقدا أن الدنيا ليست بدار قرار وأن الآخرة هي دار القرار، والعاقل من يعمل لدار قراره لا لمراحل سفره، والحمد لله رب العالمين.