ظاهرة الرشوة والتلاعب بالمال العام أخطر داء يهدد الإدارة العمومية

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.

أما بعد فيا عباد الله، يقول الله تعالى في كتابه الكريم:” ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتاكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون”، قال المفسرون: هذا يعم جميع الأمة وجميع الأموال لا يخرج عن ذلك إلا ما ورد دليل الشرع بأنه يجوز أخذه، ويقول عز وجل في آية أخرى:”سماعون للكذب آكالون للسحت”، قال الكثير من المفسرين هو الرشوة، وروى الإمام أحمد عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما، وأتدرون معنى أن تصيب أحدنا لعنة الله؟ اللعنة هي الطرد والإبعاد عن رحمة الله والتعرض لسخطه الدائم نسأل الله السلامة.

أيها الإخوة الكرام، لقد جعل الله المال وسيلة لقيام الأفراد والجماعات، وجرم كل أوجه الكسب الغير المشروع من المحرمات، وعده من الضرورات الخمس التي جاءت الشريعة الغراء لحفظها وحمايتها من العبث والدناءات، ونهى حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم عن إعطاء وأخذ الرشوة والتوسط لها بكافة أشكال الوساطات، وكان من أول المحذرين من التلاعب بالمال العام وأكل أموال الناس بالباطل وكل أنواع الابتزازات.

هذا وإن تخليق الحياة العامة في مجتمعنا وبالشكل الذي ينشده ويتمناه كل رجل صالح في هذا الوطن العزيز، يعد من المواضيع التي تكتسي أهمية بالغة في أيامنا هذه ونحن معاشر المواطنين من سيساهم  في  التخليق والارتقاء، بتغيير سلوكياتنا وأخلاقياتنا، وذلك بتقوية الوازع الديني لدينا وإيقاظ ضمائرنا بالانتهاء عن الرشوة والتعامل بها، وعموما اختلاس المال العام أو الاستهانة به أو إتلافه.

أيها الإخوة الكرام، إن الرشوة في معناها العام تعني الإفساد، ولا شك أن الرشوة أخطر داء يصيب الوظائف العامة ويلوث شرفها وسمعتها، وإن شئتم قلتم في غير تردد: إنها أشد أنواع الفساد الذي ينخر في أجهزة الإدارة العمومية على اختلاف أشكالها وألوانها، وخاصة تلك التي تتعامل بصورة مباشرة مع جمهور الناس، ومن أجل ذلك حرمتها الأديان ولعنت الراشي والمرتشي الذي يتوسط بينهما، كما أجمعت القوانين الوضعية على تحريمها وتوقيع الجزاء على مقترفها وكل من أسهم فيها تحقيقا لمصلحة الناس ومنعا للضرر الذي يمكن أن يصيب الجماعة ونظامها وأموالها، فكيف سنتحقق بالحكامة الجيدة، وتخليق الحياة العامة، ودولة القانون في المجال الاقتصادي وظاهرة الرشوة لازالت متفشية فينا؟

أيها الإخوة الكرام، الرشوة في الغالب لا تكون إلا في الباطل، لأن صاحب الحق لا يحتاج إلى رشوة، وفي النادر يحتاجها صاحب الحق، فالرشوة إذا ما يدفع لإحقاق باطل أو إبطال حق، وتعد مصدر إثراء للموظف المرتشي دون سبب مشروع، وعلى حساب أفراد اضطروا إلى دفع ثمنها لخدمات أو أعمال، كان مفروضا عليهم القيام بها وتقديمها إلى هؤلاء الأفراد من غير أن يجبروا على دفع هذا الثمن، وتفشي هذه الظاهرة هو الذي يشوه صورة العلاقة بين المواطن وأجهزة الدولة وإدارتها.

روى الإمام مسلم في صحيحه عن عميرة بن عدي الكندي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” من استعملناه على عمل فكتمنا مخيطا فما فوق كان غلولا يأتي به يوم القيامة”، قال: “فقام إليه رجل أسود من الأنصار كأني أنظر إليه، فقال: يا رسول الله، إقبل عني عملك، أي كأنه قال: أقدم استقالتي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما لك؟ قال سمعتك تقول كذا وكذا، قال: وأنا أقوله الآن: من استعملناه منكم على عمل فليجئ بقليله وكثيره، فما أوتي منه أخذ وما نهي عنه انتهى.” والحديث ينص على وجوب اكتفاء العامل أي الموظف، بما أوجبه له الإمام من أجرة له على عمله فلا يأخذ زيادة عليها.

بالله عليكم أيها الإخوة الكرام كيف يمكن أن ندعي الإصلاح والتنمية والارتقاء بهذا الوطن إلى مستوى أفضل وظاهرة الرشوة لا زالت تعد بالنسبة للأكثرية منا أمرا طبيعيا وعاديا في قضاء الأمور صغيرها وكبيرها؟ بالله عليكم كيف يمكن أن نساير بعقليتنا هذه الإصلاحات الكبرى التي تعرفها بلادنا؟ وكيف نطمع أن نرى مجتمعنا في نهضة حقيقية ؟.

إن الخلاص من هذه الظاهرة السلبية يعود إلينا نحن المواطنين بالخصوص، فكل فرد منا تسمح له نفسه بإعطاء الرشوة من أجل قضاء أغراضه، وكل موظف تسمح له نفسه بابتزاز المواطنين ولا يقضي شؤونهم إلا بأخذها، كل واحد من هؤلاء يعد مساهما ومشاركا في تفشي الظاهرة واستفحالها، فقد آن الأوان لأن نغير سلوكنا، والمؤسف له أن هذا الداء اتخذ في مجتمعنا مسميات مختلفة، بعضه ظاهر واضح وبعضه خفي متستر، وبعضه اتخذ له أسماء أخرى يخفي بها حقيقته حتى كاد أن يصبح الأصل أو القاعدة في معاملات الناس وتصرفاتهم، وقريحة الإبداع في الخبث تزدهر كل يوم في اكتشاف وسائل جديدة ومسميات جديدة. نسأل الله تعالى أن يعصمنا بفضله عن الحرام، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله ثم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه

أما بعد فيا عباد الله، وبالإضافة إلى كون الرشوة داء خطير يفتك بالمجتمعات ويلوث الشرف ويضيع العفة والكرامة وينزع المهابة، وملعون من أصيب بها، وتنافي السلوك الإنساني وتضيع الحقوق وتقوي الباطل وتعين الظالم وعاقبتها لعنة في الدنيا وعقاب في الآخرة، بالإضافة إلى كل هذا فإنها فساد في نفسها وفي أثرها على الضمائر، فهي تنشر الفساد وتقتل الضمائر، وتخل بسير الإدارة وبالمساواة بين المواطنين أمام المرافق العامة وتضر بالمصلحة العامة.

فالرشوة تنطوي على اتجار الموظف العام بوظيفته واستغلالها لفائدته الخاصة فتتخطى-أي الرشوة- مقومات العدالة بحصول الراشي على ميزات أو خدمات يعجز عن الحصول عليها بدون الرشوة متخطيا حقوق الآخرين، فتثير الاضطرابات في العلاقات الإنسانية وتحدث إهدارا للقيم والعادات السائدة، وهكذا حدث في مجتمعنا ما يشبه التطبيع التاريخي بين المواطن العادي والرشوة، ولهذه الأسباب- أيها الإخوة الكرام-  حرم الإسلام كل أوجه الكسب غير المشروع كالرشوة والاختلاس وابتزاز أموال الغير بالباطل واستغلال الموظف لمنصبه لاقتناص أموال الناس ظلما وعدوانا، قال عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه الإمام البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر رضي الله عنهما:”الدنيا خضرة حلوة من اكتسب فيها مالا من حله وأنفقه في حقه، أثابه الله عليه، وأورده جنته، ومن اكتسب فيها مالا من غير حله، وأنفقه في غير حقه أحله الله دار الهوان، ورب متخوض في مال الله ورسوله له النار يوم القيامة”.

فمسؤوليتنا جميعا – أيها المؤمنون- تتجلى في  تنوير وتحسيس بعضنا البعض بالانتهاء عن إعطاء الرشوة ودفعها، وأن ما نستحقه من حقوق لدى المرافق العامة ينبغي أن نستوفيه من غير دفع سنتيم واحد، لهذه الخطبة تتمة سنأتي عليها في خطبة لاحقة والحمد لله رب العالمين.

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *