ماذا بعد رمضان

الخطبة الأولى

الحمدُ لله الذي جعلَ في السَّماءِ بُروجًا، وجَعَل فيها سِراجًا وقَمرًا مُنيرًا، وهو الذي جَعَلَ اللَّيْلَ والنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أو أَرادَ شُكورًا، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَه لا شريكَ له، جعلَ لكلِّ أجَلٍ كتابًا، ولكلِّ عملٍ حسابًا، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسله الله شاهِدًا ومُبشِّرًا ونَذِيرًا، وداعِيًا إلى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وسِراجًا مُنِيرًا، بلَّغ الرسالةَ، وأدَّى الأمانة، ونصح الأُمَّة، وجاهَد في الله حقَّ جهاده حتى أتاه اليقين، صلَّى الله عليه وعلى آلِه وصحبه، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.

 

أمَّا بعدُ:

فأوصيكم ونفسي بتقوى الله – جلَّ وعلا – فهي النجاة غدًا، والمنجاة أبدًا؛ ﴿ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الزمر: 61].

أحبتي في الله

كعادته يأتي سريعًا ويمضي سريعًا، فها نحن بعد أيام قلائل سنُودِّع شهر رمضان المبارك، بنهاره الجميل، ولياليه العطرة، سنُودِّع شهرَ القرآن، والصبر والتقوى، شهرَ العِزَّة والكرامة والجهاد، شهرَ الصدقة والرحمة، شهرَ المغفرة والعتق من النار.

 

فها هو شهر رمضان قد بدأ يستعد للرحيل وبدأ يقوَّض خيامه ويفك أطنابَه، وقد أودعناه ما شاء الله أن نُودِع من الأعمال والأفعال والأقوال، حسنِها وسيئها، صالِحها وطالِحها، والأيامُ خزائنُ حافظةٌ لأعمالكم، تُدعَون بها يوم القيامة؛ ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا ﴾ [آل عمران: 30]، يُنادي ربكم: ((يا عبادي، إنَّما هي أعمالُكم أُحصيها لكم، ثم  أوفِّيكم إيَّاها، فمَن وجد خيرًا فليحمدِ الله، ومَن وجد غيرَ ذلك، فلا يلومنَّ إلاَّ نفسَه))؛ رواه مسلم.

رمضانُ سوقٌ قام ثم سينفضَّ، رَبِح فيه مَن ربح، وخَسِر فيه مَن خسر، فمَن كان محسنًا، فليحمدِ لله، وليسألِ الله القَبولَ، فإنَّ الله – جلَّ وعلا – لا يُضِيع أجْرَ مَن أحسن عملاً، ومَن كان مسيئًا فليتبْ إلى الله، فالعُذر قبل الموت مقبول، والله يحبُّ التوَّابين، نسأل الله أن يغفرَ لنا ولكم ما سَلَف من الزَّلل، وأن يُوفِّقنا وإيَّاكم للتوبة النَّصوح قبلَ حلول الأجل.

أحبتي  في الله:

بعد أيام سيولَّى شهرُ رمضان، ولا ندري أَنُدرك الشهرَ الآخر أم لا؟ ﴿ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى ﴾ [طـه: 52] فكم مِن مستقبلٍ يومًا لا يستكملُه، و كم من مؤمِّلٍ غدًا لا يدركُه!

ولنا في انقضاءِ رمضانَ  أيها الأحبة عِبرةً وعظة، فقدْ عشنا  أيامَهُ فَرِحينَ متنعمينَ بها، ها هي  تِلكُمُ الأيامُ ستنقضي  وكأَنها طيفُ خيالٍ، مضتْ تلكَم الأيامُ لِنقطَعَ بها مرحلةً مِنْ حياتِنَا لَنْ تعودَ إلينا أبدًا، وإنَّما يبقى لنا ما أودعنَاهُ فيها مِنْ خيرٍ أو شرٍّ.

أيُّها الأحبَّة في الله:

إذا تولَّى ربيعُ الطبيعة، خلَّف وراءَه في الأرض الخصْبَ والنماء، والخضرةَ والنضارة والأنداء، والأنسامَ اللطيفة، فيرتع في خَيْره الإنسانُ والحيوان سائرَ العام كُلِّه، وشهر رمضان كان بحق ربيعًا وواحة خضراء، وحديقة غنَّاء، يتمتَّع فيها الصائم بملذَّات الحس، ومسرَّات النفس، وكان ذخيرةً للنفوس المؤمنة، تتزوَّد فيها بوقود الطاعة، وتتغذى بزاد التقوى زادًا يقويها ويبلغها بقيةَ العام، حتى يعودَ إليها.

لقد كان هذا الشَّهرُ الفضيل  ميدانًا لتنافُسِ الصالحين بأعمالهم، ومجالاً لتسابُقِ المحسنين بإحسانهم، وعاملاً لتزكية النفوس وتهذيبها وتربيتها،  فهل نحن مستعدون للحفاظ على هذا المكتسب ؟   هل نحن مستعدون للاستمرار على هذا النهج ؟

قد يسأل سائل ما الحكمة من هكذا أسئلة ، ولكن الدافع إلى التساؤل هو ما نراه وما نشهد بأم أعيننا من  بعض الناس ،  الذين ما إن يخرج  رمضان حتى يخرجون من الواحة إلى الصحراء، ومن الهداية إلى التِّيه، ومِن السعادة إلى الشقاوة. لذا كان الناس بعدَ رمضان على أقسام، أبرزها صِنفان، وهما جِدُّ مختلفَيْن:

صِنف تراه في رمضان مجتهدًا في الطاعة، فلا تقع عيناك عليه إلاَّ ساجدًا أو قائمًا، أو تاليًا للقرآن أو باكيًا، حتى ليكاد يُذكِّرك ببعض عُبَّاد السلف، وحتى إنَّك لتشفق عليه من شِدَّة اجتهاده وعبادته ونشاطه.وما أن ينقضيَ الشهرُ حتى يعودَ إلى التفريط والمعاصي، فبعدَ أن عاش شهرًا كاملاً مع الإيمان والقرآن وسائر القُربات، يعود إلى الوراء مُنتكسًا ، وهؤلاء هم عبادُ المواسم، لا يَعرفون الله إلاَّ عند المواسم، أو عندَ نزول النِّقم بساحتهم، فإذا ذهبتِ المواسم أو زالت النقم، وحُلَّتِ الضوائق، ذهبتِ الطاعة مُولِّيةً، ألاَ فبِئسَ قومٌ هذا دِيدنهم”

فيا تُرى ما الفائدة إذًا من عبادة شهر كامل إن أتبعتَها بعودة إلى سلوك شائن؟!!

فالذين في قلوبهم مرضٌ وفي إيمانهم ضعف، هؤلاء يُودِّعون في رمضان قيدًا ثقيلاً غَلَّهم عن شهواتهم الخسيسة، فهم يفرحون لذَهابه فرحَ السجينِ إذا أُطلق، والمحرومِ إذا نال،

أما  الصِنفٌ الثاني ،  فهو صنف نقيٌّ نقاءَ رمضان، صفيٌّ صفاءَ الصيام، زكيٌّ زكاة رمضان، قوم يتألَّمون على فراق رمضان؛ لأنَّهم ذاقوا حلاوةَ العافية، فهانت عليهم مرارةُ الصبر؛ لأنهم عَرَفوا حقيقة ذواتِهم وضعفِها وفقرِها إلى مولاها وطاعته، وعلموا أنَّهم محتاجون إلى ربِّهم؛ لأنهم صاموا حقًّا، وقاموا شوقًا، فلِوداعِ رمضان دموعُهم تدفق، وقلوبهم تشقَّق، فأسيرُ الأوزار منهم يرجو أن يطلق، ومِن النار يُعتق، وبركْبِ المقبولين يلحق.

أحبتي في الله  :

لقد أشرفنا  – بحمدِ اللهِ –  على اختتام  شهرَ الصيامِ والقيامِ والدعاء وتلاوة القرآن ، والسؤالُ الذي يستحق  منا التوقفَ عنده والتأمُّل فيه : هلْ قُبِلَ مِنَّا ذلك؟

إنَّ التاجرَ إذا دخلَ موسِمًا أو صفقةً تجاريةً، فإنَّه بعدَ انتهاء الموسمِ والصفقةِ يُصفِّي حساباتِهِ ومعاملاتِهِ، ويقلِّبُ كَفيهِ وينظرُ مبلغَ ربحِهِ وخسارتِهِ، ينظرُ هلْ رَبِحَ أمْ خَسِر؟ هلْ غَنِمَ أم غَرِم؟ هذا الاهتمامُ البالغُ نراه في تجارةِ الدُّنيا وعَرَضِهَا الزائلِ.

 

ونحنُ على مشارف انتهاء موسمٌ مِنْ مواسمِ التِّجارةِ الأخرويةَّ؛ تجارةِ الآخرةِ الباقيةِ، تجارةٍ لَنْ تبورَ، تجارةٍ تنجيكمْ مِنْ عذابٍ أليم، نحنُ على مشارف انتهاء شهرُ الخيراتِ والبركاتِ، فهلاَّ حاسبْنا أنفسنا، ووقفْنا معهَا؟  ماذا ربحنَا فيه؟ ماذا استفدْنا منه؟ ما أثرُهُ على نفوسِنا؟ ما تأثيرُه على سلوكياتِنِا؟ هلْ تُقبِّلَ منَّا؟ أمْ هلْ رُدَّ علينا؟

 

لقد كانَ السَّلفُ الصالح – رحمهم الله – حينما ينتهي رمضانُ يُصيبهم الهمُّ، ولِسانُ حالِهِم لسانُ الوَجِلِ الخائفِ أَنْ يُرَدَّ: هلْ تُقبِّلَ منَّا؟ فهمْ كما وصفَهم الله بقوله: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [المؤمنون: 60 – 61]، يعملونَ الأعمالَ، ويخافونَ أنْ تردَّ عليهم، قالت عائشة – رضي الله عنها -: يا رسولَ اللهِ، ﴿ الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ﴾ هو الذي يسرِقُ ويَزنِي، ويَشربُ الخمر، وهوَ يَخافُ الله – عزَّ وجلَّ؟ قال: ((لا يا ابنةَ الصِّدِّيقِ، ولكنَّهم الذينَ يُصلُّون ويصومونَ ويتصدَّقون، وهمْ يخافونَ أَلاَّ يُتقبَّلَ منهم))؛ رواه أحمد والترمذي.

 

أحبتي في الله

ها هو رمضان قد انقضى وكم سينشرح القلب إذا ما الناس على العبادةِ استقاموا، وعلى عملِ الخيرِ والبرِّ استمرُّوا وداموا ، وعلى جليلِ الطاعةِ داوموا، ولشهوات النفس وزلاتها قاوموا  . وهذا ديدنُ المؤمنين ، فالمؤمنُ لا يعرفُ العبادةَ في زمنٍ، ثم ينفكُّ عنها، أو ينشطُ لها في أوان، ثم يَهجرُها، إذ المرادُ من العبدِ ما قصدَه الله من عباده فيما خَلقَهم له أن يَعبدوه وحده لا شريكَ له، وأنْ تدومَ عبادتُهم له؛ قال الله – تعالى -: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162] ، وقال – تعالى -: ﴿ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 71]، وقال – تعالى -: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 999].

 

فليس للعبادةِ والاستقامةِ تاريخُ صلاحية، أو أوانُ انقطاع، أو زمنُ نهايةٍ، قبلَ أَنْ تضعَ الرُّوحُ عصى الترحالِ، أو تُسلِمَ الحالَ إلى باريها.يقول الله – تعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت: 30]، هكذا يكونُ المسلِمُ مستمرًّا مداومًا متابعًا،  يعبدُ ربَّه في رمضانَ وفي سائرِ الشُّهور، وفي كل مكان  فرَبُّ الأزمنةِ واحدٌ، وربُّ الأمكنةِ واحدٌ، فلا بدَّ من المضي على الخيرِ والصلاحِ الذي عَمِلنَاه في رمضان؛ قالَ الله – تعالى -: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا ﴾ [هود: 112]، وقال – تعالى -: ﴿ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ﴾ [فصلت: 6]، وقالَ النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم- لرجلٍ جاءَه يطلبُه النصيحةَ، ويستهديهَا: ((قلْ: آمنتُ بالله، ثم استقم))، ليس في  الدِّين راحةٌ، أو إجازةٌ، أو انقطاعٌ، فقد قيل للإمامِ أحمد – رَحِمهُ الله -: يا إمامُ، متى الراحة؟ قالَ: عندَ أوَّل قدمٍ نضعُهَا في الجنَّة.

 

أخي في الله ، أختي في الله :

تخيَّلْوا  تاجرًا جمعَ أموالاً وعقارًا ودُنيا، وهوَ في جَمعِهَا مُجِدٌّ ومجتهدٌ ساهر بالليل والنهار ، ثم  بعد أن نَمت تجارته واستقر حاله ووصل مراده وبلغَ قمَّةَ الهرم واستوفى العِزَّةَ والجاهَ والنوال، دب فيه الكسل واللامبالاة فامتدت يد  اللصوص والعابثين  إلى خزائنه وأمواله   ، وتعرضت  للقوارض والعوادي دونمَا حِفظٍ أو حِراسةٍ أو مُلازمةٍ، حينها ستضيع  أموالُه وأملاكُه التي رَبِحها بعد طول عناء ومشقة وحرص وسهر ،  لأنَّه ما حافظَ عليها.

فكذلكَ هو حال مَنِ اكتسبَ أعمالاً وطاعاتٍ وحسناتٍ في رمضان، فاجتهد وصام وقام  ونهى النفس عز الهوى وقاوم وسوسة الشيطان وهزم شهواته ، فإذا لم يحرُسَها بالاستقامةِ، و لم يلازمها بقفلِ المداومَةِ، ولم َيجْعَلْها في حِرْزِ الاستمرار، سوف تضيع ويذهب تعبه وصيامه وقيامه سدى وتصبح هباءً منثورًا.

فما بالُ الكثيرين ينصرمونَ وينصرفونَ عن صالحِ الأعمالِ بعدَ انصراف رمضان؟!

مَا بالُ أقوامٍ يُقبلونَ في رمضانَ على الطاعةِ والبرِّ، فإذا انسلخَ رمضانُ انسلخوا مِنْ كُلِ شيءٍ؟!.

ترى أين  الذين يعمرون المساجدَ في رمضان، ويزدحمون في ليلةِ السابعٍ والعشرين، وختم القرآن فلا ترى لهم اثرا بعد انقضاء شهر الغفران ؟!

ترى أين تختفي الأصواتُ المدويةُ بتلاوةِ القرآن  في رمضان ؟! وأينَ يغيب  الذينَ يتكاثرون على المساجدِ ودور العجزة والأيتام ؟

نعوذُ بالله مِنَ العمى بعدَ البصيرة، ومن الضلالِ بعد الهدى، وإنَّ تلْكُمْ لمأساةٌ كُبرى، وخسارةٌ عُظمى أنْ يبنيَ الإنسانُ ثم يهدم، وأَنْ يستبدلَ الذي هو أدْنى بالذي هو خيرٌ.

فيا أيها الصائمونَ القائمون، الداعونَ المتصدِّقون في رمضان، لا ترجِعُوا بعدَ الجماعةِ في المسجدِ إلى الصلاةِ في البيوتِ فُرادَى، ولا بعدَ القيامِ مع الإمامِ في الصلاةِ إلى القيامِ على الشاشة، والسَّهَرِ الحرام.فحذارِ حذارِ مِنَ النُّكوصِ على الأعقابِ، حذارِ – يا عبد الله – بعدَ أَنْ كنتَ في عدادِ الطائعين، وحزبِ الرحمنِ المفلِحين، فأُسبِلَ عليكَ لباسُ العفو والغفران، أَنْ تخلَعهُ بالمعصيةِ فتكونَ من حِزْبِ الشيطان.

 

إنَّني أقولُ لِمنْ صاموا وقاموا وتصدَّقُوا، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 33]، لا تُبطلوا صيامَكم وقيامَكم، ودعاءَكُم وإنفاقَكُم في رمضان بتَرْكِ الطاعةِ فيما بعدَه، فكما أَنَّ الحسناتِ يُذهبنَ السيئات، فكذلكَ السيئاتُ تَقضِي على الحسنات.

فإيَّاكم عبادَ الله، أن تكونوا مِن القَوم الذين لا يعرفون الله إلاَّ في رمضان، ولا يرتادون المساجدَ إلاَّ في رمضان . ولا يتصدقون الا في رمضان  ولا يتقون أعراض الناس الا في رمضان ولا ينتهون عن اللغو والفواحش والمنكرات الا في رمضان،  ولا يصِلون الأرحام  ولا يبرون بوالديهم الا في رمضان ولا يكفون عن الزنى والخيانة وشرب الخمور  الا في رمضان ،  ولا يتأففون عن أكل أموال الناس بالباطل الا في رمضان ولا عن  أكل  السحت والحرام الا في رمضان …

فليس  رمضان هو وحده شهر الطاعة والعبادة والغفران ،  وليس رمضان وحده هو سجن المعصية والرذيلة، حتى إذا ما انتهى رمضانُ تحكَّمت في بعض الناس الرذائل وتولَّى قيادتَهم الشيطانُ، وما أولئك بالمؤمنين؛ ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الأنفال: 2- 44].

 

فلئن انتهى موسمُ رمضان، وانقضى موسمُ الدعاءِ والقيام، فبَين أيدِينا مواسمُ متعدِّدة، وفُرصٌ متوالية، بين أيدِينا موسمٌ يتكرَّرٌ في اليومِ واللَّيلةِ خمسَ مرَّات؛ الصلواتُ الخمس، فهلْ ستحافظ عليها؟ يقول – جلَّ ذِكْرُه – ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ [البقرة: 238].

عن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما -: أنَّ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: ((مَن حافَظَ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة، ومَن لم يحافظْ عليها لم يكن له نورٌ ولا برهانٌ ولا نجاة، وكان يومَ القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأُبَيِّ بن خَلَف))؛ رواه أحمد والطبراني وابن حبان.

ولئن انتهى قيامُ رمضان، فإنَّ القيام – بحمد لله – لا ينتهي، فهناك الوتر والتهجد، وقيام الليل قال – تعالى -﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ [الإسراء: 79] ، ويقول – عليه الصلاة والسلام -: ((أفضلُ الصلاة بعدَ الفريضة صلاةُ اللَّيْل))؛ رواه مسلم.

بين أيدِينا لحظاتُ الأسحار، حينَ يقومُ الإنسانُ الليلَ، بين أيدِينا ساعةُ الإجابةِ في ثلثِ اللَّيلِ الأخير، بين أيدينا موسمٌ أسبوعيٌّ، وهو صلاةُ الجمعة، وفيه ساعةٌ لا يوافِقُها عبدٌ مسلمٌ يسألُ الله شيئًا إلاَّ أعطاهُ إيَّاه.

ولئن انتهى صيامُ رمضان، فإنَّ الصيام – بحمد الله – لا ينتهي، فبين أيدِينا صيامُ البيضِ، والاثنينِ والخميس؛ قال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الأعمال تُعرَض فيها على الله، وأُحبُّ أن يُعرض عملي وأنا صائم))؛ رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وصحَّحه الألباني في “الإرواء”، وأوصى – صلَّى الله عليه وسلَّم – أبا هريرة – رضي الله عنه – بصيام ثلاثةِ أيَّام مِن كلِّ شهر، وقال: ((صَومُ ثلاثةِ أيَّام من كلِّ شهر صومُ الدهر كلِّه))؛ متفق عليه.

وإنَّ مِنْ متابعةِ الإحسانِ بعدَ رمضان صيامَ السِّتِّ من شوال، ندبَنا إليها رسولُنا – صلَّى الله عليه وسلَّم – كما في صحيحِ مسلمٍ عَنْ أبي أيوب الأنصاري – رضي الله عنه – قال: قال رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَنْ صامَ رمضانَ، وأتبعهُ ستًّا مِنْ شوالَ، كانَ كصيامِ الدَّهرِ كُلِّهِ))،

ووقتُها في شوال، وهي مستحبةٌ وغيرُ واجبةٍ، ويصحُّ صَومُهَا متفرقةً في أوَّل الشهر ووسطه وآخره، والأَولى المبادرةُ بالقضاءِ قبلَ صيام الست؛ قال – تعالى -: ﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾ [طه: 84].

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم .

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين, وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله خير من صام وقام، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أحبتي في الله

بما أن هذه الجمعة هي الأخيرة في شهر رمضان الكريم  وبما أننا سنستقبل أن شاء الله عيد الفطر السعيد أعاده الله علينا وعلى جميع المسلمين بالسعادة والعزة والخير والبركات والمجد والعودة الحقة إلى دين الله عز وجل ،  ارتأيت أن أذكر  نفسي وإخواني المسلمين بجملة من الآداب والسنن مع التنبيه على بعض البدع والمعاصي التي تقع في العيد دون إغفال إخراج زكاة الفطر قبل صلاة العيد فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد العون والسداد :
عليك أخي المسلم بالحرص على إخراج زكاة الفطر التي جعلها الله عز وجل طهرة للصائم من اللغو والرفث قبل صلاة العيد.واحرص على أدائها من طعام قوت أهل بلدك تلبيةً لتوجيه نبيك حيث فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ  وقد حددت نقدا هذه السنة في 15 درهما للفرد

وأما أحكام عيد الفطر و آدابه :

فأولها التكبير يوم العيد ويبتدأ من ثبوت العيد وينتهي بصلاة العيد .
وقد قال الله تعالى (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة الآية185).
2) الاغتسال لصلاة العيد ولبس أحسن الثياب والتطيب لذلك .

3) الأكل قبل الخروج من المنزل على تمرات أو غيرها قبل الذهاب لصلاة عيد الفطر .

4) الجهر في التكبير في الذهاب إلى صلاة العيد .

5) الذهاب من طريق إلى المصلى والعودة من طريق آخر .

6) صلاة العيد في المصلى هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحرص عليها وادع لها ، وإن صليت في المسجد لسبب أو لآخر جاز ذلك .

7) اصطحاب النساء والأطفال والصبيان دون استثناء و العواتق وذوات الخدور من النساء كما جاء في صحيح مسلم عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ أَمَرَنَا تَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُخْرِجَ فِي الْعِيدَيْنِ الْعَوَاتِقَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ وَأَمَرَ الْحُيَّضَ أَنْ يَعْتَزِلْنَ مُصَلَّى الْمُسْلِمِينَ .

8) أداء صلاة العيد

9) الاستماع إلى الخطبتين بعد صلاة العيد .

10) التهنئة بالعيد فعن جبير بن نفير قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقى يوم العيد يقول بعضهم لبعض : “تقبل منا ومنك”

واحرص أخي المسلم على اجتناب البدع والمنكرات في كل حين إذ ” كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار” كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

أحبتي في الله  : إننا نشكر الله – عز وجل – على ما أنعم به علينا من إتمام صيام رمضان وقيامه  ونسأله تعالى الذي وفقنا لذلك أن يوفقنا لقبوله ، نسأله تعالى أن يوفقنا لقبول صيامنا ، وقيامنا ، وسائر أعمالنا

اللهم أمتنا على أحسن الأعمال ،  وابعثنا على خير الخلال يا ذا الجلال والإكرام ، وفقني الله وإياكم لاغتنام الأوقات ، وعمارتها بالأعمال الصالحات ، ورزقنا اجتناب الخطايا والسيئات  وطهرنا منها بمنه وكرمه إنه واسع الهبات .

هذا وصلوا وسلموا على النبي المجتبى ورسول الهدى محمد، فقد أمركم الله بذلك فقال -سبحانه وتعالى-

( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً )[الأحزاب: 56].

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْــدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَـــةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْمــاً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.  اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.  اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَـــــلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.  اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.

اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا  من الفتن والمحن ، اللهــم وفق وانصر ملك البلاد أمير المؤمنين محمد السادس لما تحــب وترضى وخذ بناصيته للبر والتقوى، واحفظه في ولي عهــده الامير الجليل مولاي الحسن  وشد أزره بأخيه المولى رشيد وأسرته وشعبه . اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخــرة.اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسـن عبادتك واجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه..

اللهُمَّ إنّا دعوناكَ ، فاسْتَجِبْ لنا دُعاءنا ، فاغفر اللهم لنا ذنوبنا ، وإسرافنا في أمرنا ، وتوفّنا وأنت راضٍ عنّا، اللهمَّ من أحييته منّا فأحيهِ على الإسلام ومن توفّيتهُ منّا فتوفَّهُ على كاملِ الِإيْمان، اللهمّ لا تدعْ لنا في يومنا هذا ذنّبًا إلا غفرته ولا مريضًا إلا شفيته  ولا مستدينا الا قضيت دينه ، يا أرحم الرّاحمين، يا أرحم الرّاحمين، يا أرحم الرّاحمين، اللهم استُر عوراتنا وءامن روعاتنا واجعلنا من عبادك الصّالحين، اللهُمَّ اجعلنا من عبادك المتخلقين بأخلاق نبيــك المصطفى وشمائله العظيمة. اللهُمَّ أكرمنا برؤية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم في المنام وشفِّعه فينا، اللهُمَّ اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، إنَّك سميع قريبٌ مجيب الدعوات.

رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الدكتور عبد الهادي السبيوي

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *