أفات اللسان -1-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، ونهاه عن الغيبة والنميمة والكذب وآفات اللسان، نحمده تعالى ونشكره على ما أولانا به من فضل وإحسان، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نرجو بها دخول الجنان، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المؤيد بالمعجزات والبرهان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كان شعارهم الصدق والإيمان وسلم تسليما كثيرا ما تعاقبت الليالي وتوالت الأزمان، أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، اتقوا الله في أنفسكم، وتحفظوا من آفات ألسنتكم، فإن كلامكم محفوظ عليكم، ومسجل في كتاب عند ربكم، ذلكم الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها عليكم، قال الله تعالى محذرا عباده مما يتلفظون به: “ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد”، وقال أيضا: “وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم، وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم”، وقد أمر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بالصمت إلا إذا كان الكلام خيرا، فقال صلى الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت” وقال تعالى: “لا خير في كثير من نجواهم، إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نوتيه أجرا عظيما”، وإن من علامة فقه الرجل رزانة عقله، وكمال خلقه، وتبصره في أمره، تركه الكلام فيما لا يعنيه، وعدم تدخله في شؤون غيره، إلا إذا كان خيرا يعود عليه وعلى صاحبه، ولا ينبغي لمن يؤمن بالله ورسوله أن يدس أنفه ويمد بصره ويرهف سمعه باحثا عن عيوب الآخرين ليسلقهم بألسنة حداد تشهيرا بهم، وإذاعة لما ينبغي ستره من عيوبهم، لأن الإسلام ينأى بالمسلم عن فعل النقيصة والدسيسة والوقيعة بين الإخوان، والمسلم الحق: “من سلم الناس من لسانه ويده”، والمؤمنون الصادقون هم الذين إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا “لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين”، “وإذا مروا باللغو مروا كراما” لا يشاركون فيه غيرهم من الضالين الذين يغضون من أصواتهم، ويبتعدون عن لهو الحديث، نجاة بأنفسهم، وعن مجالس السخرية والغيبة والنميمة والأكاذيب والأمور المسقطة في الهاوية خوفا من عقاب ربهم. لأن الإنسان إنسان بأخلاقه وسلوكه، وبأقواله وأفعاله، بنبله وفضله، بعفته وطهارته، بمروءته وشجاعته، بقلبه ولسانه، فلا يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ولا يخوض ويلعب مع الخائضين، ولا يلهو ويطرب مع المستهزئين الذين يكذبون بيوم الدين وبألسنتهم في أعراض الناس مشتغلين، كمن قال فيهم رب العالمين: “ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزؤا، أولئك لهم عذاب مهين”، واعلم أخي المسلم أن الصمت حكم وقليل فاعله، وهو محمود إلا عن ذكر الله، ولذلك سئل حكيم من الحكماء لم آثرت الصمت كثيرا؟ فقال: لأني لم أندم عليه قط، وقد ندمت على الكلام مرارا، ثم إن الإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيئات، ثم يحصد يوم القيامة ما زرع فمن زرع خيرا من قول أو عمل حصد الكرامة، ومن زرع شرا من قول أو عمل حصد الندامة، ومعصية القول باللسان يدخل فيها الشرك بالله وهو من أعظم الذنوب عند الله، ويدخل فيها القول على الله بلا علم وهو قرين الشرك بالله، ويدخل فيها السحر وهو من أكبر الكبائر عند الله، ويدخل فيها قذف المحصنات الغافلات، وهو كبيرة من الكبائر، ويدخل فيها الكذب والغيبة والنميمة، وهي خصال ذميمة مقيتة. وفي الصحيحين عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل أو المرأة ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة”، ولهذا أيها المسلمون كان خوف السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان من آفات اللسان عظيما، لأنهم كانوا يعلمون أن اللسان سيف ذو حدين، يقطع عن الشمال وعن اليمين، ويوقع صاحبه في نار جهنم، وفي الحكمة: لسانك أسدك، إن أطلقته فرسك، وإن أمسكته حرسك. وكان أبو بكر الصديق (ض) يمسك لسانه بيده ويقول: “هذا الذي أوردني المهالك”، وكان ابن عباس (ض) يأخذ بلسانه وهو يقول: “ويحك قل خيرا تغنم أو اسكت عن سوء تسلم، وإلا فاعلم أنك ستندم”، فقيل له يا ابن عباس لم تقول هذا؟ قال: إنه بلغني أن الإنسان ليس على شيء من جسده أشر حنقا أو غيظا منه على لسانه إلا من قال به خيرا أو أملى به خيرا”، وكان ابن مسعود (ض) يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما على الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان. وقال الحسن البصري: “اللسان أمير على البدن، فإن جنا على الأعضاء شيئا جنت وإن عف عفت. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، لقد خرجنا من مدرسة مدتها شهر كامل، إنها مدرسة الصيام، وتعلمنا كيف نحفظ ألسنتنا طوال نهار الصيام، وتعودنا تدريب أنفسنا على الإكثار من الذكر والتسبيح والإستغفار، ويجدر بنا أن نكمل هذه المسيرة بعد رمضان بحفظ اللسان، والتخلق بما كنا عليه من أخلاق ملائكية في رمضان، وإن أول شيء يضيعه الصائمون بعد رمضان هو حفظ اللسان، فاحذروا إخوتي من كثرة الكلام الذي لا فائدة فيه، فإنه يؤدي إلى قساوة القلب كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: “لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس عن الله القلب القاسي”، وفي هذا يقول سيدنا عمر بن الخطاب (ض): “من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به”، وقال محمد بن عجلان: “إنما الكلام أربعة: أن تذكر الله، وتقرأ القرآن، وتسأل عن علم فتخبر به، أو تتكلم فيما يعنيك من أمر دينك ودنياك”، واللسان ترجمان القلب والمعبر عما فيه، كما قال الشاعر: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ** جعل اللسان على الفؤاد دليلا. ولهذا إخوتي المؤمنين والمؤمنات أمرنا باستقامة القلب واللسان، قال صلى الله عليه وسلم: “لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه”، وروى الإمام أحمد في مسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا أصبح ابن آدم فإن الجوارح كلها تكفر اللسان فتقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا”. الدعاء.